بالرغم من وابل أسئلة لا يُحتمل من لايلا، مدّ الرجل يديه بهدوء في إيماءة تدعوها إلى التمهل وأخذ الأمور واحدة تلو الأخرى.
وحين ابتسم ابتسامة خفيفة، شعرت لايلا، دون سبب واضح، بنبضة مباغتة ومروعة تهز أحد جوانب صدرها.
“يبدو أننا بحاجة إلى أن نأخذ الأمور خطوة بخطوة أولاً، اسمي يوستار أما عن المكان الذي جئت منه… حسناً، الأمر صعب التحديد لقد كنت أتنقّل في كل مكان بحثاً عنك حتى وصلت إلى هنا، لذا لا يمكنني أن أقول بالضبط من أين أتيت.”
“أنا لم أركَ قط من قبل ولا أظنك رأيتني أنت أيضاً.”
اعترضت لايلا بنبرة يغلب عليها التوجس أما الرجل، يوستار، فهز رأسه ببطء كما لو أن ذلك بديهي، وأسند ذقنه إلى يده.
“بالطبع، إنها المرة الأولى التي نلتقي فيها لكن، بدقة أكثر، لقد كنت أراقبك منذ وقت طويل.”
فجأة، اقشعر جسدها يراقبني؟
“ما الذي تعنيه بذلك؟”
“أعني ما قلته تماماً آه، لا تقلقي، لم أكن أراقب كل حركة لكِ أو أتابعكِ عن كثب بل كنت أراقب… نعم، دعيني أقول: طاقتك الحيوية حيويتك كـ ساحرة، وقوّتك هذا ما كنت أراقبه.”
بدى وكأنه يحاول أن يشرح بجدية، إلا أن عقل لايلا ازداد تشوشاً فقط.
ماذا راقب بالضبط؟ وكيف راقبه؟ لم تجد إجابة واضحة لأي من تساؤلاتها ومع ذلك، بدا يوستار متفاجئاً من تعبير وجه لايلا المرتبك.
“ألا تفهمين ما أعنيه؟”
“هل تتوقع مني أن أفهم؟”
رمش يوستار مرتين، وفي عينيه الخضراوين الشفافتين، بلون سنابل الشعير، انعكست صورة لايلا بوضوح مريب.
شعرها الأسود الذي يبعث على القلق، وعيناها الحمراوان كأن قطرة دم سقطت فيهما—علامات تؤكد أنها ليست من نسل البشر فحوّلت لايلا نظرها بهدوء.
“إنه أداة سحرية أظنك تعرفين ما هي الأدوات السحرية، أليس كذلك؟”
“أعرف لكن الأدوات السحرية التي أعرفها لا تتعدى تنبؤ الطقس لليوم التالي.”
“هذا… حقاً…”
توقف يوستار عن الحديث وأطلق ضحكة خافتة.
“أنتِ مختلفة عمّا تخيلتُه عن الساحرات إذاً، ماذا كان ذلك التهديد الذي وجهتِه لي قبل قليل—أن تجففي لساني؟”
“هذا ليس بأداة سحرية، بل أمر يمكن فعله بواسطة تِنكتر مجرد قطرة واحدة تضاف إلى الشاي الذي أقدّمه لك.”
“أكثر رعباً من الأداة السحرية نفسها.”
قال يوستار بنبرة فكاهية، لكن لايلا تجاهلتها.
“على أية حال، لا أعرف ما الذي تخيلته عن الساحرات، لكن والدتي لم تترك لي أي أداة سحرية أصلاً، الأدوات السحرية يستخدمها السحرة، وليست شيئاً نملكه نحن الساحرات، أليس كذلك؟”
“هذا أمر نسبي على كل حال، تمكنت من العثور عليك بفضل هذه.”
قال ذلك وأخرج شيئاً دائرياً من حقيبته.
كانت خرزة حمراء بحجم حبتين من العنب تنتشر فيها خطوط بيضاء دقيقة، أشبه بعروق دم، لا يُعرف إن كانت شقوقاً أم بقعاً.
ما إن مدت لايلا يدها نحوها، حتى دارت الخرزة في كف يوستار، ثم انشق سطحها مثل قشرة عنب، لتظهر عين سوداء بحدقة حمراء تحدق مباشرة في لايلا.
“هاه…!”
نهضت لايلا فجأة، وركلت الكرسي وهي تتراجع إلى الخلف، دون أن تتمكن من إطلاق صرخة صحيحة.
أما يوستار، فبعد أن رأى وجهها الشاحب، أعاد الخرزة بهدوء إلى حقيبته.
قالت لايلا، وشفاهها المرتعشة خالية من الدماء:
“ما… ما هذا؟ هل هذه هي الأداة السحرية؟”
“نعم يسميها السحرة راينينغ-لور، لكننا نحن نطلق عليها ببساطة اسم العين.”
“نحن؟”
هز يوستار كتفيه وتحول إلى موضوع آخر دون أن يجيب.
“تلك السلسلة التي رأيتها قبل قليل أيضاً أداة سحرية لكنها تختلف عن أدوات السحرة إنها مكرسة، تُستخدم لطرد الأرواح أو الوحوش وما شابه ذلك.”
“هل تقصد أنك صياد وحوش؟”
“لا، ليس تماماً أنا لا أقتصر على اصطياد الوحوش فقط.”
قال يوستار بتعبير غارق في التفكير، وهو يطرق على الطاولة بأصابعه كان يبدو وكأنه يفكر بشيء ما، أو ربما يبحث عن عذر لتبرير خطأ ارتكبه.
“لايلا، هل تعرفين ما هو الـ سينك؟”
أجابت لايلا:
“تتحدث عن الحفرة السوداء؟”
“هكذا تسمونها هنا، أليس كذلك؟”
“نعم، معظم الناس يقولون ذلك على أية حال، تقصد تلك التي يُقال إن الأرواح تتدفق منها؟”
مال يوستار برأسه مبتسماً، بينما تسللت أشعة الشمس الباهتة من النافذة وسقطت على شعره الذهبي الطويل، فتألقت مثل رمال لامعة.
تأملت لايلا وجهه للحظة كأنها مسحورة، ثم هزت رأسها.
“أنا لا أؤمن بهذه الأمور.”
“ألا تؤمنين بالأرواح رغم عينيك هاتين؟ هذا مثير للاهتمام.”
“ليس هذا ما أعنيه ما أقصده أنني لا أؤمن بوجود ما يُسمى الحفرة السوداء هل من المعقول أن تنشق الأرض فجأة وتخرج الأرواح منها؟ لا، لا أظن ذلك وبما أنك تكرر الحديث عن عينيّ، دعني أوضح شيئاً: الأرواح لا تزحف خارجة من الأرض إنها…”
ارتجفت كتفا لايلا وفهم يوستار حينها أنها تخاف بصدق.
“…إنها فقط… موجودة هناك في الأماكن التي يجب أن تكون فيها، أو التي تتعلق بها بشدة لا تحفر الأرض مثل الخلد، ولا تظهر مثل الفطر إنها فقط… فقط تكون هناك عندما تدير رأسك عندما تستيقظ في منتصف الليل وتفتح عينيك، تجد امرأة مائلة العنق واقفة عند رأس سريرك تحدق بكرأمي قالت إنها إحدى أسلافنا امرأة قُتلت شنقاً فقط لأنها كانت ساحرة.”
وبينما كانت لايلا تزداد توتراً، قاطعها يوستار بنعومة:
“أنتِ محقة الأرواح العادية تظهر بهذه الطريقة فعلاً لكن من يراها هم قلة، قلة نادرة جداً لكن السينك ليس كذلك، لايلا أنتِ تعتقدين أن الـ سينك مثل الزلزال، شق في الأرض… لكنه ليس كذلك لا يتشكل بهذه الطريقة، ولا يأخذ ذلك الشكل.”
ثم أدركت لايلا أن عليها أن تطرح سؤالاً مهماً.
“حتى لو كان كل ما تقوله صحيحاً، لماذا يجب أن أعرف كل هذا؟ ما السبب الذي جعلك تراقبني باستخدام تلك… العين؟”
ارتسمت ابتسامة على وجه يوستار، عينيه الخضراوين المائلة، وابتسامته الناعمة جعلته يبدو مبهراً لدرجة مرعبة، حتى أن لايلا شعرت أنها أمام كائن غير بشري.
“ما الأمر؟ أشعر بشيء غريب منذ قليل…”
وضعت يدها على جبهتها وجلست على الكرسي من جديد.
الكرسي الهزاز العتيق أطلق صريراً وكأنه يئن تحت وزنها الخفيف.
عندها قال يوستار:
“يبدو أن الشرح بالكلام لن يكون كافياً من الأفضل أن أريكِ مباشرة.”
“…أن تريني؟ ماذا بالضبط؟”
“كل شيء ما يحدث في هذه القرية ليس وباءً لا يوجد مرض يذيب عيون الناس ويجعلها تختفي بهذا الشكل ألستِ أنتِ أيضاً تظنين أن هناك شيئاً غير طبيعي؟”
شفتا لايلا انغلقتا بصمت ابتسم يوستار مرة أخرى وأضاف:
“آسف، لكن هل يمكنني البقاء هنا حتى حلول الليل؟ سيكون العثور على الأمر أسهل بكثير ليلاً.”
استندت لايلا إلى ظهر الكرسي، وقبضت على مسند الذراع بقوة.
كانت تهز جسدها للأمام والخلف ببطء، متزامنة مع صرير الكرسي المتواصل… كما كانت تفعل حين كانت والدتها على قيد الحياة.
نظرت إلى يوستار نظرة حادة وقالت:
“إذا انتظرنا حتى الليل، هل يعني هذا أنك ستتمكن من حل هذه المشكلة الغريبة؟”
“لا يمكننا القول بأننا سنعالج المرض، لأنه ليس مرضاً من الأساس لكن نعم، يمكننا القول إننا سنقضي على مصدر المشكلة.”
مصدر المشكلة.
كان سكان القرية يعتقدون أن لايلا هي السبب في اختفاء عيون الأطفال وكأنها طين ذائب.
حين مات أول طفلين، حاول ذووهم تحطيم باب منزلها.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ كلما مات طفل آخر، جاء القرويون بأسلحتهم البدائية يهاجمون بيتها كالوحوش.
وعندما تجاوز عدد الأطفال الموتى العشرة، بدا أنهم لم يعودوا يملكون الطاقة للومها.
أطلقت لايلا نفساً عميقاً وكأنها أنهت سباقاً.
“حسناً.”
كانت تعض شفتيها بشدة بينما قبضت على الزخرفة الدائرية القديمة في ذراع الكرسي بقوة.
“حسناً، كنت أتساءل عن هذا السبب أيضاً.”
***
كان هناك صوت موسيقى يتردد من مكان ما، كأن علبة موسيقية صدئة تدور ببطء.
وكان بين النغمات صوت معدني خشن.
ما هذه الأغنية؟ فكرت لايلا كانت قد سمعتها من قبل، لكنها لا تتذكر أين.
والدتها لم تغنِ لها أبداً، بل كانت تبكي أغلب الأوقات.
— وجهه كان… وهو…
كان هناك من يغني بتلك الألحان.
علبة الموسيقى ازدادت صوتًا ، وشعرت لايلا بجسدها يطفو فجأة.
“استيقظي، لايلا!”
بووم! كأن بالوناً انفجر داخل رأسها، ففتحت عينيها بحدة.
كانت تتنفس بصعوبة، ونظرت حولها الظلام حالك لم تكن هناك شمعة واحدة مشتعلة.
ويبدو أنها غفت بينما كانت تراقب يوستار الجالس بهدوء كتمثال يتنفس.
“…هل حلّ الليل؟ كم نمت؟”
“وقتاً طويلاً هيا بنا، إن تأخرنا أكثر فسيكون الأمر صعباً.”
نبرته كانت أكثر حزماً مما كانت عليه في النهار.
رغم أن لايلا لم تحب هذا التغيير، إلا أنها نهضت دون اعتراض.
وقبل أن يخرجا، ألقى يوستار نظرة على كرسيها وقال:
“من الأفضل ألا تغفي على هذا الكرسي مرة أخرى.”
قطّبت لايلا حاجبيها.
“ولمَ لا؟”
لكنه لم يجب، واكتفى بابتسامة خفيفة.
خرجا وسارا في طريق الجبل المظلم.
وبينما كانت لايلا تسير دون تفكير، أمسكت بكتف يوستار فجأة وكأن شيئاً راودها.
“لحظة، هذه الطريق تؤدي إلى القرية.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 3"