أسرع يوستار ليسند لايلا، لكنها أبعدته عنها فقد شعرت أنّه إن اقترب أكثر، قد تتقيأ ما في جوفها فوق ثيابه ولم تدرك إلا لاحقاً أنّها لم تأكل شيئاً أصلاً، وبالتالي ليس لديها ما تتقيأه.
“خذي هذا، لايلا.”
لكن لايلا، ما إن رأت في كف يوستار مكعّباً برتقالياً، حتى قطّبت جبينها وهزّت رأسها كانت تشعر بدوار حاد وكأنّ أحشاءها تتلوى جميعها، ومع ذلك لم ترغب في ابتلاع ذلك الشيء.
“لا بأس… أظنني سأكون بخير بعد قليل…”
تمتمت لايلا وهي تكاد تلتصق بالأرض من الوهن جلس يوستار إلى جانبها على عجل، وقد ارتسم على وجهه مزيج من الحيرة والقلق.
“الغريب أنّ دوار السفر يطول لديك أكثر من المعتاد، لايلا يبدو أنّك صاحبة بنية شديدة الحساسية تجاه السحر.”
كانت لايلا قد ألصقت خدّها بالسطح البارد، وأدارت عينيها فقط وهي تفكر في مظهرها البائس الآن ومع ذلك، شعرت بأنّ استلقاءها هكذا يخفف شيئاً فشيئاً من الدوار والغثيان.
“مضحك… ساحرة وتقول إنني حساسة تجاه السحر.”
قال يوستار:
“الطاقة السحرية التي تُستخدم في تشغيل تنتي نيلا طاقة مُنقّاة ومعالَجة، أما السحر الذي يستعمله السحرة عادة فهو سحر خام مأخوذ مباشرة من الطبيعة ربما لأنك معتادة على التعرض لهذا السحر الطبيعي الخام، فإن جسدك يحتاج وقتاً أطول للتأقلم مع السحر المنقّى.”
أغمضت لايلا عينيها وأطلقت زفرة طويلة.
“لا أفهم كلمة مما تقول.”
ابتسم يوستار ابتسامة قصيرة في تلك اللحظة، سُمعت خطوات سريعة تتقدّم بخطى واسعة، ثم جاء صوت رجل يتأوّه: “آه!” فرفعت لايلا رأسها ببطء.
“ما الذي يحدث هنا، يا سيد يوستار؟”
ولمّا التقت بعيني الرجل القادم، تجمّد تعبير وجهها شيئاً ما.
كان رجلاً طويلاً، يكاد يضاهي طول يوستار كتفاه عريضتان، وثوبه الأسود ذو الطراز الكهنة بدا ملائماً له أيّما ملاءمة شعره أشقر غزير متموج، وعيناه المسترخيتان أشبه بعيني كلب أليف ضخم ووديع.
“هل تستطيعين النهوض؟”
مدّ الرجل يده إليها، لكنها حدّقت فيها وكأنها ملوّثة بالدم، ثم نهضت بقوّتها الخاصة وتراجعت خطوتين وهي تضغط بيدها على بطنها الذي ما زال يضطرب.
قالت بفتور:
“تبدو كاهناً.”
كان يوستار قد توقّع ردّها ذاك، فاكتفى بالصمت يراقب لقاءهما الأول بفضول.
ابتسم الرجل وللمفاجأة، زادته ابتسامته وداعة كان من أولئك الذين تظن أنهم يؤمنون بأنّ العالم كله جميل، وأنّ البشر جميعهم مولودون بفطرة الخيّر… أي، بعكس ما تفضّله لايلا تماماً.
قال الرجل:
“مارناك دِيايمر أنا رئيس فرع آدياك.”
وبعد أن عرّف بنفسه، شبك أصابعه متخذًا وضعية صلاة، بل لم تكن مجرد وضعية، إنما بدأ بالفعل صلاة قصيرة.
فهمس يوسار:
“نادِه مارناك فقط اسم ‘دِيايمر’ هو لقب مشترك لجميع الكهنة.”
نظرت إليه لايلا متعجبة.
“لقب مشترك؟”
أنهى مارناك صلاته وأجاب بصوت هادئ:
“نعم كهنة سيوراو، حين يؤدون طقس المسح المقدّس، يتعهّدون بترك حياتهم الدنيوية كلها وراءهم فيتخلّون عن ألقابهم التي ورثوها عن آبائهم، بل وعن كل حقوقهم الدنيوية، ليكون لهم وحدهم شرف المثول أمام الحاكم سيرسيتا وسائر حكام سيوراو.”
أصغت لايلا بكراهية ظاهرة على وجهها لقد زال عنها الدوار، لكن مواجهة رجل دين ينظر إليها كما لو كانت حملاً ضالاً لم يكن مريحاً قط.
سألها مارناك:
“وما اسمكِ يا أختي؟”
نظرت إليه لايلا بعينين غامقتين وقالت:
“أنا لست أختك أيها الكاهن ولن أكون تستطيع أن تدرك هذا من مجرد النظر إليّ.”
لكن مارناك ردّ على كلماتها بابتسامة هادئة، وظلّ ينظر إليها بنظرة صافية كان يوستار كثير الابتسام، لكن ابتسامة مارناك… كانت مختلفة.
فكّرت لايلا أنه لا يمكن لأحد أن يبتسم بهذه الطريقة كانت ابتسامته كأنها مصباح يُضاء فجأة في ظلام دامس، ليمنح من يتخبط فيه شعورًا بالاطمئنان صحيح أنّها، كساحرة، لم تشعر بالراحة الكاملة، بل بالحرج بعض الشيء، لكنها لم تستطع إنكار أنّها شعرت بالتأثر.
قال مارناك:
“جميع البشر هم إخوتي وأخواتي، إنهم أبنائي وتلاميذي، وأمانة عليّ أن أرشدهم. لذلك، أنتِ أختي أيضًا، مهما كنتِ ومهما يقول الناس عنك فحاكم سيرسيتا و الحكام الخمسة الذين يعاونونها لا يفرّقون بين البشر ليحفظوا بعضهم ويهملوا الآخرين.”
ارتجفت لايلا من كلماته كما لو لامسها نبات القُرّاص، لكنها أخذت نفسًا عميقًا ومدّت يدها اليمنى إليه لم يكن مناسبًا أن تبقى مترددة لمجرد أنّه رئيس فرع وكاهن.
“لايلا كريسْراد.”
أجابها وهو يصافحها:
“الآنسة كريسْراد.”
كان كفّه كبيراً ودافئاً، وقبضته قوية لكنها لم تبعث فيها أدنى شعور بالتهديد.
دخلت لايلا مع يوستار خلف مارناك إلى مبنى فرع آدياك وكما في الأماكن الأخرى، رأت أجهزة غامضة لا تعرف وظيفتها، وصوتاً منخفضاً مستمراً.
لكن الجدران الناصعة البياض، والديكورات المهيبة، والضوء المتسلل عبر الأقواس، جعلت المكان أشبه بمعبد مقدّس.
تمتم يوستار لها بنبرة مازحة:
“هل تشعرين بعدم الارتياح، لايلا؟”
رمقته بعين غاضبة وقالت:
“لحسن الحظ، لا لست أتقيأ لمجرد أنني دخلت معبداً، لمجرّد أنني ساحرة لسنا في العصور المظلمة بعد الآن.”
فانفجر يوستار ضاحكاً.
“ولا حتى في العصور المظلمة كانت الساحرات يتقيأن في المعابد، أظن.”
“كنت أقصد المعنى المجازي على أي حال… أنا بخير شكراً على قلقك.”
قادهم مارناك عبر ردهة طويلة كان يتبادل بعض الكلمات مع يوستار ثم يخاطب لايلا أحياناً، لكن كلما تعمّقوا داخل المبنى، ازدادت غمامة الحزن على وجهه.
فقال يوستار:
“أظن أنّ الوقت قد حان لتقول لنا ما المشكلة، يا مارناك.”
أجاب الأخير بعد أن التفت نحوه وأطلق تنهيدة قصيرة:
“نعم… كما أخبرتكم، تمّ رصد صدع صغير للطاقة، فأرسلنا فرقة للتحقق غير أنّ…”
تثاقلت خطواته قليلاً، وقد ارتسمت على ظهره العريض كآبة لا توصف.
“ما إن اقتربوا حتى اختفى الصدع.”
قطّب يوستار حاجبيه.
“اختفى الصدع؟”
“الأدق أنه لا يختفي تماماً، بل يتوارى كلما دخل أحدهم نطاقاً معيناً عاد للظهور، وإذا تجاوزوا النطاق تلاشى مجدداً وهكذا يتكرر الأمر.”
قالت لايلا فجأة:
“كأنه يلعب الغمّيضة.”
هزّ مارناك رأسه موافقاً.
“شبيه بذلك لا سبيل إلى الاقتراب منه مباشرة.”
“وماذا خرج منه؟”
“لم نعرف بعد بخلاف ما هو معتاد من وحوش أو أشباح تظهر وتبقى قرب الصدع، هذه المرة… لم يظهر شيء قط.”
“ألم تتمكنوا من تعقبه؟”
“نحن نحاول، لكن بلا تقدم.”
لم يتوقف مارناك إلا عند نهاية الردهة كان هناك باب لغرفة تختلف عن غيرها، إذ كانت جدرانها شفافة تسمح برؤية الداخل.
“ذلك الشخص هو…”
لمست يدُ لايلا الجدارَ الشفّاف كان هناك رجل داخل الغرفة ثيابه الممزقة كانت تغطي جسده الهزيل، وسرواله البالي قد تمزق كاشفًا عن ركبتيه اللتين كان يخدشهما بأظافره بلا توقف.
قال “مارناك”:
“إنه من سكان القرية كان رجلًا يدير متجرًا صغيرًا، لكنه جاء إلى المقر بالأمس في حالة من الذعر التام.”
“وبحسب ما قاله، كان الرجل حينها مغطىً بالجروح من رأسه حتى قدميه، فاقدًا تمامًا لصوابه، ولا يردد سوى جملة واحدة بلا توقف… ولا يزال حتى الآن يكررها دون انقطاع:
‘الطارِد يلاحقني.'”
ضحك يوستار بسخرية كان يرى الدم ينزف من ركبة الرجل.
“هل كان يلعب الغميضة فعلًا؟”
تنهد “مارناك”.
“لا نعلم لكنه لا يزال حتى الآن يردد الجملة ذاتها وهو في حالة من الخوف الشديد لذلك، نحن نضعه تحت الحماية المؤقتة.”
سألت لايلا:
“لكن ألا يشكل هذا المكان المكشوف خطرًا عليه؟”
هز مارناك رأسه مبتسمًا بخفوت.
“لا، ليس كذلك الوحوش أو أي كائنات شريرة لا يمكنها دخول هذا المكان لكن كان لا بد من مراقبته تحسبًا لو أنّه…”
“إن مات، فستكون المشكلة أكبر.”
كان صوت يوستار باردًا على نحو لم تعهده لايلا من قبل وكذلك كانت نظرته إلى الرجل مختلفة تمامًا عن المعتاد.
ثمة أمر مريب… فكرت لايلا وهي تحدّق بالرجل الذي لا يزال يخدش ركبته جلده كان قد تقشّر بالكامل تقريبًا، وكأنه على وشك أن يكشف عن العظم تحته.
هناك شيء ما…
قالت لايلا:
“ذلك الرجل واقع تحت لعنة.”
استدار يوستار ومارناك نحوها في اللحظة ذاتها.
“لعنة، يا لايلا؟”
لم تجبهم، بل اقتربت أكثر نحو الجدار، تميل برأسها محاولة الرؤية بوضوح كان ثمة شيء هناك، خافت وغير مؤكد… لكن…
سألها مارناك:
“آنسة كريسيراد، كيف عرفتِ ذلك؟”
تراجعت لايلا بخطوتين إلى الخلف، ثم حدّقت بالرجل الذي كان يرتجف رغم أن لا شيء يقترب منه.
“سمعت عن ذلك من والدتي… عندما كانت لا تزال على قيد الحياة لكنها لم تعلّمني كيف أرى اللعنات لا أعرف الطريقة.”
سألها يوستار:
“وإن تمكنتِ من رؤيتها، هل يمكنكِ فكّها؟”
أومأت لايلا برأسها بتردّد.
“بحسب معرفتي، نعم.”
ثم استدارت نحو الرجلين وقالت:
“اللَعنات ككرة من الخيوط المتشابكة… أو كمجموعة أحجيات مبعثرة أو هكذا قيل لي فإن استطعت رؤيتها، يمكنكِ أن تحلّيها لكنّي الآن لا أستطيع سوى الإحساس بوجود لعنة عليه، لا رؤيتها بدقة ولو تمكنت من رؤيتها حقًّا، ربما كنت سأجد طريقة لفكها لكن في الوقت الراهن، هذا صعب.”
أيمكنني أن أحاول رغم كل شيء؟ خطرت الفكرة فجأة في بال لايلا، هل أستطيع استخدام قدرتي على شخص حيّ؟ أن تفتح جوهره، وتنظر إلى داخله ربما تجد هناك خيطًا يقودها إلى الحل…
— لا، لايلا هذه ليست فكرة جيدة أبدًا.
استدارت لايلا بسرعة نحو يوستار.
“ماذا قلتَ للتو، يوستار؟”
حدّق بها يوستار في دهشة، وأجابها متسائلًا:
“لايلا؟”
“لقد قلتَ شيئًا الآن قلت إنّها ليست فكرة جيدة.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 36"