في هذه الأثناء، ما إن دخلت لايلا إلى الحمّام حتى فقدت القدرة على الكلام وترددت في خطاها.
كان المكان فاخراً إلى درجة أن حوض الاستحمام الخزفي الأبيض، الذي يرتكز على أربعة قوائم ذهبية، كان مملوءًا بالماء الدافئ، وتتصاعد منه رائحة عطرية، تحيط به عشرات الزجاجات والبتلات المجففة، وبخار الماء يتصاعد بكثافة حتى بدأ هناك رداء بلون عاجي ناعم، بلا عنق، يفرد ذراعيه كحارس بلا رأس.
لو كانت فتاة عادية، لصرخت من الفرح أو على الأقل تظاهرت بالإغماء، لكنه كان مكاناً فاخراً إلى حد أن لايلا شعرت بأنها على وشك أن تُغمى عليها لسبب مختلف تمامًا.
كان تصرف الخدم الذين ينادونها بـ”آنسة” مربكًا بحد ذاته، لكن ما كان أكثر غرابة من ذلك هو أنهم أصروا على مساعدتها في خلع ملابسها.
حاولت أن تعترض قليلاً وتقول إنها ستقوم بذلك بنفسها، لكنهم تشبثوا بقواعد غريبة تقول: “بما أنكِ ضيفة صاحب السمو الأمير الإمبراطوري، فلا ينبغي أن يكون في خدمتكِ أي تقصير.”
هاه……
ربما بسبب دفء ماء الاستحمام، أو لأن عليها أن تقف مكتوفة الأيدي بينما يغسل الآخرون جسدها، وهي لا ترتدي سوى رداء رقيق يكشف عن بشرتها بالكامل، خرجت لايلا من الحمّام وقد خارت قواها تمامًا، حتى إنها لم تكن قادرة على تحريك إصبع واحد.
أخذ الخدم ملابس لايلا إلى مكانٍ ما، واقتادوها خلف حاجز قد تم تركيبه مسبقًا.
“ما هذا؟ أين ملابسي؟”
“ملابسكِ هنا.”
رفعت لايلا عقبيها قليلًا عند سماعها صوتًا مألوفًا من خلف الحاجز كان وجه ماركيزه هيميرد أول ما رأته، وبجواره علّاقة معلّق عليها ثلاث أو أربع فساتين.
لم تكد لايلا تُمعن النظر في ما هو معلق حتى هزّت رأسها.
“لا أستطيع ارتداء مثل هذه الأشياء.”
“ألا تظنين العكس؟ ثم إنه لا يمكنكِ البقاء على هذه الهيئة في هذا المكان، أليس كذلك؟”
عند كلمات الماركيزة، ألقت لايلا نظرة متفحصة على هيئتها من جديد كانت ترتدي قميصًا وتنورة مصنوعين من قماش أكثر سمكًا ونعومة من الرداء الذي استحمّت به، لكنهما في النهاية لم يكونا سوى ملابس داخلية.
قالت ماركيزه هيمييرد:
“لا تقلقي لقد اخترت أكثرها راحة لكِ هممم…… وجهكِ يبدو يافعًا وجميلًا، لكن لون شعركِ صعب الموازنة الوردي والأصفر لا يناسبانه إطلاقًا دعيني أرى…… ربما الأزرق سيكون مناسبًا.”
لحسن الحظ أو لسوئه، لم تصل كلمات الماركيزة المتذمرة إلى أذني لايلا تمامًا فقد كانت منشغلة بمحاولة استيعاب أين هي، ولماذا جاءت إلى هذا المكان.
“تفضلي، الآنسة لايلا ارتدي هذا.”
أشارت المركيزة إلى أحد الفساتين، فسارع الخدم الواقفون خلفها إلى دفع علّاقة الملابس نحوها.
عندما ألبسوها التنورة الداخلية المصنوعة من الدانتيل الناعم، ثم فستانًا داخليًا أكثر صلابة وانتفاخًا، وأخيرًا الملابس التحتية التي تضبط شكل الخصر والصدر، بدأت لايلا تستعيد وعيها تدريجيًا.
“مهلًا، الربطة ضيقة جدًّا……”
كانت لايلا نحيلة الجسم، ومع ذلك شدّ الخدم الأربطة المثبتة في الملابس التحتية بكل ما لديهم من قوة لتضييق خصرها إلى أقصى حد وضعت لايلا يدها على أسفل بطنها المشدود بإحكام وقالت:
“لا أستطيع التنفس!”
عند صوتها العالي، ارتبك الخدم وتراجعوا وكأنهم رأوا شبحًا ثم أردفت لايلا بتعبير معقد:
“لم أغضب الأمر فقط……”
لوّحت الماركيزة بمروحة صغيرة نحو الخدم.
“لا بد أنها المرة الأولى لها في ارتداء مثل هذه الملابس اجعلوها أرخى قليلًا.”
ما إن خففوا الربطة قليلاً حتى بدأت الأنفاس المحبوسة تتسلل من جوفها كانت تودّ لو تقول إنها لا تريد ارتداء هذا أبدًا، لكنها شعرت بأنه لا ينبغي لها قول ذلك…… فقد كان واضحًا أن الماركيزة هيمييرد لن تسمح بذلك.
أما الفستان الأزرق الذي اختارته المركيزة لها، فقد كان مفتوحًا من أعلى عند الصدر على شكل جناحي فراشة، ما أظهر خطًا فاتنًا دون مبالغة، وكان خاليًا من الزينة تقريبًا.
بسبب التنورة المنتفخة التي ارتدتها أسفل الفستان، بدت أطرافه منتفخة، لكنه لم يكن ضيقًا لدرجة يصعب معها المشي.
واصلت هيمييرد حديثها :
“حتى الكعب اخترنا أكثرها راحة لكِ.”
“أنا لم أرتدِ كعب من قبل قط.”
“لا يمكنكِ ارتداء أحذية جلدية قديمة مع هذا اللباس، فلتتحملي.”
لم تجد ما تردّ به لا، بل في الحقيقة، كان لديها ما يكفي من الكلام لترد به وأكثر — وكان من بينها سؤال إن كان بالإمكان استدعاء يوستار فورًا — لكنها اختارت أن تطيع أوامر المركيزه بهدوء.
ففي النهاية، يوستار هو من أوصاه بأن يعتني بها، ولم تكن تريده أن يقع في الحرج بسببها.
“هل يناسبك؟”
كان الحذاء، كما قالت المركيزة ، ذا كعب منخفض يشبه أحذية الأطفال، لكن لايلا التي اعتادت على ارتداء أحذية جلدية فضفاضة ومهترئة، لم تفهم ما المقصود بـ”مريح” ومع ذلك، وبعد بعض التمايل، تمكنت من الوقوف بثبات.
“أعتقد أنه يناسبني ربما…… لكني لا أظن أنني سأتمكن من المشي لمسافات طويلة.”
“لا تقلقي ستبقين في هذه الغرفة حتى تأتيك أوامر خاصة من صاحب السمو الأمير الإمبراطوري الحمّام رأيته سابقًا، وغرفة النوم تقع داخل ذلك المدخل المقوس، على اليمين أما المقابل له فهو غرفة المرحاض، لكن السيدة كريسيراد على الأرجح لن تحتاجِ إليها……. على الأقل في الوقت الحالي لكن إن رغبتِ في الاطلاع عليها، فلا بأس وسنُحضر لكِ وجبة خفيفة من المطبخ قريبًا من المؤكد أن سمو الأمير الإمبراطوري سيدعوكِ إلى مأدبة، لذا من الأفضل ألا تأكلي كثيرًا حتى لا تفقدي شهيتك.”
لن يقدّموا شيئًا بحجم حبة فول، أليس كذلك؟ فكّرت لايلا في نفسها.
كانت تعلم أن ذلك لن يحدث، ومع ذلك، لم تستطع منع أفكارها من التشتت إلى أماكن غريبة……. في الحقيقة، لو لم تفعل ذلك، لكانت لتشعر أنها فقدت عقلها بالفعل.
“إذا دخلتِ من هنا، ستجدين غرفة الاستقبال، والمكتبة، وغرفة المكتب، وغرفة نوم ثانية استخدمي الغرفة التي تجدينها أكثر راحة، لكنني أوصي بالغرفة الأولى التي ذكرتها فالشمس تدخلها لفترة أطول ابقي في هذه الغرفة حتى يأتي سمو الأمير الإمبراطوري، وإن حدث شيء طارئ، أخبري الخدم.”
سألت لايلا:
“سيدتي الماركيزة…… لن تبقى هنا، أليس كذلك؟”
ضحكت الماركيزة بسخرية خفيفة وكأنه تقول: وهل هذا سؤال؟ شعرت لايلا وكأنها قد تعرّضت للسخرية، لكن نيّتها لم تكن مزعجة تمامًا.
“اهدئي أعلم أنكِ مرتبكة وأود مساعدتكِ، لكن لديّ بعض الأمور التي عليّ إنجازها إن احتجتِ شيئًا، أخبريهما هذه سيل، وتلك ميلي.”
نظرت لايلا إلى الخادمتين بصمت. بمهارتهما في نزع الملابس بسرعة، بدا أنه لا أحد يمكنه مجاراتهما لكن على الأقل، لن تكون هناك حاجة لخلع هذا اللباس الآن، وذلك كان مريحًا بالنسبة لها.
“مفهوم.”
“إذن، ارتاحي الآن.”
تركت الماركيزة هيمييرد تحية قصيرة، ثم استدارت وخرجت دون أن تترك خلفها أدنى تردد كان ظهرها المستقيم ومشيتها الواثقة يمنحان لايلا شعورًا بأنها تُركت وكأنها بلا جدوى كان شعورًا غريبًا.
وكما قالت الماركيزة، أُحضرت الأطعمة بعد قليل من المطبخ.
كان هناك نوع من المعجنات المخبوزة ممزوجة بكريمة الحليب السميكة والعسل، وشاي أحمر تفوح منه رائحة حمضية، وتفاحة واحدة لم تكن كبيرة، لكنها كانت حمراء لامعة، وما إن وقعت عليها عين لايلا حتى اجتاحها الجوع فجأة.
وما إن عضّت على التفاحة قضمة واحدة حتى تبادل الخادمتان — سيل وميلي — النظرات بدهشة ظاهرة على وجهيهما.
“آه، آنسة…”
رمقت لايلا سيل بطرف عينها.
“لستُ آنسة أنا مجرد فتاة كانت تعيش في قرية نائية لا يعرفها أحد.”
“لكن بما أن سمو الأمير الإمبراطوري هو من يستضيفك، فنحن مضطرون لاستخدام هذا اللقب نرجو تفهمكِ وعلى كلٍّ… هل ترغبين في أن نقشر التفاحة لكِ؟”
نظرت لايلا إلى التفاحة التي كانت قد قضمت منها قضمة كبيرة، ثم أدركت من تعبيرات القلق والارتباك على وجهي الخادمتين شيئًا واحدًا…
“هنا… من المعتاد فعل ذلك، أليس كذلك؟”
أجابت ميلي:
“ليس إلزاميًا تمامًا، لكن السيدات المحترمات… عادة ما يفعلن ذلك.”
“السيدات المحترمات، هاه…” تمتمت لايلا في داخلها من كان يظن أن يومًا ما سيأتي يُشار إليها فيه بأنها “سيدة محترمة”؟ لا الحمقى في قرية ريزيكوس، ولا حتى والدتها التي أنجبتها، كانوا ليتصوروا مثل هذا الأمر.
“لا بأس لكن في المرة القادمة، سأحرص على تقشيرها أولًا.”
لم تضيفا سيل وميلي شيئًا، واكتفيتا بمراقبة لايلا وهي تتناول طعامها في صمت.
كان ذلك أيضًا عبئًا ثقيلًا على لايلا، لكن ما إن بدأ الطعام الدافئ والحلو ينزل إلى جوفها الخالي، حتى باتت غير مبالية بأي شيء آخر.
“سمو الأمير الإمبراطوري قد وصل!”
انفتح الباب المطل على الرواق على مصراعيه، ودوّى صوت المرافق بصوتٍ عالٍ.
رفعت لايلا رأسها بسرعة كان يوستار بالفعل يدخل الغرفة بخطى واثقة وكان، على غير العادة، قد فكّ شعره الذي كان يربطه دائمًا.
“هل أعجبك الطعام؟”
ابتلعت لايلا ما في فمها وأومأت برأسها بحذر.
“هل لي أن أجلس؟”
“نعم… بالطبع لكن أليس من المفترض ألا تسألني مثل هذا السؤال بعد الآن؟ أليست سمو الأمير الإمبراطوري أنت؟”
هزّ يوستار كتفيه وكأن الأمر لا يستحق الاهتمام.
“سواء كنت أميرًا أو ملكًا، لا بد من الحصول على إذن قبل الجلوس قبالة سيدة على أية حال، أشكركِ على السماح لي كنت على وشك الانهيار من التعب.”
قال ذلك وهو يجلس على الكرسي متظاهرًا بالإعياء، ثم ألقى نظرة جانبية على سيل وميلي.
“يمكنكما الانصراف قليلًا.”
غادرتا الغرفة على الفور دون تردد، ولم تنسيا بالطبع إغلاق الباب بعناية وما إن أصبحت لايلا وحدها معه، حتى لم تعد قادرة على تناول المعجنات بنهم، فوضعَت الشوكة على الطاولة بخفية.
قال يوستار:
“ما الأمر؟ تابعي طعامكِ.”
“أليس من المفترض أن تشرح لي الكثير من الأمور؟”
لم تكن تنوي أن يكون صوتها نبرة مساءلة، لكنه خرج كذلك من دون قصد وبينما كانت لايلا في داخلها توبّخ نفسها، حدّق يوستار فيها مبتسمًا بتلك الابتسامة التي يصعب قراءة ما وراءها.
“صحيح… هناك الكثير بل قد لا يكفينا الليل كله حتى ننتهي من الحديث لذا يا لايلا، يمكنكِ أن تسألي ما تشائين أعدكِ أن أجيبك بصدق.”
لايلا لم تكن تثق بالوعود الشفهية لكن في هذا الموقف، لم يكن بإمكانها إجباره على توقيع تعهد مكتوب يفيد بأنه سيقول لها الحقيقة كاملة…
لو كنت أستطيع تحضير التينكتر الآن، لكان ذلك رائعًا ما الذي كانت تسميه أمي؟ أجل، “وصفة الكذابين المزمنين”.
كانت تلك نوعًا مخيفًا من المستخلصات؛ تكفي بضع قطرات منها في إفطار الصباح أو حساء العشاء، ليعترف الشخص الذي تناولها بكل أسراره الدفينة دون أدنى مقاومة.
لم تكن تضرّ الجسد، لكنها كانت تُنهك النفس فبعد الاعتراف، غالبًا ما كان أولئك الأشخاص ينهارون في مكانهم ربما بسبب الإرهاق، لكن السبب الأرجح كان نفسيًّا — إذ لا بد أن هناك أسرارًا لا يجب لأحد أن يعرفها أبدًا.
لو أطعمته إياها الآن، لكان الأمر أسهل كثيرًا فكّرت لايلا. لكنها سرعان ما أزالت الفكرة من رأسها بل إنها تلاشت من تلقاء نفسها… إذ بدا لها أنه من الأفضل الوثوق بوعده.
“هل أنت حقًّا سمو الأمير الإمبراطوري؟”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 17"