انفجر أود ضاحكاً فجأة وهو يحدّق في باسّو شعر كبير الخدم باسّو، الذي لم يفارقه ولو دقيقة واحدة طوال أيامه، وكأن هذه هي المرة الأولى منذ ما يقارب المئة عام التي يرى فيها أود يضحك على هذا النحو.
قال أود:
“بما أنه أتى من الباب الرئيس، فلا بد أن لديه شيئاً مهماً ليقوله، أليس كذلك؟”
ابتسم باسّو وهو يخفض ذقنه قليلاً كان مطمئناً… فاليوم بدا أود في حالة جيدة جداً، وذلك وحده كان أهم ما يعنيه باسّو.
قال أود:
“بإمكانك أن تنصرف الآن، يا باسّو.”
انحنى كبير الخدم بانحناءة مهذبة، ثم حيّا يوستار، الذي كان قد تبعه إلى الداخل، بالطريقة نفسها، وغاب خلف الباب الثقيل الذي انغلق بهدوء.
قال أود:
“ما الأمر؟”
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجه يوستار وهو يرى أخاه جالساً على السرير تحت أشعة الشمس.
ورغم أن بشرته التي لامست الضوء كانت شاحبة كالجثة، إلا أن يوستار شعر، على نحو غير منطقي، أنّه لو بقي تحت الشمس يوماً أو يومين آخرين فقط، فسيشفى مرضه وكأن بمعجزة.
قال أود:
“لقد مر وقت طويل منذ أن دخلت من ذلك الباب.”
وارتسمت على ملامح أود، وهو ينظر إلى أخيه المبتسم، مسحة من المودة التفت يوستار مبتسماً نحو الباب الذي دخل منه، ثم جرّ كرسياً وجلس إلى جانبه.
قال يوستار:
“يسعدني أن أراك مرتاحاً اليوم يا أخي.”
فقال أود:
“بما أنني لست مضطراً اليوم إلى سماع طقطقة سوي ، فقد هدأ صداعي قليلاً.”
وفي تلك اللحظة بدا أود، رغم ما بقي على وجهه من الشحوب والتجاعيد، وكأنه صبي صغير جداً.
وكان “سوي” هو لقب ماركيزة هييمييرد فضحك يوستار ضحكة قصيرة عند سماع كلامه.
قال يوستار:
“لا تكن قاسياً إلى هذا الحد فهي أكثر الناس حرصاً على سلام المملكة.”
فقال أود:
“صحيح ولهذا بالضبط فهي تسعى بكل جوارحها لأن تطيح بي وتجلسك مكاني حين اعتليتُ العرش أول مرة، كان مستعداً ليتظاهر بالموت إن طلبتُ منه ذلك.”
انخفضت نظرات يوستار قليلاً، وبهتت ابتسامته المشرقة لكن أود لم يُعر تغيّره اهتماماً كبيراً، بل اكتفى بمراقبته بصمت.
تنفّس يوستار ببطء، ثم ابتسم بلطف وهو ينظر إلى أود.
قال يوستار:
“أخي يعرف أكثر من أي أحد أنني لا أضمر مثل هذه النوايا.”
ضحك أود بصوت منخفض، ممزوج ببحّة معدنية، لكنه لم يسعل.
قال أود:
“أجل، صحيح ما من أحد يعرفك مثلي، وهذه حقيقة لا جدال فيها.”
قبض أود على يده ثم بسطها مجدداً، وكأن هذا الجهد وحده كان يرهقه، إذ أخذت مفاصله تؤلمه وارتجفت معصمه.
وغامت عيناه بألم وهو يحدّق في أصابعه النحيلة كأغصان يابسة أما يوستار، وقد لاحظ ذلك، فقد تظاهر بعدم رؤيته مراعاة له.
غيّر أود مجرى الحديث وقال:
“وماذا عن تلك الساحرة الصغيرة؟”
استعاد يوستار في ذهنه وجه لايلا القَلِق، ثم أجاب بصوت هادئ:
“لا تريد الخروج من غرفتها، وتشعر بقلق شديد حين تخرج.”
أطلق أود نفَساً غاضباً، لا يعلم إن كان ذلك من عدم رضاه عن الجواب أم عن لايلا نفسها، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة مائلة.
قال أود:
“أعصابها أضعف مما تبدو حين رفعت رأسها أمامي وتحدثت إليّ كإنسان لا كسلعة، بدت جريئة جداً.”
قال يوستار:
“هي مجبرة على ذلك فقد عاشت حياتها كلها في بيت صغير بقرية صغيرة مكتفية بنفسها.”
قال أود:
“لكن الأرض التي كانت جذورها فيها قد احترقت فإذا وجدت أرضاً جديدة، فعليها أن تمد جذورها فيها بأسرع وقت، حتى لو كان الأمر مؤلماً.”
ثم نظر بعينين محتقنتين نحو النافذة قائلاً:
“وإلا فلن يكون أمامها سوى أن تذبل حتى تموت.”
عاد يوستار ليتذكر لايلا كان يعلم أنها ليست ضعيفة، لكنه لم يرد أن يعارض كلام أود.
الأرض التي كانت جذور لايلا فيها، أو التي ظنت أنها جذورها، لم تعد سوى رماد.
لم تكن ريجيكوس مكاناً يحتضنها بل لم تكن سوى بذرة سقطت فيه مصادفة، فلم تحظَ ببركة الأرض الخصبة ولا نمت نمواً مزدهراً.
ولو بقيت في ريجيكوس، لماتت قريباً، في أرض قاحلة بلا شمس ولا ماء ولا غذاء.
لم يجرؤ يوستار على القول إنه هو من أنقذها، فلم يكن ليغترّ إلى هذا الحد فحياتها التي صنعتها بنفسها كانت ملكاً لها وحدها.
لكن من الآن فصاعداً، ستتشابك حياته مع حياتها بطريقة أو بأخرى، وقد بدأ ذلك بالفعل لذا لم يكن أمامه إلا أن يجذبها نحوه، ويجعلها ترسخ جذورها إلى جانبه قبل أن تبتعد أكثر، وإلا فسوف يذبلان معاً.
قال أود:
“وماذا جئت لتقول إذن؟”
قال يوستار:
“جئت لأتحدث عن حفل الزفاف.”
كان أود يتوقع مثل هذا الكلام، ولذلك هز رأسه بلا اهتمام متعمّد.
قال أود:
“إن كان الأمر عن هذا، فلا شأن لك به، يا يوستار فموظفو القصر سيتولون الأمر.”
قال يوستار:
“ولهذا تحديداً جئت أعلم أن الموظفين منشغلون بالتحضير، لكن… أرجوك يا أخي، دعنا نتجاوز إقامة الحفل.”
استدار أود نحو يوستار بعينين حادتين، وكأن على وشك أن يصفعه، لكنه لم يفعل بل خفّض صوته على نحو ينمّ عن الغضب وسأله:
“ولماذا ذلك؟”
تردد يوستار في الرد دون أن ينطق بكلمة، لكنه كان يعلم أن أي كلام سيقوله لن يكون مقبولاً وعلى النقيض، فإن أي قول يصدر عنه قد يُعتبر مقبولاً أيضًا، فالأمر يتعلق بزواجه هو شخصيًا في النهاية.
كان أود ، كونه أخاه وأيضًا الملك، سلطة كبيرة في إصدار الأوامر ليوستار.
لكن فيما يتعلق بالأمور الشخصية كزواجه، لم يكن ليسعى لأن يفرض سيطرته كملك بشكل صارم ومن أجل هذه الثقة، جاء يوستار رغم معرفته بأن أخاه قد لا يرضى، واختار أن يخاطبه بلقب “أخي” بدلًا من لقب “جلالته”.
قال أود:
“سألت لماذا يا يوستار.”
أجاب يوستار:
“أخي، على أية حال هذا الزواج…”
تلك الكلمات توقفت فجأة، وانحنى برأسه وهو يهزها برفق كانت خصلات شعره الطويل تتمايل قليلاً كما لو تلعب بها الريح.
قال:
“ليس هناك سبب آخر له أي أهمية فقط أريد أن أخفف العبء عنها، هذا كل ما في الأمر.”
نظر أود إلى وجه أخيه بفضول، متسائلًا إن كان يوستار قد أدرك المعنى الكامن في نظرته.
لكنه ظن أنه لن يعلم فحتى الآن لم يرَ يوستار يُظهر مثل هذه العناية الدقيقة لأحد.
كان يعلم جيدًا أن طبيعته طيبة، لكن لم يشهد من قبل أنه كان مستعدًا لمخاطرة إغضابه كأخ وحيد من أجل شخص واحد.
كان أود يعلم أن سوي هييمييرد كانت مخلصًه جدًا ليوستار، لكن يوستار لم يعطِ أبدًا أي أمل لهييمييرد، مهما كان نوع ذلك الأمل…
قال أود:
“يبدو أن تلك الساحرة الصغيرة قد أعجبتك كثيرًا.”
ارتسم على وجه يوستار ابتسامة غامضة، لا يعلم كيف يرد.
قال:
“هي شخص طيب وسيأتي يوم، أخي، ستعرفه أنت أيضًا وكذلك لايلا… سيحين الوقت الذي تعرف فيه من تكون.”
سأل أود:
“وأنت كيف كنت؟ هل شعرت بأي استياء تجاهّي حين أمرتك أن تتزوج تلك الساحرة؟”
خيل إلى يوستار للحظة أن السؤال سخيف، وكاد يضحك فلم يكن بمقدوره أن يحمل ضغينة تجاه أود لأي سبب كان.
حتى لو أمره بالزواج من غير لايلا، كان سيقبل ذلك برضا تام.
قال:
“لم يكن لدي أي استياء، وأنا واثق أن أخي يعلم ذلك جيدًا، لكن الأمر كان مفاجئًا بالنسبة لي.”
أومأ أود برأسه، ثم رفع نظره عن يوستار.
قال:
“حسنًا، هذا صحيح لكن كما فعلت في السابق، لن أسمح لك بأن تسأل عن الأسباب الآن سيحين الوقت المناسب لتعرفها.”
قال يوستار:
“سأفهم ذلك جيدًا.”
حرك أود يده المرتعشة كأنها متجمدة، ووضعها بصعوبة على ركبته كان يشعر بألم كأن عظامه الجافة تحتك ببعضها البعض.
قال أود:
“إذا كنت تريد أن تمنح تلك الساحرة الصغيرة شيئًا، فليكن سنتجاوز مراسم الزفاف لكن بما أنها أصبحت جزءًا من العائلة الملكية، فلا بد من تقديم التحية الرسمية هذا أمر لا مفر منه.”
كانت التحية تعني لقاء كبار المسؤولين والنبلاء في مملكة شيرو، وكان هذا الأمر واجبًا هامًا لمن انضم حديثًا إلى الأسرة الملكية.
قال يوستار:
“حسنًا، أخي.”
أضاف أود وهو يلتفت إليه:
“وإليك شيئًا آخر.”
قال :
““التخلي عن إقامة حفل الزفاف يجب أن يكون بأمري وحدي أقصد أنه يجب أن يكون نتيجة مزاجي هل تفهم ما أعني؟”
فجأة، عبس يوستار وكأنه متضايق ، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة مُرّة.
قال:
“نعم، فهمت ذلك أيضًا.”
انحنى أود قليلاً، وعندما حاول يوستار بسرعة مد يده للمساعدة، أمسك أود بغطاء السرير بيده المرتجفة وفتح عينيه على مصراعيهما.
اقترب وجهه الشاحب حتى كاد يلامس ذقن يوستار.
قال أود بصوت مزيج من التنفس متقطع والهمس:
“عليك أن تدفع نفسك أبعد، يا يوستار من أجل نفسك، ومن أجلي أيضًا هل تفهم ذلك؟”
أزاح يوستار عبوسه، وأومأ برأسه بابتسامة غامضة لا تُفسر.
قال:
“أفهم.”
تراجع أود في النهاية، وانتظر يوستار بصمت حتى توقف عن التحرك ببطء.
قال يوستار:
“حينها سأخرج ، استرح.”
أومأ أود برأسه.
خرج يوستار من غرفة الملك، ليحل مكانه باسّو الذي كان ينتظر في الخارج، وانطلق في الرواق.
كانت أشعة الشمس المتأخرة في فترة بعد الظهر تنحسر تدريجيًا، وظلّت ظلال الأعمدة تطول على الأرض.
تذكر يوستار فجأة أنه من المقرر أن يتناول العشاء مع لايلا كاد ينسى ذلك في خضم تلك اللحظات.
دائمًا ما كان يحدث ذلك بعد لقائه بأود وبعد حديثهما، إذ يغمر ذهنه مزيج من الأفكار المعقدة، واليأس، والمشاعر المؤلمة.
قرر يوستار أنه من الأفضل أن يذهب إلى غرفة لايلا قبل فوات الأوان، لكنه لم يكن قد خطى سوى بضعة خطوات حين جاء نحوه أحد الحراس مرتديًا زي تينتينيلا وهو يناديه.
قال الحارس:
“سيدي يوستار! لدي أمر لأخبرك به.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 34"