كانت لايلا مستلقية على السرير منذ ساعة كاملة تحدّق في السقف.
كان السقف على شكل مثلثات زرقاء طويلة تتجمع نحو الوسط، وكلما ضيّقت عينيها كانت ترى شيئًا يلمع بخفوت ويخفت في البداية ظنت أنه مجرّد وهم بصري، لكنه لم يكن كذلك.
إنه اللازورد، فكرت لايلا لقد رأت مرة والدتها تضع مسحوق اللازورد في خليط غامض كانت تحضّره.
ترى، لو علم سكان ريجكوس أن في بيتها لازورد، ماذا كان سيحدث؟ هل كانوا سيتظاهرون بعدم المعرفة ويتجاهلون الأمر؟
«مستحيل كانوا سيسرقونه عن آخره».
تحركت أصابعها المتشابكة فوق بطنها المسطّح ببطء.
كانت لايلا تطرق بلا وعي شيئًا صلبًا بأطراف أظافرها، ولم تدرك الأمر إلا بعد لحظة، فرفعت يدها اليمنى ونظرت إليها بملامح متفاجئة وكأنها لاحظت ذلك لتوّها.
كانت في أصابعها البيضاء النحيلة خاتم مرصّع بالياقوت الأزرق الداكن.
— «ارتديه دائمًا، فطالما هو معكِ، لن يوقفكِ الحراس أينما ذهبتِ صحيح أن هناك بعض الأماكن الممنوع دخولها، لكن… على أي حال، من الصعب أن تذهبي إليها عمدًا، لذا لا بأس».
بمعنى آخر، كان ذلك الخاتم أشبه ببطاقة مرور منحها يوستار إلى لايلا ففي هذا القصر الملكي المعقّد، الواسع، والدقيق القوانين، كان ذلك هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنها حمايتها، وهي ليست من النبلاء ولا من العائلة المالكة.
حين سمعت أنها ستقابل ملك سيوراو، أدركت لايلا جسديًّا معنى أن يبيضّ العالم من حولك حين تصدمك المفاجأة شعرت وكأنها تحلم، وخيّم الفراغ على رأسها، ثم جاءها فجأة الفُواق.
— «ألم أخبركِ بسبب بحثي عنكِ، يا لايلا؟ السبب الوحيد لرغبة أخي في رؤيتك هو هذا صحيح أنني المسؤول عن إدارة فرقة تينتينيلّا، لكن جلالة الملك هو على رأس جميع المسؤولين في المملكة».
لم يكن تفسيره بلا منطق؛ فكما قال، فإن صاحب القصر الملكي في الحقيقة هو أود، ملك المملكة وأخو يوستار الأكبر وبما أنها ضيفة في هذا القصر لبضعة أيام، فلا يمكنها الامتناع عن إلقاء التحية عليه.
«أكره هذا حقًا…».
أطلقت لايلا زفرة طويلة، ثم انتصبت فجأة جالسة.
أصلحت فستانها الذي تجعّد من كثرة التمدد، وصفّفت شعرها المبعثر، ثم فتحت الباب بحذر وخرجت لم يكن في الردهة سوى حراس يقفون كالتماثيل، وبعض الخدم.
“آنسة، أأنتِ خارجة؟”
سألتها الخادمة ميلي وهي تضع الزهور على عمود رخامي صغير كان من المريح أن عينيها لم تحملا أي كراهية أو ريبة.
“أود أن أمشي قليلًا، لا بأس، أليس كذلك؟”
“بالطبع أترغبين أن أرافقكِ؟”
“لا، لا داعي. سأذهب وحدي هممم… إذا ضللت الطريق، هل يمكنني أن أسأل أي شخص أراه؟”
ضحكت ميلي بخفوت كما لو أن كلام لايلا أضحكها، ثم قالت:
“اسألي الحراس أو الخدم المارين عن مكان الـ«أمبريجون» هذا هو اسم هذه الغرفة معناه «غرفة الكهرمان الذهبي».”
“أمبريجون… النطق صعب قليلًا لكن شكرًا لكِ.”
انحنت ميلي قليلًا مودّعةً لايلا.
وأثناء سيرها في الممر الطويل، حاولت لايلا أن تقلل من صدى خطواتها، لكن كلما لامست كعبا حذائها الأرضية اللامعة، صدر صوت أشبه بزجاج يتحطم.
لم تكن لايلا تعرف إلى أين تتجه.
في البداية، كانت تعود أدراجها أحيانًا وهي تلاحظ الزخارف أو التوابيت الجدارية أو شكل الأعمدة في الزوايا لتحفظها في ذاكرتها، لكنها سرعان ما أدركت أن ذلك بلا جدوى.
فكل مكان كان غريبًا عنها، والزينة الفاخرة تنتشر في كل أرجاء الممرات.
حتى وقت قريب، قبل أن تنتشر إشاعة «الثقب الأسود» في قرية ريجكوس وسينك، كانت سيوراو دولة في أوج ازدهارها.
ولا تزال حتى الآن، ما لم يُذكر اسم سينك، بلا مشاكل كبيرة داخليًّا أو خارجيًّا.
إلا أن ملكها “أود هايونموريك” يزداد وهنًا يومًا بعد يوم بسبب مرض مجهول السبب، ناهيك عن أنه لم يتخذ وريثًا ولا حتى ملكة…
«لماذا لم يتخذ ملكة؟»
ساورها الفضول، لكنها سرعان ما تخلّت عن الفكرة فذلك أمر لا يعنيها في شيء.
واصلت لايلا تجوالها بلا هدف في أرجاء الممرات، حتى التفتت فجأة إلى الطريق الذي جاءت منه لقد أدركت أنها كانت تتجول منذ وقت طويل، لكنها لم تصادف أحدًا طوال ذلك.
على الأقل حين خرجت من الغرفة — ما كان اسمها؟ أمبلجون؟ — كانت ترى من بعيد سيدات يسرن في الرواق، أو صفًا من الحراس يتجه نحو الحديقة…
وفجأة أحست ببرودة تسري على جلد ذراعها بل لم يكن إحساسًا وحسب، بل شعرت أن شيئًا «لامسها» بالفعل، رغم أن فستانها بأكمامه الطويلة كان يغطي ذراعيها حتى المعصمين.
أرادت أن تقنع نفسها بأنه مجرّد هواء، لكن ذلك لم ينفع.
لقد رأت لايلا عددًا لا يحصى من الأرواح، والتقت بها وجهًا لوجه ومن المستحيل أن تخلط بين شعور الهواء وهو يمر عبر القماش، وبين إحساس شيءٍ «يخترقها» ويمر من خلالها.
«هناك شيء هنا…».
لكن لم يكن هناك ما يُرى فالإحساس الأول بالبرودة مرّ بها ثم اختفى، ولم يقترب أو يزداد قوّة كان كل شيء ساكنًا.
غير أن سكون الهواء الدافئ هو ما جعل لايلا أكثر قلقًا.
كان شعورًا أشبه بما ينتاب الطفل حين يرى أمّه تبتسم بهدوء وهي تقدم له الحلوى رغم معرفتها أنه ارتكب خطأ.
ذلك الشعور الذي يخبره بأنّه، ما إن ينتهي من أكل الحلوى، ستختفي الأم الحانية، ولن يبقى إلا العقاب الذي سيجعله يبلل سرواله…
فكّرت لايلا قائلة: “فلنعد” لكن ما إن استدارت فجأة حتى وجدت جدارًا يقف في المكان الذي لم يكن فيه شيء قبل لحظات.
“يا إلهي، لا.”
تمتمت لايلا، كما لو كانت في غيبوبة، وهي تلمس الجدار بيدها كان باردًا وصلبًا إنه جدار حقيقي لم يكن وهمًا رخيصًا أو هلوسة.
“هذا مستحيل…! هيه! أما من أحد هنا؟”
ذهبت لايلا تطرق الجدار بقبضة يدها، رافعة صوتها، لكن لم يحدث شيء كان الجدار متينًا على نحوٍ يوحي باستحالة هدمه، وكانت أصواتها تتحطم عليه وتتبعثر كحبات الرمل بلا قوة.
أدارت رأسها، فإذا بالممر أطول مما كان قبل قليل، فاتسعت عيناها دهشة؛ فقبل لحظات فقط، كان هناك خمسة تماثيل نصفية تفصل مكانها عن الزاوية…
أما الآن، فقد صار عليها أن تمرّ بأكثر من عشرة تماثيل لتصل إلى الزاوية ذاتها.
أغمضت لايلا عينيها بإحكام ثم فتحتهما، وهي تعض شفتيها المرتجفتين، ممسكة بخاتمها في يدها اليمنى دون وعي في كل الأحوال، لم يكن بإمكانها البقاء في هذا الممر إلى الأبد عليها أن تصل إلى الزاوية وتنعطف إلى أي مكان آخر.
“عليّ أن أكون هادئة” أخذت لايلا نفسًا عميقًا، ثم خطت خطوة للأمام وهناك رأت وجه أول تمثال نصفي كانت امرأة.
كان شعرها مرفوعًا إلى الأعلى بأناقة، وقد نُحتت تفاصيله بدقة، وكان المشط — الذي يبدو أنه من حليها المفضلة — مرصعًا بماسات ذات لون ليموني
والتمثال الذي يليه، والذي بعده… أدركت لايلا بسهولة أن كل التماثيل النصفية التي تصطف على جانبي الممر قد نُحتت على هيئة المرأة نفسها.
لم يكن الاختلاف سوى في شكل الشعر أو الحلي التي تضعها، أما الملامح فهي لامرأة واحدة جميعها بلا تعابير ورغم أن الاسم لم يكن منقوشًا، فإن التاج الذي يعلو الحجاب الذي يغطي نصف وجهها يوحي بأنها على الأرجح من العائلة المالكة.
(الخامس… لقد كانت هنا الزاوية قبل قليل).
توقفت لايلا لحظة، تتحسس الجدار قرب التمثال كان باردًا وصلبًا كما توقعت حتى الطرق عليه لم يُصدر صدى، مما يعني أن داخله مصمت.
“يبدو أنه لا مفر سوى السير حتى النهاية…”
مررت لايلا كلتا يديها على وجهها، ثم عضت شفتها السفلى، وبدأت تسير مجددًا على طول الممر غير أن خطواتها توقفت لحظة وهي تنظر بطرف عينها إلى التمثال السادس.
كان التمثال يبتسم.
كانت ابتسامة باهتة تكاد لا تُرى، لكن مقارنة بالخمسة السابقين، كان الفرق واضحًا.
“ربما كان النحّات يريد أن يغيّر التعبير قليلًا”
حاولت لايلا أن تواسي نفسها، وبدأت تعبر الممر بخطى أسرع.
كان التمثال السابع يبتسم ابتسامة أوسع، وعند التمثال الثامن ظهرت حاجبان معقودان، وشفتان مشقوقتان على اتساعهما في ابتسامة لم يعد بالإمكان اعتبارها مجرّد وهم.
“إنه فخ” ما إن أدركت ذلك، حتى وقعت عيناها على التمثال التاسع…
كان وجهه مشوهًا بشكل مروّع، يجمع بين الصراخ والابتسام في آن واحد.
كان ضحكًا لا تسمعه إلا لايلا، ضحكًا حادًا كالشفرة، وخطيرًا كالعفن الأسود المتسلل بين شقوق الجدران.
— «يجب أن أكسر عنق تلك الفتاة كما يُكسر الخشب العفن».
فجأة، اخترق صوت هامس رأس لايلا، فاقشعر بدنها بالكامل لم تستطع حتى الصراخ، لكن حين رفعت رأسها فجأة…
رأتها كانت امرأة، تدير ظهرها شعرها مرفوع بالطريقة ذاتها التي رأتها في التماثيل لم ترَ وجهها، لكنها أيقنت أن هذه هي صاحبة الفخ.
“انتظري!”
صرخت لايلا، وارتد صوتها عن الجدران من كل صوب لم تلتفت المرأة، بل انزلقت بهدوء خلف الزاوية الأخيرة واختفت.
“عليّ أن ألحق بها” فكرت لايلا حتى لو كان هذا سيقودها إلى فخ أعمق، فلا يمكنها البقاء هنا.
إن وقفت ساكنة بين هذه التماثيل المرعبة، التي تزداد قبحًا مع كل خطوة، وتسمع ذلك الضحك المزعج الذي يمزق أذنيها، فستفقد عقلها لا محالة.
“اللعنة! قلت لكِ انتظري!”
ركضت لايلا في الممر وهي تشد قبضتها لكن حين لمحَت وجه التمثال الأخير، هبط قلبها فجأة… فقد كانت عينا المرأة وأنفها وفمها جميعها ذائبة، في مظهر بائس ومريع.
(لقد حدث أمر ما… هنا… في هذا القصر…).
تراءت لها من جديد هيئة المرأة وهي تدير ظهرها وعندما اجتازت الزاوية، أدركت أن المكان هو نفسه الممر الذي جاءت منه قبل قليل أسرعت في إدارة رأسها، فإذا بالمكان قد عاد جدارًا.
“لا…”
انطلق صوت لهاثها، وجثت لايلا على الأرض وهي تسند ظهرها إلى الجدار وتنزلق ببطء.
في تلك اللحظة، شعرت بوخز خفيف في إصبع يدها اليمنى الوسطى، فقد اصطدم الخاتم بالأرض وجرح جلدها قليلًا قطّبت حاجبيها، ثم نظرت إلى يدها، وفجأة جاءها صوت يوستار من مكان ما:
«لايلا؟»
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 19"