بينما كان رئيس المقر في فرع أديّاك، مارناك، يصغي إلى صرخات الرجل، كانت لايلا ويُوستار يواصلان السير في الاتجاه الذي أشار إليه السيكر.
قال يُوستار:
“لستُ أفهم تمامًا ما يقصده مارناك بـ التأثير.”
رفعت لايلا عينيها نحوه، وقد كانت طوال الوقت تحدّق في إبرة السيكر.
“أليس يقصد ذلك الرجل الذي رأيناه قبل قليل؟”
“قد يكون كذلك لكنني أرى أن الحكم بوجود تأثير من حالة واحدة فقط أمر غير دقيق لا أعلم إن كان الأعضاء لم يتمكنوا بعد من تحديد الوضع بدقة، أم أن هناك شيئًا لا يريدون إخباري به.”
سألت لايلا:
“وهل يوجد من يحاول إخفاء شيء عنك؟”
ابتسم يُوستار بتلك الابتسامة الغامضة التي لا تكشف عن مكنونها.
“الجميع يفعل وأنتِ يا لايلا، ألا تُخفين شيئًا عني؟”
تقطّبت حاجبا لايلا قليلًا، ثم خفضت نظرها برهة من دون أن تبطئ خطواتها، وعادت لتلقي عليه نظرة سريعة.
“لا أظن أنني أفعل.”
“شرفٌ كبير لي إذًا.”
كان قوله غريبًا فما السبب الذي قد يدفعها لإخفاء أمر عنه أصلًا؟ على الأرجح لن يحدث ذلك أبدًا، فهي تحيا حياة لا تملك فيها ما يستحق الإخفاء، ولا ما يمكن إخفاؤه.
“على ذكر ذلك…”
خفضت لايلا صوتها فجأة وهي تتلفّت حولها، وكأنها تهمس بسرّ:
“ألا تلاحظ أن الناس يحدّقون بي؟”
“ذلك بسبب ما ترتدينه.”
نظرت لايلا إلى زيّها الرسمي، فأضاف يُوستار:
“زيّ تينتينلا يوضّح الكثير، وخصوصًا في بلدةٍ توجد فيها إحدى فروعها تأثيره هنا أقوى طالما ترتدين هذا الزيّ، فلن يجرؤ أحد على مضايقتك لن يجرؤوا على ذلك إطلاقًا.”
“لأنه يثبت أنني أنتمي إلى فرسان المنظمة؟”
أومأ يُوستار وأردف:
“ليست فرقة فرسان عادية كما قلتُ، تينتينلا منظمة خاصة قد لا يكون لها معنًى كبير في أماكن منعزلة مثل ريزيكوس، لكنها في أماكن أخرى مختلفة تمامًا.”
ريزيكوس… تمتمت لايلا بالاسم في داخلها شعرت فجأة وكأنها غادرت ذلك المكان منذ عقود، رغم أنه لم يمضِ سوى أيام قليلة إحساس غريب، إذ لم تزل تتذكر أنها كانت هناك قبل وقت قصير فقط.
“يُوستار، هل لي أن أسألك شيئًا؟”
“بكل تأكيد.”
ضيّقت لايلا عينيها قليلًا وهي تفكر بما ستقوله لقد أرادت أن تسأله هذا السؤال منذ زمن، لكن كل مرة كانت تُفوّت الفرصة لحدوث أمر ما.
“لقد عشتُ في ريزيكوس طوال حياتي… ودائمًا ما شعرت أن في البلدة أمرًا غير طبيعي.”
ارتسمت على وجه يُوستار ابتسامة توحي بالاهتمام، جعلته يبدو كأنه تاجر على وشك الدخول في صفقة مسلية.
“وكيف ذلك؟”
عضّت لايلا شفتها السفلى، وعادت تغرق في التفكير.
“لقد ذكرتُ لك ذلك من قبل، وإن لم أفسّره بدقة… لكن ريزيكوس، كيف أقولها… شعرتُ وكأن البلدة نفسها تخفي وجودها عن العالم، كأننا نعيش داخل حفرةٍ هائلة.”
قالت كلماتها متقطّعة، ثم نظرت إليه بخجل.
“آسفة… لا أحسن الشرح.”
“لا، لقد فهمت.”
كانت إجابته سريعة لدرجة بدت معها مبهجة.
“حقًّا؟” قالت لايلا بنبرة دهشة خفيفة.
تُرى… هل شعر هو أيضًا بذلك الإحساس الغريب بالانعزال، ذلك الإحساس الذي رافقها طوال حياتها في ريزيكوس وجعلها لا تشعر بالأمان؟
وهل يمكن أن يكون قد أحسّ به بعد أقل من يوم واحد هناك فقط؟
داعب يُوستار ذقنه بأصابعه الطويلة وقال:
“أما قلتُ لكِ من قبل إن الأمر يكاد يكون معجزة أن ريزيكوس لم تظهر فيها أي سنيك قط؟”
هزّت لايلا رأسها بالإيجاب كانت تتذكر جيدًا أنه قال هذا حين تحدّث عن عزلة البلدة.
أكمل يُوستار:
“والآن، بعد أن أصبحتِ تدركين سبب حدوث الـسنيك فأنتِ تعلمين لماذا قلتُ ذلك ذلك الإحساس الغريب بالعزلة، وكأنكم تعيشون في حفرة عميقة، سببه طبيعة البلدة نفسها لقد ظلت راكدة وضيقة لزمن طويل جدًّا، غارقة في ذاتها كبركة لا يلتفت إليها أحد أماكن كهذه مثالية لظهور الـسنيك.”
“تقصد أنها مشكلة متعلقة بالناس أنفسهم؟”
“معظم المشكلات يصنعها الناس عزلة سكان القرى الصغيرة غيّرت طاقة الجوّ هناك ربما يسهل فهم الأمر إذا شبّهته هكذا: تخيّلي صندوقًا صغيرًا مملوءًا بهواء نقي، ثم يُضَخ فيه القليل من غاز سامّ شيئًا فشيئًا…”
“وفي النهاية… يمتلئ الصندوق بالغاز.”
التقطت لايلا طرف الحديث، فأومأ يُوستار كأنه يقول: بالضبط.
“كانت ريزيكوس قد وصلت إلى تلك المرحلة لم يتبقَّ فيها إلا القليل جدًّا من الهواء النقي في الحقيقة، عندما وطأتُها أول مرة شعرت بالدهشة.”
وكان ذلك صادقًا تمامًا لولا أنه جاء بحثًا عن لايلا، لما خطر له أن يزور البلدة أصلًا ولو علم بوجود سنيك هناك، لما استطاع تجاهل الأمر في النهاية…
“إذًا…”
لكن قبل أن تُكمل لايلا كلامها، توقف الاثنان فجأة حين سمعا وقع أقدام خلفهما شخص واحد… لا، اثنان… بل أقرب إلى ستة أشخاص يركضون باتجاههما.
“لايلا.”
أمسك يُوستار بحذر بمعصمها، وجذبها نحو جانب الطريق، فيما وضعت يده الأخرى على مقبض سيفه تحسبًا.
كانوا يقتربون أكثر فأكثر وعندما أصبح بإمكانها تمييز ملامحهم، أدركت لايلا أن أعمارهم وأجناسهم متباينة: نساء، رجال، شيوخ، وشباب بدوا جميعًا كأنهم من سكان البلدة.
لكن جميعهم كانوا يبتسمون ابتسامة عريضة نحوها ونحو يُوستار.
وفي اللحظة التي مرّوا فيها أمامهما، حبسَت لايلا أنفاسها دون وعي كانت وجوههم الملتوية تبدو وكأنها تضحك وتصرخ في الوقت نفسه، كأن أحدًا جذب شفاههم بالقوة ليرسم تلك الابتسامة.
“الطارد قادم.”
همس رجل وهو يمرّ بجانبها.
“الطارد آتٍ.”
قالتها امرأة عجوز تركض خلفه عندها لاحظت لايلا أن إحدى ساقيها كانت اصطناعية من الخشب، لكنها رغم ذلك واصلت الركض مترنّحة… وهي تبتسم.
ولمّا غابوا عن الأنظار في الجهة المقابلة للطريق، أطلقت لايلا أنفاسها المحبوسة أما يُوستار فظل يحدّق بوجه متصلّب في الاتجاه الذي اختفوا فيه، قبل أن يرفع شعره الطويل ويقيّده.
“علينا أن نتبعهم.”
بدأ الاثنان بالسير بخطى أسرع من ذي قبل لم يعد هناك أحد يركض خلفهما، لكن من الصعب كبح شعور الوخز الذي يعتري مؤخرة العنق مرارًا.
قالت لايلا:
“أولئك الأشخاص قالوا: الطارد قادم.”
فأجاب يُوستار:
“سمعتُ ذلك أيضًا يقولون نفس ما قاله ذلك الرجل.”
سألت لايلا:
“هل يمكن أن يكون ذلك الطارد شيئًا خرج من الـسينك؟”
كان الاحتمال كبيرًا… استعاد يُوستار ما قاله مارناك: عندما يقترب الأعضاء لمسافة معينة، يختفي الـسينك عن الأنظار.
ظل يفكر في ذلك حتى نسي أن يجيب على سؤال لايلا.
سينك يختفي عن الأنظار؟ لم يسبق له أن رأى مثل ذلك قط فمنذ أن بدأت ظاهرة الـسينك وظهرت من أجلها منظمة “تينتينلا” للتصدي لها، شهد يُوستار شتى أنواع الأمور العجيبة، لكن سينك يختفي ويظهر مجددًا… تلك كانت سابقة أولى.
السينك يملك إرادة، هكذا فكّر يُوستار.
لكن تلك الإرادة تنطوي على رغبةٍ ما… لو شبَّهها بشيء، فهي أشبه ما تكون بـ”شَهية” لا تُشبَع أبدًا؛ ينصب الفخاخ ويستدرج الفريسة ليفترسها بلا توقف تلك هي كل الإرادة التي يظهرها السينك.
لكن، ماذا لو لم يكن الأمر كذلك؟
ماذا لو كان هناك ما هو أدهى وأمكر؟
أمر مزعج حقًّا…
بعد أن سارا طويلًا، لم يعثرا على أي أثر لأولئك الذين ركضوا أمامهما وحين بدأ نَفَس لايلا يعلو، خفّف يُوستار من سرعته قليلًا.
قال:
“انظري إلى الـسيكر، لايلا هل الاتجاه صحيح؟”
أخرجت لايلا الـسيكر من جيبها وهي تلهث، ثم أومأت برأسها.
“وماذا عن الإبرة؟ ما لونها؟”
نظرت لايلا مجددًا في الجهاز، وقد تغيّر لون الإبرة قليلًا.
“أظنها… خضراء فاتحة.”
“جيد هذا يعني أننا اقتربنا أكثر من السينك، فكلما اقتربنا ازداد اللون خضرة لكن…”
تنفّس يُوستار بعمق وهو يتلفت من حوله لم يعد هناك أثر لأصوات الأمواج أو رائحة الملح التي تعبق في قرية الصيادين، بل كانا وسط غابة، نصف أشجارها ميت ثم…
قالت لايلا بصوت مبحوح:
“إنها أنقاض.”
وأضافت متأملةً:
“المنازل…”
بين الأشجار الميتة كانت هناك بقايا بيوت… أو بالأحرى، ما كان يومًا بيوتًا وكأن شيئًا هائلًا سقط من السماء وجرف بيوت هذه التلال جميعها في ليلة وضحاها.
اتجه يُوستار نحو أقرب أنقاض منزل كان العشب الشائك السام قد غطّى المكان، لكنه لم يعبأ به.
كان المنزل قد تهدم نصفه، وأساساته تكاد تتعفن بالكامل أما ما تبقى من الأثاث فكان متفحم اللون، متآكلًا، بحيث يستحيل معرفة شكله الأصلي.
سألت لايلا:
“ما الذي حدث هنا؟”
هز يُوستار رأسه:
“لا أعلم يا لايلا… لكن يبدو أن علينا العودة إلى الفرع للتحقيق من المؤكد أن هناك سينك قريبًا من هنا، فلنتأكد من موقعه، ثم نعود اليوم.”
قالت لايلا بقلق:
“لكن… ماذا عن أولئك الأشخاص؟”
انكمشت شفتا يُوستار إلى الداخل رغم أنه أرهف سمعه حتى النهاية، لم يلتقط حتى وقع خطوات فأر.
مع أنه لم يكن هناك أي مفترق طرق، إلا أن أثر تلك المجموعة الغريبة اختفى تمامًا، وكأنهم تبخروا في الهواء.
قال:
“إن وجدنا السينك، قد نتمكن من تتبع أثرهم أيضًا لنبحث عن السينك أولًا.”
أومأت لايلا وهي تسعل سعالًا خفيفًا؛ ربما من الغبار، أو بسبب هواء الساحل الغريب عنها، إذ شعرت بحكة في حلقها وصعوبة في التنفس.
وفجأة، وبينما كانت تكتم سعالها، صدر صوت خافت من خلف أطلال المنزل المتعفن.
تحولت أنظار لايلا ويُوستار في لحظة واحدة إلى مصدر الصوت.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 39"