لايلا حدّقت بصمت في بصمة اليد البارزة الوضوح المرأة نفضت مئزرها بضع مرات أخرى، لكن الأثر لم يختفِ، بل بدا وكأنه ازداد وضوحًا.
قالت المرأة متذمرة:
“حين تكون الحظوظ سيئة، فكل شيء يسير على هذا النحو لقد وضعت قبل قليل خمس بطانيات في الغسيل، والآن يبدو أن عليّ الغسل من جديد!”
ثم أمسكت السلة، واستدارت مبتعدة كما لو لم يعد لديها ما تفعله مع لايلا هبّت الريح فارتفع مئزرها قليلًا، فكشفت مجددًا عن تلك البصمة.
خمس أصابع مفرودة تمامًا، وعلى المئزر المتمايل، بدت وكأنها تلوّح للايلا مودّعة.
“لايلا ماذا تفعلين؟”
عندما سمعت صوت يوستار يناديها، التفتت لايلا كما لو أنها استيقظت من حلم وحين رأى يوستار ملامح وجهها الغريبة، سألها:
“ما الأمر؟ هل رأيتِ شيئًا غريبًا؟”
شيئًا غريبًا؟ هي ترى ذلك كل يوم، فكرت لايلا ثم هزّت رأسها، وأعادت نظرها إلى جهاز السِّيكَر كانت الإبرة لا تزال تشير إلى الشمال الغربي.
قالت بهدوء:
“لا شيء، لنذهب.”
ثم بدأت بالسير متقدمة.
***
مارناك، رئيس الفرع الرابع من منظمة تنتينيلا في أديـاك، كان كلما وجد وقتًا فراغًا، انزوى في معبده الصغير الخاص ليؤدي صلواته.
كان في الأصل كاهنًا مخلصًا، وأمنيته الكبرى في الحياة أن تُحل هذه المشكلة الغامضة المرتبطة بـ”التزامن” في أقرب وقت، ليعود إلى موقعه ككاهن عادي.
“سيدي الرئيس.”
حين فُتح باب المعبد، أطلق مارناك تنهيدة بالكاد تُسمع، ثم خلع رداؤه الأبيض الطويل، ونهض واقفًا.
“ما الأمر، روبسكا؟”
“ذلك الرجل… الرجل الذي جاءنا بالأمس، أمره غريب أعتقد أن عليك أن تراه بنفسك.”
كانت وجنتا روبسكا شاحبتين كأن الدم جفّ منهما، وهي التي لا ترتبك عادة أمام أي موقف كان واضحًا أن أمرًا خطيرًا قد وقع أشار لها مارناك أن تتقدمه، ثم تبعها على عجل.
“ماذا حدث بالضبط؟ قبل قليل فقط كان…”
“هادئًا، نعم لكن ما جرى كان قبل لحظات فقط لقد بدأ يثير الفوضى.”
“فوضى؟”
“إنه مرعوب.”
كان صوت روبسكا غارقًا في نبرة ثقيلة كانت تعرف جيدًا ملامح الرعب على وجوه الناس، وتعرف أصواتهم حين يصرخون قبل مجيئها إلى تنتينيلا، كانت رئيسة حراس في سجنٍ يضم أخطر المجرمين.
رافقت الكثير منهم في خطواتهم الأخيرة نحو ساحة الإعدام، وكانت تقف إلى جوارهم حين يُغطّى رؤوسهم بالقماش الأسود ومهما بدا أحدهم شجاعًا، حين يشعر بالموت يقترب منه، كان يبكي ويصرخ كطفل صغير.
حين وصلا إلى الغرفة التي وُضع فيها الرجل، قبض مارناك على يديه لا شعوريًا عيناه، اللتان كانتا تبدوان وديعتين عادة، اتسعتا وكأنهما شهدتا أبشع ما يمكن أن يراه الإنسان.
بل كان ذلك فعلًا من أبشع المشاهد في حياته… وإن لم يكن الأبشع على الإطلاق، فبلا شك يحتل المرتبة الثانية أو الثالثة على الأقل.
“أنقذوني! آاااه! أخرجوني من هنا! لا يجب أن أبقى هنا! سيمسكون بي! إنهم قادمون ليأخذوني! قادمون ليأخذونييي!”
كان الرجل مغطّى بالجروح من رأسه حتى قدميه، وكلما تحرك، تطاير الدم من جسده كانت كل الجروح من صنع يديه، فقد مزّق جلده بأظافره حتى ظهرت مواضع وردية داكنة من اللحم الحي ومع ذلك، بدا غير شاعر بالألم، يركض ويصرخ بجنون داخل الغرفة.
“الطارد قادم! إذا جاء فسيقتلني! لا، لا، أخرجوني! أخفوني! لا، لا، لا!”
شهق مارناك، وفي تلك اللحظة، التفت الرجل نحوه فجأة، واندفع قافزًا نحوه رغم أن ركبته كانت ممزقة بعمق يكاد يكشف العظم وفي قفزته، ارتطمت راحة يده الملطخة بالدم بالزجاج بقوة.
مدّت روبسكا ذراعها أمام مارناك لتحميه، ويدها تقترب من مقبض سيفها، لكن مارناك أسرع في إيقافها.
استمر الرجل في ضرب الزجاج، وكان الزجاج قويًّا لا يمكن تحطيمه بسهولة، لذلك لم يكن هناك خوف من خروجه فجأة، لكن منظر الدم الذي يتسع على سطح الزجاج كان موجعًا للنظر.
قال مارناك:
“سأدخل لأتحدث معه.”
لكن روبسكا تصدّت له فورًا:
“سيدي الرئيس، هذا مستحيل! لقد فقد عقله تمامًا، لا نعرف ما قد يفعله!”
نظر إليها مارناك بهدوء، ثم ابتسم ابتسامة وديعة، امتزجت فيها الطيبة والنية الحسنة وروح التضحية.
لم تكن روبسكا متدينة بالمعنى الحرفي، لكنها كانت تعتقد دائمًا أن الإله، إن وُجد، فلا بد أن يكون على شاكلة مارناك.
“لا بأس، رو.”
“لا، هذا خطر.”
“رجاءً، أنا قبل أن أكون عضوًا في تنتينيلا، كنت كاهنًا لو أنني ما زلت كاهنًا، هل كنتِ ستمنعينني يا رو؟”
تأملت روبسكا ملامحه لحظة، ثم قالت:
“نعم، كنت سأمنعك لا أحد يعرّض نفسه طوعًا لمجنون كهذا.”
ابتسم مارناك مجددًا، لكن هذه المرة امتزجت ابتسامته بالشفقة كانت روبسكا أحيانًا تشعر بضيق في صدرها حين ترى تلك الابتسامة، حتى إنها كانت ترغب في أن تصرخ في وجهه أو تخفيها عن ناظريها.
(الآن تمامًا أشعر بذلك) فكّرت روبسكا.
لو كان بإمكانها إغماءه في هذه اللحظة لكان الأمر رائعًا، لكنها لم تستطع مدّ يدها إليه، مهما كانت الأسباب.
“رو ابتعدي ، عليّ أن أرى هذا المسكين بنفسي.”
قالها بصوت هادئ لكنه حاسم، فلم تجد روبسكا مفرًا من التراجع لكنها أضافت شرطًا لا يمكنها التنازل عنه:
“حسنًا، لكن ستدخل ومعك أنا وإذا شعرت ولو للحظة أن هناك خطرًا عليك، فلن أتردد.”
“اتفقنا.”
همس مارناك بصوت هادئ تعلوه ابتسامة، وكان ذلك الصوت العذب يلامس وجنة روبسكا كما لو كان يداعبها:
“حسنًا يا رو، فهمت.”
أما الرجل الذي كان يضرب الزجاج ويثير الفوضى، فقد بدا أنه أنهك نفسه، فانزلق جالسًا أسفله، يواصل خدش كتفه وذراعه دخلت روبسكا بحذر، واضعة يدها على مقبض سيفها استعدادًا لأي طارئ.
وتبعها مارناك، وما إن رأى الدم المتناثر في كل أرجاء الغرفة حتى انخفض حاجباه بأسى.
“السيد دايكوك.”
ارتجف كتفا الرجل عند سماع صوت مارناك كانت عيناه تبدوان باهتتين، ونظراته ما تزال مرتعبة، لكن على الأقل لم يظهر أنه على وشك إثارة فوضى جديدة.
قال مارناك مجددًا:
“سيد دايكوك، هل تسمع صوتي؟ هل تفهمني؟”
رمش دايكوك بعينيه الغائرتين، وأومأ برأسه بصعوبة.
مدّ مارناك يده نحوه، فمدّ الرجل يده المرتجفة، وعندما رأى مارناك ما تحت أظافره المتسخة من قشور دم ولحم، ارتسمت على وجهه ملامح الشفقة.
“لا تقلق يا سيد دايكوك، أنت هنا في أمان لا أحد يمكنه أن يأتي ليمسك بك…”
“لا، أيها الكاهن! أنت لا تعرف!”
“إنه ليس كاهنًا، إنه…”
همّت روبسكا أن تتدخل، لكن مارناك وضع إصبعه على شفتيه إشارة لها بالصمت، فأطبقت فمها وعلى وجهها ملامح انزعاج.
قال مارناك:
“تحدث يا سيد دايكوك، قل لي، ما الذي لا أعرفه؟”
أمسك دايكوك بيد مارناك بإحدى يديه، وبالأخرى أخذ يخدش كتفه وعضده المجروح أصلًا، وهو يهز رأسه.
بدا وكأن الخوف يلتهمه من الداخل، وكأن شيئًا حادًّا يخترق عقله ويثير فيه ألمًا لا ينقطع.
“أنت، أيها الكاهن… أنت لا تعرف… إنه يلاحقني… أينما كنت، يتبعني…”
“ما الذي يلاحقك يا سيد دايكوك؟ أهو وحش؟ أم شيء آخر؟”
تسرب أنين من بين شفتي دايكوك المرتعشتين:
“إنه… إنه شيء شرير بحق… أيها الكاهن، إنه أشرس وأبشع ‘مطارد’ في هذا العالم… أنا… أنا لم أقل إني أريد اللعب، لكنه أجبرني على الانضمام إلى اللعبة… نعم، هذا ما حدث، بلا شك.”
“أدخلك في اللعبة؟ كيف ذلك؟”
رفع دايكوك رأسه بتبلد، لكن هذه المرة لم يكن السبب الخوف، بل ارتسمت على وجهه ملامح الاستغراب.
“لقد ضربني.”
قطّب مارناك حاجبيه.
“ضربك؟ أتقصد أنه اعتدى عليك جسديًا؟”
“لا! ليس هذا ما أعنيه أيها الكاهن! إن… إنه ذلك الشيء الذي ضربني! كما يلمس الـ‘مطارد’ طفلًا في لعبة، لمسني ثم مضى! ومنذ تلك اللحظة وهو يطاردني بلا توقف في العادة، بعد ذلك، يجب أن أصبح أنا المطارد… لكن… لكنه لا يريد ذلك يريد أن يبقى المطارد إلى الأبد، ويظل يلاحقني…”
“هل رأيتَه؟ كيف كان شكله؟ وماذا فعل بك بالضبط؟”
توقفت أصابع دايكوك المرتجفة عن خدش ذراعه، ورأت روبسكا على وجهه عودةً لذلك الرعب الغامر، رعبٍ لا يمكن وصفه، كغيوم سوداء ثقيلة غطّت ملامحه.
فتح دايكوك فمه بذهول، فتصاعدت منه رائحة نتنة، على الأرجح بسبب أسنانه المتعفنة كان واضحًا أن مزيج الخوف غير الملموس —وربما المتخيل— مع الألم الجسدي قد أوصله إلى حافة الجنون.
“رأيته… نعم، لقد رأيته كانوا أولادًا وفتيات صغارًا… التي لمستني كانت فتاة صغيرة تركت بصمة يد على سروالي، كانت أشبه بالوحل، لكنها لم تختفِ أبدًا ثم بدأت تظهر في أحلامي… لا، بل في بيتي نفسه! تحت بسطة الدرج، تحت السرير، داخل الخزانة! يا إلهي! أيها الكاهن، عليك أن تصدقني… إذا أمسك بك الـ‘مطارد’، فحينها… انتهى الأمر سيظل يلاحقك حتى تموت… أنا أعلم هذا! لذلك أرجوك، أخرجني من هنا!”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 38"