وقفت لايلا دون أن تتنفس حتى كانت تتمنى لو أنها فقدت وعيها، غير أنها لم تستطع حتى أن يغمى عليها.
كانت ترتجف واقفة في مكانها، بينما كانت تلك الثقوب السوداء تحدق بها.
بدا الأطفال رماديي اللون وحسب، وفي المواضع التي كان ينبغي أن تكون فيها أعين، لم يكن هناك شيء سوى ذلك، لم يكونوا مختلفين كثيرًا عن الأطفال الأحياء وما إن أدركت ذلك، حتى شعرت لايلا بمعدتها تنقلب رأسًا على عقب.
“تعالي إلى هنا.”
في تلك اللحظة، احتضنها الرجل بكلتا ذراعيه وكأنه يسحبها إليه، فشعرت لايلا كأنما أفاقت من صدمة.
كانت حرارة جسده الحي تلامس جسدها، شيئًا لم تشعر به حتى من والدتها التي أنجبتها ومع تلك الحرارة التي سرت في جسدها، أحست بوخز في رأسها وحرارة تتصاعد.
“ما الذي تفعله؟!”
وحين حاولت لايلا أن تدير رأسها، أمال الرجل رأسه من فوق كتفها، فأصبح وجهه قريبًا منها.
كدت تُقبّله! ارتعبت لايلا وحاولت التملص من بين ذراعيه، إلا أن قوته كانت غير مفهومة.
“أعتذر فقط تحملي الأمر قليلاً هكذا، نعم…”
أرخى الرجل ذراعه، مما سهل على لايلا الفرار، لكنها لم تتحرك كان الأمر خارجًا عن إرادتها… وهذا ما كان غريبًا أكثر من أي شيء.
لماذا لا تريد معارضة هذا الرجل؟
وبينما كانت غارقة في تساؤلها العجيب، ذهب الرجل يعبث بزينة معلقة بجانب عدسة المونكل صدر صوت خافت يشبه دوران زنبرك، ثم قال:
“آه، الآن أرى جيدًا عيناك رائعتان حقًا… حسنًا، ابقي كما أنتِ.”
“ما الذي تهذي به منذ قليل؟! علينا الهرب حالًا من هنا!”
صرخت لايلا بكل ما أوتيت من قوة، لكن صوتها بالكاد وصل إلى أذنيها، كطنين بعوضة رمقها الرجل بعينه العارية، تلك التي لا يضع عليها العدسة، وقال:
“لا تقلقي، طالما أنا هنا، فكل شيء سيكون على ما يرام.”
“أي خير تتحدث عنه؟ لا يوجد أي شيء بخير…!”
وفي تلك اللحظة، بدأت أشياء مشابهة لما خرج من تومي تزحف خارج أعين الأطفال… أو بالأحرى، من أماكن أعينهم التي لم تكن موجودة.
بعضها كان كالثعابين الصغيرة، وبعضها كالأربع والأربعين ، وبعضها الآخر بدا كشبكة عنكبوت معقدة متشابكة. جميعها كانت مفزعة، وما زاد من فظاعتها هو اقترابها من لايلا وكأنها تريد الالتفاف حولها.
صرخت لايلا وحاولت دفع الرجل بعيدًا، لكن فجأة حلّ ظلام دامس أمام عينيها، فلم تعد ترى شيئًا صرخت، وقد سيطر عليها الذعر:
“لا أرى شيئًا! يا إلهي! لا أرى أي شيء!”
“شش، اهدئي الأمر بخير افتحي عينيك، وانظري أمامك مباشرة.”
“عن أي كلام تهذي؟! أنا بالفعل فاتحة عيني…!”
توقفت الكلمات، وانحبس النفس في صدرها لم ترَ شيئًا، لكن ما إن شدّت على جفنيها قليلًا، حتى انفتحت رؤيتها فجأة.
“ترين، أليس كذلك؟”
كان الرجل لا يزال يحتضنها بذراع واحدة، ورأسه بجانب كتفها، ينظر إلى الأمام وعندها، أدركت لايلا أمرًا غريبًا.
قبل قليل، حين قابلت تومي وحدها، كان من الواضح أنه حاول إيذاءها.
ذلك الوجه الذي كان يبتسم ابتسامة مشوهة حتى كاد فمه يتمزق، والشعور بالكراهية الذي شعرت به… لم يكن من الممكن أن تخطئه ولو لم يظهر الرجل، لكانت قد ماتت دون شك.
لكن الأرواح التي تراها الآن تختلف.
رغماً عنها، بدأت لايلا تشعر بمشاعرهم تنساب داخلها حقد، غضب، وخوف لا متناهٍي.
(خوف؟ أنتم؟ من ماذا؟)
— أهه… خَخ…
— كيك، كيك كيك…
بدأ الأطفال يُصدرون أصواتًا مشؤومة لم تكن أصوات بشر، ولا حتى وحوش ارتجفت أطراف لايلا، وارتعشت ركبتيها حتى أصبحت كجذع شجرة.
عندها همس الرجل:
“أحسنتِ يبدو أنهم أدركوا أخيرًا… أنكِ ’ترين‘.”
“ما… ما الذي تعنيه؟ لا أفهم شيئًا من هذا…”
“ستفهمين.”
أخرج من حقيبته الجلدية صندوقًا صغيرًا، وما إن فتحه بيد واحدة حتى خرج منه سلسال رفيع وارتفع في الهواء.
وفجأة، انفتحت أفواه الأطفال الاثني عشر إلى أقصى ما يمكن، حتى كادت تلامس أعناقهم تمزقت الشفاه، وظهرت ثقوب سوداء ثم جاء صراخ رهيب، شقّ الأذنين.
— آآآآآآآاااه—!!
(توقّفوا!)
فكرت لايلا لم تستطع حتى الكلام أحست أن رأسها سينفجر.
كانت صرخاتهم تتسلل إلى رأسها كأنها صخور ثقيلة تُحشر داخلها عنوة.
(توقفوا، أرجوكم! رأسي سينفجر! يكفي…!)
عندها، سمعَت صوت الرجل:
“الجندي النحاسي إلى النافذة، والملعقة المكسورة إلى الموقد.”
— كييييك…!
— كخ، كخخ…!
بدأ الصندوق يرتجف وبينما كانت لايلا تصرخ من شدة الألم، كانت لا تزال ترى المشهد أمامها بوضوح كانت أجساد الأرواح تلتوي بشكل مشوه، تمامًا كما حدث مع تومي، لكن العدد هذه المرة كان أكثر، مما جعل المشهد أكثر رعبًا.
“أسأل إن كانت الأشياء في أماكنها الصحيحة.”
وما إن أنهى كلماته، حتى انطلقت السلسلة التي في الهواء كالسهم، مصدرة صوتًا حادًا، ولفّت حول الأرواح المتشابكة.
ثم، عندما مدّ الرجل الصندوق إلى الأمام، امتصّت السلسلة داخله بسرعة وصوت حاد، وأغلق الغطاء تلقائيًا، فاختفى الصراخ المريع من عقل لايلا، ومعه اختفى كل الأرواح.
تدلى العرق البارد من جبينها ولم تدرك إلا الآن أنها كانت تقريبًا غارقة في حضن الرجل فتراجعت سريعًا إلى الخلف جسدها كان على وشك الانهيار.
ارتعشت شفتيها.
“ماذا… ماذا فعلت؟”
رفع الرجل يده بصمت وكأنه يطلب منها الصمت.
لم تكن لايلا ممن اعتادوا على سماع الأوامر، فكادت تصرخ فيه، لكن شعورًا غريبًا في داخلها كبح اندفاعها فجأة.
(ما هذا الإحساس؟)
وبينما كانت لايلا مشوشة، فتح الرجل الصندوق مجددًا.
شعرت لايلا بالخوف من أن تظهر الأرواح في هيئة أكثر رعبًا، لكنها رأت شيئًا آخر خرزة دائرية سوداء، لامعة بشكل شرير…
“كُليها.”
لم ينظر الرجل إلى لايلا حتى، بل رفع الخرزة إلى مستوى كتفه وقال:
“كُليها.”
في تلك اللحظة، بدأت سحابة دخان حالكة السواد ترتجف وتتلاطم خلف كتفه، ثم غمرت يد الرجل الممسكة بالخرزة كأنها تلتهمها بالكامل.
ثم بدأ يُسمع صوت مروّع.
كان صوت عظام إنسان حي وهي تُكسر وتسحق بالكامل وسط تلك الأصوات، شعرت لايلا بصرخات خافتة تتسلل إلى أذنيها، وكانت تلك الصرخات دقيقة ونحيلة كأنها صوت طفل.
ظل الرجل رافعًا يده حتى تلاشى ذلك الصوت المتخشخش تمامًا، بينما كان يدير وجهه في الاتجاه المعاكس بملامح شديدة الاشمئزاز.
وما إن توقفت الأصوات المقززة، حتى اختفى الدخان كأن لم يكن، واختفت الخرزة التي كان يحملها الرجل أيضًا.
“لقد انتهى الأمر.”
قال الرجل ذلك وهو يخلع المونكل عن عينه، متنهّدًا وهنا، شعرت لايلا أخيرًا بضرورة الهرب لكن في تلك اللحظة، تعثّرت عقب قدمها المرتجفة بصخرة.
“آه!”
صاحت وهي تسقط على مؤخرتها عندها، مدّ الرجل يده نحوها.
“لا تلمسني!”
صرخت لايلا بقوة وصفعت يد الرجل كانت يده مغطاة بقفاز جلدي، لذا لم يكن ليؤلمها كثيرًا حتى لو ضربته، لكنها لم تكن لترغب أبدًا في أن تمسك به.
لكن في تلك اللحظة، شعرت بشيء واضح… شعور حاد يخترق صدرها.
كان… الشعور بالذنب.
(لماذا؟)
نهضت لايلا بتعب ووجهها يملؤه الاضطراب (لماذا أشعر بالذنب تجاه هذا الرجل؟)
قال الرجل:
“كنت فقط أحاول مساعدتك على النهوض.”
نظرت إليه لايلا نظرة حادة وكأنها تقول: لا حاجة لي بمساعدتك.
“ما الذي فعلته للتو؟ هل أنت كاهن مبارك أم شيء من هذا القبيل؟ قادر على تبديد الأرواح؟ أم ساحر؟ تلك الخرزة قبل قليل… من الذي أطعمته بها؟ ما هذه الخدعة؟”
ضحك الرجل ضحكة قصيرة وقال:
“لديك الكثير من الأسئلة هل هذا الفضول من تأثير والدتك؟”
“أمي لم تكن تملك شيئًا اسمه فضول.”
“لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا كل الساحرات مهووسات بالبحث يقضين حياتهن في استكشاف الطبيعة، واكتشاف السحر، والغوص في كل ما هو غريب… أليست هذه هي حياة الساحرات؟”
أسودّ وجه لايلا.
لم يكن هذا الرجل من أهل القرية ومع ذلك، كان يعرف عن نسب لايلا، بل يعرف أنها “ترى شيئًا ما”.
“أنت… من تكون بالضبط؟ هل جئت إليّ عن قصد؟ لأنك تعرف أنني ابنة ساحرة؟ لأنك تعرف… أنني أرى أشياء غريبة؟”
صمت الرجل، لكنه هذه المرة لم يبتسم بسخرية بل ذهب يحدق في وجه لايلا كأنه يفكر، ثم قال:
“هل يمكنك أن تعطيني رغيف خبز فقط؟ سأخبرك بكل ما تريدين معرفته… أنا على وشك الانهيار من الجوع الآن.”
***
رغم وجود بعض الاختلافات في الرأي، لم تجد لايلا خيارًا سوى أن تصطحب الرجل إلى منزلها.
فمن غير الممكن أن تترك شخصًا بهذا المظهر الغريب يسير في القرية هكذا، والأهم من ذلك، أنها شعرت بأنها لن تنعم بنوم هادئ ما لم تعرف حقيقة هذا الرجل.
وبدا أنه كان جائعًا فعلًا، إذ التهم بسرعة قطعة خبز نصف مأكولة كانت لايلا قد أبقتها من إفطارها، مع حساء لا يحتوي إلا على بعض الأعشاب.
كان يأكل بسرعة مذهلة، ولكن من دون أن يبدو عليه الجشع، الأمر الذي أثار فضول لايلا ودفعها لمراقبته دون أن تشعر.
“لقد كان لذيذًا هل أعددتِ هذا الحساء بنفسك؟”
“أوه، وهل تظن أن النيمف هي من أعدّته لي؟”
[ النيمف هو كائن روحاني يسكن في الطبيعة مثل : الغابات ، الجبال ، الانهار ، الأشجار ]
رغم الرد اللاذع، لم يبدُ على الرجل أي انزعاج، بل ابتسم بكل بساطة.
أخذت لايلا الصحون الفارغة ووضعتها بشكل عشوائي في حوض الغسيل، ثم سحبت كرسيًا قديمًا لأمها وجلست مقابلة له.
قال الرجل:
“تبدين جادة جدًا.”
“لا تفكر في أكل خبزي وحساءي والهرب بكل بساطة كما ترى… نعم، أنا بالفعل ابنة ساحرة، وأنا أيضًا ساحرة وإن كذبت عليّ، فسأجفف لسانك حتى تجعلك تتلعثم في الكلام إلى الأبد.”
رغم هذا التهديد الشديد، لم يفقد الرجل هدوءه، بل ابتسم بهدوء أكبر.
“حسنًا، سأجيب بكل صدق ما أكثر شيء تودين معرفته؟”
مالت لايلا بجسدها قليلًا إلى الأمام فوق الطاولة وقالت:
“من أنت، ومن أين أتيت؟ كيف عرفت عني؟ وقبل كل شيء… ما الذي فعلته قبل قليل؟”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 2"