اتّسعت عينا لايلا بدهشة، ثم نظرت هذه المرة إلى مارناك كأنها تطلب منه تأكيدًا بدا وكأن الرجل ارتبك للحظة، لكنه لم يجب، ولم يكن ذلك يهمّها كثيرًا.
“سمعتَ ذلك، أليس كذلك؟ يوستار قال لي هذا بنفسه قال إنّها ليست فكرة جيّدة لقد سمعتَه، صحيح؟”
لكن مارناك لم ينبس ببنت شفة، واكتفى بالنظر بين الاثنين باضطراب كجروٍ صغير ضائع لا يعرف ماذا يفعل.
كانت لايلا على وشك أن تفقد صوابها! في الآونة الأخيرة، كانت تساورها الشكوك حول سلامة عقلها – وقد بدأ ذلك تحديدًا منذ أن التقت بـيوستار – أما اليوم، فقد شعرت حقًا وكأنها مسحورة أو مطاردة من شبح.
وضع يوستار يده بلطف على كتفها ونظر في عينيها مباشرة:
“لايلا، هل كنتِ واثقة أنّه صوتي؟”
“نعم، أنا متأكدة! كان صوتك أنت، لا يمكنني الخلط بينه وبين أي صوت آخر كان واضحًا جدًا.”
فتح يوستار فمه كأنه يهمّ بالقول شيئًا، ثم غيّر رأيه لم يكن بمقدوره أن يشرح لها كل شيء في هذه اللحظة، وربما لا يكون ذلك ممكنًا حتى في المستقبل بل بصراحة، حتى وإن أتى الوقت المناسب، فهو لا يرغب في قول شيء على الإطلاق.
“أرجوكِ، اهدئي أولًا، لايلا قد يكون هذا من آثار دوار البوابة أحيانًا… نعم، أحيانًا يرى الناس هلاوس، أو يسمعون أصواتًا غير حقيقية أليس كذلك، مارناك؟”
مارناك ارتبك بشدة فهو يعلم أن أقصى ما يمكن أن يُصاب به المرء من التنقل عبر البوابات هو الغثيان أو الدوار، وربما الإغماء في الحالات الشديدة لكنه لم يسمع يومًا عن شخص رأى أو سمع هلاوس.
غير أنه، عندما رأى نظرة يوستار ، بدا أنه من غير الممكن أن يقول لا
“نـ… نعم هذا صحيح أحيانًا يحدث ذلك.”
“حقًا؟”
سألته لايلا بتوجس، فهزّ مارناكورأسه بسرعة، ثم استدار يتظاهر بأنه يفحص الرجل في الغرفة، بينما ضمّ يديه إلى صدره وهمس بدعاء قصير يطلب فيه المغفرة.
قال يوستار:
“إن لم يكن بإمكاننا إزالة لعنة ذلك الرجل في الوقت الحالي، فإن أول ما علينا فعله هو فحص السينك وإذا أمكن، علينا تحديد السبب وإزالته هل يمكنكِ ذلك؟”
التفت إلى الرجل، وأدارت لايلا رأسها معه أيضًا
كان الرجل خلف الزجاج قد توقف عن خدش ركبتيه، وذهب ينتزع شعره خصلة تلو الأخرى، ويرتبها على الأرض في خط مستقيم.
يجب أن نتصرف بسرعة هذا ما فكّرت به لايلا إن لم يتم نزع اللعنة عن هذا الرجل، أو القضاء على مصدرها، فلا شكّ أنه سيموت هنا.
“…حسنًا أنا بخير كما قلتَ، ربما كان ذلك—”
“هلاوس سمعية صدقيني وإن لم تكوني على ما يرام، يمكنكِ تناول دواء قبل أن نبدأ.”
تظاهرت لايلا بالتقيؤ.
“مستحيل لن أتناول إي دواء ابدًا.”
***
كان موقع أديّاك، فرع تينتينيلا الرابع في ألسيك، مدينةً ساحليةً في غرب مملكة سييرو وما إن غادرا مقرّ الفرع حتى هبّت ريح بحرية قوية، تحمل معها رائحةً كريهةً لاذعة ومالحة.
“ما هذه الرائحة؟”
سألت لايلا وهي تعقد حاجبيها بتأفف.
حينها فقط تذكّر يوستار أنها عاشت طوال حياتها في جبال ريجكوس.
“إنها رائحة البحر، لايلا رائحة الملح وربما تختلط بها أيضًا رائحة الأعشاب البحرية اليابسة.”
“لم أرَ البحر قط من قبل، كنت أسمع عنه فقط.”
“عندما ننهي عملنا، سيكون بإمكانك التفرغ لمشاهدته بهدوء.”
قال يوستار ذلك وكأنه أمر سار، لكن بالنسبة إلى لايلا لم يكن أمرًا يستحق النظر إليه أكثر ما كان يزعجها هو أن الرائحة منفّرة للغاية وفجأة راودها الحنين إلى رائحة التراب العطرة وروائح النباتات اليانعة التي اعتادت استنشاقها في الجبال.
“أين يوجد سينك؟”
“آه، صحيح لايلا، هل تمدين يدك قليلًا؟”
كان سؤالًا غريبًا، لكنها امتثلت ومدّت يدها دون تردد.
تأمّل يُوستار ظاهر كفها للحظة، ثم أطلق ضحكةً خافتة، وانحنى ليطبع قبلةً خفيفة على مفاصل أصابعها، قبل أن يمسك يدها بلطف ويقلبها بحيث يكون كفها إلى الأعلى.
“لو قلت منذ البداية إنك تريد كف يدي، لكان الأمر أسهل.”
قالت لايلا بنبرة غاضبة ، فأخذ يوستار يحدّق بها مطوّلًا بعينين تنمّان عن تسلية.
ثم سألها:
“هل أزعجك أن قبّلتك؟”
“ذلك…”
حاولت لايلا الرد، لكنّها أطبقت شفتيها قليلًا قبل أن تقول باقتضاب: “ليس الأمر كذلك.”
للحظة ظنّ أنها تكذب، لكنه ما لبث أن غيّر رأيه فما أهمية قبلة على ظاهر اليد أو الأصابع؟ بل إنها ليست المرة الأولى.
ظلّ يُوستار يحدّق فيها وكأنه يقرأ أفكارها، ثم وضع شيئًا دائريًا مسطحًا برفق في راحة يدها.
وكانت هناك أيضًا خمسة عقارب سوداء بأطوال مختلفة بدا للوهلة الأولى كساعة أو بوصلة، لكن الغرض منه كان مختلفًا تمامًا.
“هل هذا أيضًا أداة سحرية؟”
“نعم.”
أجاب يُوستار بإيجاز، ثم نقر بطرف إصبعه على الغطاء الزجاجي، فاهتزّت العقارب الدقيقة اهتزازًا طفيفًا، كأنها كائنات حيّة تتحرك كلٌ منها بطريقتها.
قالت لايلا:
“ليست بوصلة إذن.”
“صحيح لكنها شبيهة بها فالبوصلة تُستخدم للعثور على الاتجاهات، أما هذه فتُستخدم للعثور على سينك إنها أداة سحرية تُسمّى سيكر.”
“سيكر…”
لايلا، كما لو كانت تكرر كلامه، تراقب جهاز السيكر الموضوع على كفها كانت الإبر الخمس تشير كل واحدة في اتجاه مختلف دون أن تتحرك حاولت هزّه قليلًا، لكنه لم يتحرك على الإطلاق.
قال يوستار:
– الآن هذا الأمر من نصيبك، لايلا وسأجهز لك باقي الأدوات الأخرى تدريجيًا حسب الحاجة.
سألت لايلا:
– وكيف أستخدم هذا؟
أجابها:
– الأمر بسيط هل ترين الزر الصغير في الأعلى؟ نعم، الزر الفضي اضغطي عليه.
فعلت لايلا ما أمرها به كان الزر محكمًا، لكنها دفعت بقوة حتى صدر صوت “طنق” ودخل إلى الداخل.
وفجأة، تحركت الإبر التي كانت ثابتة بلا أي حركة وبدأت تدور بسرعة مشدودة!
قال يوستار:
– الآن انتظري قليلًا، ستبحث هذه الإبر عن طاقة السينك ستجد أولًا أقرب“سينك
سألت لايلا:
– لماذا تختلف أطوال الإبر؟
أجابها:
– “طاقة السينك تختلف في موجاتها، فبعضها يطلق موجات طويلة، وبعضها قصيرة لا يزال بحثنا جاريًا لفهم الأمر تمامًا، لذا من الصعب شرحه بدقة… على أي حال، كل إبرة تتحسس موجة مختلفة لكن إذا أشارت ثلاث إبر أو أكثر إلى نقطة واحدة، فاعلمي أن هناك سينك هناك بالتأكيد.”
استمرت الإبر بالدوران شعرت لايلا للحظة بالقلق، متخيلة أن الإبر قد لا تتوقف أبدًا فكرت في القيء الذي تتعرض له عند الانتقال عبر البوابات، وخشيت أن تتعرض لنفس الإحساس مع هذه الأداة السحرية إذا لم تتقن استخدامها.
لكن لم يحدث شيء من ذلك بدأت الإبر الخمس، من الأقصر إلى الأطول، تبطئ تدريجيًا، حتى أشارت جميعها إلى نقطة واحدة وتوقفت واحدة تلو الأخرى.
قالت لايلا:
– توقفت.
رفعت رأسها وقالت:
– إنها إلى الشمال الغربي من هنا.
أخرج يوستار من جيب سترته المنظار وارتداه راقبت لايلا بعناية وهو يلمس الزينة المثبتة عليه، ثم قالت:
– قلت إنك بحاجة لهذا لرؤية الأشباح بوضوح، صحيح؟ هذا أيضًا أداة سحرية، أليس لها اسم؟
أجابها:
– بالتأكيد اسمها “تيلار أوغيرسيير”. لكن لا أحد يناديها بهذا الاسم.
سألت لايلا:
– هل يمكنها فقط رؤية الأشباح؟
أجاب يوستار:
– هذا هو الغرض الأساسي منه… لكن بعض الأفراد الذين يمتلكون موهبة الوسطي الروحي يمكنهم استخدام المنظار للوصول إلى “النواة”، وحتى محاولة التغطية عليها ومع ذلك، هذا أمر صعب للغاية، إذ هناك خطر ارتداد الطاقة وإصابة الشخص نفسه فالقليل فقط من الناس يرضون بأن يُجبروا على استرجاع ذكرياتهم، حتى لو كان الأمر يتعلق بروح
اهتزت عينا لايلا شعورًا بالدهشة بحسب كلامه، كانت هي الوحيدة القادرة على رؤية نواة الروح بحرية، بل وحتى التغطية عليها دون الحاجة إلى المنظار.
فهمت لايلا سبب حاجته لها فمن دونها، لن يكون التعامل مع الأشباح التي تصنعها السينك بالأمر السهل على الإطلاق.
قال يوستار:
– انظري إلى إبر السيكر، لايلا ما لونها؟
أعادت لايلا النظر إلى الجهاز على كفها، ففوجئت فقد تحول لون أطراف الإبر من الأسود إلى أصفر باهت.
قالت:
– أصفر.
قال يوستار:
– أصفر، هممم … هذا مقبول إلى حد ما أحيانًا تتحول إلى الأبيض، فهذا يعني أن المسافة بعيدة جدًا الأصفر يعني أنها ضمن مسافة يمكننا السير إليها دعينا نبحث أثناء التجوال.
وهو يخطو نحو الطريق، أضاف بتنهيدة:
– قال مارناك إن هذه السينك صغيرة الحجم لكنها تؤثر بقوة في عدة أماكن، لذا كوني حذرة، لايلا ابقي دائمًا بجانبي، وإذا كان ذلك صعبًا، على الأقل اجعليني دائمًا في مرمى بصرك فهمتِ ما أقصد؟
أجابت لايلا:
– نعم، فهمت.
كانت إجابتها واضحة، لكنها شعرت وكأن كلماتها بعيدة وغير واقعية، كأنها تحلم.
ربما كان السبب رائحة البحر المالحة التي تشمها لأول مرة، أو تعقيد الشوارع المزدحمة… فجأة شعرت وكأن كل شيء يطفو حولها، وتلاشت واقعية ما حولها
فجأة، سمعت صوت عالٍ خلف ظهرها:
“هؤلاء المشاغبون ! لا يستطيعون اللعب بهدوء!”
استدارت، فرأت امرأة، وقد انحدرت قبعة رأسها بشكل مائل، توبخ الأطفال الذين يركضون وهي تصدر كلمات لا تُفهم كانت التفاح الذابل متدحرجًا عند قدميها.
قالت المرأة:
– أيها الأوغاد!
جمعت المرأة التفاح المتناثر وأعادته إلى السلة، متذمرة وكان الأطفال، خمسة أو ستة، يضحكون بأصوات حادة وهم يركضون مبتعدين، يصطدمون ببعضهم وينتشرون في كل اتجاه.
قالت لايلا، وهي تلتقط تفاحة اقتربت منها وتقدمها للمرأة:
– ها هي.
أخذت المرأة التفاحة بوجه عابس ، ثم قالت بلطف يفاجئ مظهرها:
– شكرًا لكِ، أيتها الفتاة الطيبة.
قالت لايلا:
– لا شكر على واجب.
ظهرت ابتسامة قصيرة على وجهها، وعندما استدارت، لمحت المرأة طرف المئزر كان هناك آثار يد متسخة عليه.
قالت المرأة وهي تنظر إلى المئزر:
– يبدو أن الأطفال عبثوا هنا.
صرخت المرأة فجأة ثم تذمرت وهي تهز المئزر بلا اكتراث:
– هؤلاء الأطفال المشاغبون كان يجب أن أقبض عليهم وأعاقبهم بالتأكيد فعلوا ذلك عن عمد وضعوا الطين على أيديهم، ثم تصرفوا وكأنهم اصطدموا بالمئزر عن طريق الصدفة.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 37"