استدارت لايلا إلى الخلف بوجه يبدو عليه بعض الدهشة استغرقت لحظة في التفكير، ثم قالت مجددًا:
“أتعنين تلك التي يوجد بداخلها أحيانًا حشرات…؟”
نظرت إليها ماركيزه هيميرد بعينين متفاجئتين.
“نعم، بالضبط يبدو أنكِ تعرفين.”
شعرت لايلا بأن وجهها يحمر رغم أنها لم ترتكب أي خطأ يُذكر فقد خطر ببالها فجأة أن من الطبيعي أن تفترض ماركيزه هيميرد أنها لا تعرف ما هي “كهرمان” فهي مجرد فتاة بائسة المظهر، تنبعث منها رائحة الريف، فلا عجب في ذلك…
ترددت لايلا لبرهة، ثم قالت بصوت لا يُظهر أهمية كبرى:
“تُستخدم كثيرًا في تعاويذ الساحرات ليس فقط كهرمان ، بل تُستخدم أنواع متعددة من البلورات، وأحيانًا الزمرد أيضًا.”
بدت على حاجبي ماركيزه هيميرد لمحة انقباض طفيفة عند سماعه كلامها تُراه شعرت أن نبرتها الواثقة تختلف عن سابق عهدها، فبدت له متغطرسة؟ أم أن كلمة “ساحرة” نفسها هي ما أزعجها ؟
ما شأني؟ فكرت لايلا فقد مرت بسلسلة من الأحداث غير المعقولة، حتى إنها أصبحت منهكة ذهنيًا.
وعندما رأت تعبير وجه الماركيزه المنقبض، راودها شعور بأنها تنتقم بطفولية، غير أنها لم تستطع التراجع عن كلمات قالتها بالفعل.
“آنسة كريسيراد كنت أستبعد ذلك، لكن… هل حقًا تنحدرين من سلالة ساحرات؟”
“ألَم تشكّ حتى بعد أن رأيت شعري وعينيّ؟”
“عيناكِ فريدتان بالفعل، لكن رفاق صاحب السمو الإمبراطوري ممن يجلبهم إلى القصر كثيرًا ما يكونون أشخاصًا فريدين، لذا لم أستبعد الأمر أما الشعر، فقد يكون مصبوغًا.”
أخفضت لايلا طرف شفتيها قليلًا، ورفعت كتفيها بلامبالاة.
“لو كان الأمر كذلك، لكان ذلك جيدًا بالنسبة لي أيضًا، لكن للأسف، هذا هو شعري الحقيقي لذا، نعم، كما قلتَ يا سعادة الماركيز… أنا بالفعل من سلالة ساحرات كانت والدتي ساحرة، وعلى الرغم من أنني لم أرَ وجهها قط، إلا أن جدتي أيضًا كانت ساحرة.”
تحركت شفتا ماركيزه هيميرد كأنه على وشك قول شيء، وأدار نظره بعيدًا عدة مرات ثم عاد لينظر إلى لايلا، لكنه في النهاية صرف بصره متظاهرًا بالتماسك دون أن ينبس ببنت شفة.
ليس وجهًا سعيدًا، فكرت لايلا لكن… طبيعي، أليس كذلك؟
“سيدتي الماركيزه تم تجهيز الحمّام بالكامل.”
قال أحد الخدم وهو ينحني بأدب، وقد بدا بعض العرق على جبينه، ربما بسبب تسخين الماء.
وبينما كانت لايلا تراقبه من خلف الماركيزه ، خطرت ببالها فجأة تساؤلات غريبة إذا كان خادم في القصر الملكي مشغولًا طوال اليوم، فكيف يمكن أن يكون مئزره مشدودًا ونظيفًا تمامًا من دون أي تجعّد؟
“آنسة كريسيراد، يبدو أن ماء الاستحمام أصبح جاهزًا أثناء استحمامك، سألقي نظرة لأرى إن كانت هناك ملابس يمكن ارتداؤها اتبعي ميل هذا هو اسمها.”
“…حسنًا.”
انحنت ميل بصمت أمام لايلا وهي تغض بصرها إلى الأرض وبينما كانت لايلا تتبعها، توقفت فجأة وكأنها تذكرت شيئًا، واستدارت نحو هيميرد.
“شكرًا لك، سيدتي… الماركيزه هيميرد.”
توقفت هيميرد، التي كانت على وشك مغادرة الغرفة مع الآخرين، عن السير لكنه لم تُعد النظر إليها.
“الشكر لا يوجَّه إليّ إنما أُنفّذ فقط ما أمر به صاحب السمو الإمبراطوري إن قابلتِ سموه لاحقًا، فاشكريه بنفسك.”
وقفت لايلا تحدّق بشرود في الباب الذي انغلق بهدوء، دون أن تجد ما تقوله ردًا عليه وظلت صورة ذيل فستان تلك المرأة المجهولة، التي غادرت الغرفة آخر واحدة، عالقة في ذهنها على نحو غريب.
***
مرّ يوستار عبر الرواق المركزي للقصر الملكي ودخل من الباب المؤدي إلى قاعة العرش كانت الأعمدة والجدران ذات الطراز الكلاسيكي، والتي شُيّدت مع الحفاظ التام على الطراز المعماري التقليدي لشيروو، تملأ دائمًا جزءًا من قلبه بالامتلاء.
وكان على السقف لوحة تُجسد اجتماع الآلهة الخمسة حول “مائدة النظام والهيبة”، يتوسطهم الإله الأعلى سيرسيتا، وقد أضيئت اللوحة بلون أبيض متلألئ.
وكانت كل تفصيلة من هذه اللوحة تحفة قائمة بذاتها، إذ جُمعت من معادن وأحجار طبيعية مختلفة الألوان، وركّبت بعناية فائقة، مما جعلها لا تُقارن بأي من الجداريات الأخرى.
غير أن ذلك المشهد الجليل الرائع لم يجدِ نفعًا في كسر السكون المخيم، إذ كان العرش الواقع أعلى المنصة العالية خاليًا وكان الحراس واقفين في أماكنهم دون أي تعبير، كأنهم تماثيل من الجص، فيما كان ثلاثة من الكتبة يتحلقون حول طاولة يتبادلون الحديث بصوت منخفض.
“أوه! سمو الأمير!”
تفاجأ هوغو رينكل، كبير كُتّاب البلاط الملكي في شيروو، بظهور يوستار الذي وقف في مكانه بصمت، فهبّ واقفًا بدهشة ثم انحنى الكتّاب الثلاثة بعمق لتحيته، فأومأ إليهم يوستار برأسه مبتسمًا ابتسامة باهتة.
“ألم يخرج جلالته إلى قاعة العرش اليوم أيضًا؟”
“نعذر منك، سمو الأمير لقد عقد اجتماعًا قصيرًا صباحًا مع الكونت روبيو وبعض مسؤولي الإدارة، لكنه عاد ليستريح بعد أن اشتد عليه الصداع.”
“سأذهب لرؤيته بنفسي هل في ذلك بأس؟”
“لا، سمو الأمير دعني أرافقك.”
تقدّم هوغو بعرضه، لكن يوستار هز رأسه نافيًا.
“لا، سأذهب بمفردي أنجزوا أنتم عملكم.”
نظر الكتبة إلى بعضهم لبرهة، ثم انحنوا مجددًا له احترامًا مرّ يوستار من أمامهم ودخل الرواق الصغير المؤدي مباشرة إلى جناح الملك وقد سمع تنهيدة خافتة تصدر من خلفه، لكنه تظاهر بعدم سماعها.
وحين قرع الباب عند نهاية الرواق المظلم الذي لم تدخله أي أشعة ضوء، سُمع صوت سعال عصبي من الداخل وتزامنًا مع عبوس يوستار، فتح كبير الخدم الخاص بالملك الباب.
“سمو الأمير، لقد عدت.”
وفور فتح الباب، انبعثت رائحة مرة من الأدوية والأعشاب كان من الواضح أن مرضًا عميقًا، عصيًّا على العلاج، يحوم داخل الجناح كطيف ثقيل.
“باسو، عليك أن تكون أكثر حذرًا ماذا كنت ستفعل لو لم أكن أنا؟ فتحت الباب من دون أن تتحقق من الزائر.”
أطلق يوستار دعابته عمدًا، فظهر على شفتي كبير الخدم العجوز، الذي غرق في الكآبة، طيف من ابتسامة خفيفة.
“سموكم أنتم الوحيدون الذين يستخدمون هذا الباب أيفوت ذلك على هذا العجوز؟”
“صحيح ولو حاول أحدهم خداعك، فلن يرى نور الشمس ثانية على الأقل من هذه الناحية أنا مطمئن.”
أزاح باسو جسده جانبًا بوجه أكثر ارتياحًا، مفسحًا المجال ليوستار.
كان جناح الملك فخمًا كقاعة العرش، لكن الأضواء فيه خافتة، والستائر الثقيلة المحيطة به من كل جانب جعلت الرؤية ضعيفة رغم حلول النهار استنشق يوستار الهواء المتلبد برائحة العطارة والحبس، ثم اقترب من السرير المُغطى بستائر كثيفة.
“أخي، أنا يوستار.”
سُمع صوت سعال آخر، ثم لاح في الظل خلف الستائر طيف يتحرك ببطء، كشبحٍ هائم.
“باسو، أزِح الستائر من فضلك.”
أزاح كبير الخدم الستائر وثبّتها أعلى قبة السرير، فتجلّت بوضوح هيئة الرجل الجالس عليه: أود هايونموريك، ملك شيروو الحالي وشقيق يوستار الأكبر
بدا أكبر سنًا بكثير من يوستار ورغم أن فارق السن الحقيقي بينهما هو أربعة عشر عامًا، إلا أن الملك أود، الذي لم يبلغ الأربعين بعد، بدا كأن الشيخوخة أنهكته كأطلال مهجورة.
شعره الأشقر الذي كان لامعًا قد باهت لونه وامتلأ بالشيب، وبنيته القوية سابقًا انكمشت بشكل مؤلم، حتى غدا جسده الهزيل داخل ثوبه الفضفاض باعثًا على الشفقة.
أراد أود أن يتحدث، لكنه انحنى فجأة وسط سعال عنيف فسارع يوستار إلى دعمه بيده ومسح فمه بمنديله.
“هل أنت بخير يا أخي؟ قيل لي إن الصداع اشتد، لكن حالتك تبدو أسوأ من ذلك.”
“أنا بخير.”
خرج صوت أود مبحوحًا، متشققًا كالمعدن وكان كل شهيق يصدر عنه كأنما يصدر من صدر مثقّب.
نظر يوستار إلى كبير الخدم وسأله:
“باسو، هل زاره الطبيب الملكي؟”
“نعم، سمو الأمير وصف له دواءً جديدًا، وأجرى سحبًا للدم.”
“ومع ذلك، رغم تكرار سحب الدم، لم يُعرف سبب المرض حتى الآن ماذا عن الذي طلبت التحقيق فيه من قبل؟”
“في الواقع، لا يزال…”
رفع أود يده مقاطعًا حديثهما.
“كفى توقفا باسو، اخرج.”
تردد كبير الخدم قليلًا، لكنه امتثل لأمر الملك وغادر وحين بقي الاثنان وحدهما في الغرفة المعتمة، لان وجه أود قليلًا.
“يوستار، هل تفتح الستائر؟ أشعر بالاختناق.”
نهض يوستار على الفور وفتح الستائر الثقيلة فاقتحمت أشعة شمس الظهيرة المكان فجأة بضوء ساطع وعنيف.
وبعد انكشافه تحت الضوء، بدا منظر أود أكثر مأساوية من ذي قبل كانت الهالات السوداء قد تجمعت تحت عينيه، وشفاهه جافة متشققة بالكامل.
“أخي، ينبغي لك أن تشرب الماء.”
“لا، لا حاجة المهم الآن… فلنبدأ بالحديث المهم كنت أشعر أنك ستعود ما أخبار ما كنت تبحث عنه؟”
صمت يوستار للحظة، ثم ابتسم ابتسامة باهتة وأومأ برأسه.
“لقد وجدتها.”
رفع أود عينيه المنهكتين وحدّق بأخيه مطولًا كانت نظرته بلا تعبير، لكن المشاعر التي خلفها كانت معقدة للغاية.
“هل هي حقًا ساحرة؟”
“نعم، لا شك في ذلك وهي وسيطة روحانية بالغة القوة حتى لو بحثنا في أنحاء القارة، لن نجد من يضاهيها قوة لذا، لا تقلق، يا أخي بوجودها، سنتمكن من إعادة شيروو إلى ما كانت عليه بسرعة أكبر.”
“إعادتها إلى ما كانت عليه… نعم، هذا ما ينبغي فعله، لا بد من ذلك.”
انطلقت من صدره أنفاس متقطعة خشنة ثم قال وهو يحوّل نظره مبتعدًا عن يوستار، غارقًا في التفكير:
“أين هي الآن؟”
“مع الماركيزه هيميرد بدا عليها الإرهاق من السفر، لذا رتبت لها مكانًا لتستريح فيه.”
“أحسنت أرغب برؤيتها متى يمكنني ذلك؟”
تردد يوستار لحظة ورمش بعينيه أن يرى لايلا الملك… ذلك كان أمرًا لا مفر منه بعد أن جلبها إلى القصر، لكنه لم يرغب في إثقال كاهلها اليوم، فقد مرت بما يكفي من الارتباك.
“إن كان جلالتك بخير، فسأحضرها غدًا.”
رمش أود بعينيه، وكان جلده رقيقًا ومتدلّيًا لدرجة أنه بدا كغشاء زواحف شفاف.
قال وهو يحدّق في يوستار:
“حسنًا، لنفعل ذلك اذهب الآن كنت أتمنى أن نتعشى معًا، لكن يبدو أن هذا صعب اليوم سنؤجل ذلك إلى الغد.”
“كما تشاء، أخي إذًا، استرح جيدًا.”
أومأ أود برأسه إشارة إلى انصرافه.
وقف يوستار للحظة يحدق في شقيقه الذي يلهث على السرير، ثم غادر عبر الباب الرئيسي للجناح بدلًا من الباب الذي دخل منه ومن خلف الباب الذي انفتح وانغلق، ظهرت هيئة باسو ينحني ليوستار.
وفي تلك الأثناء، تمتم أود وقد اتسعت عيناه المحمرتان:
“الساحرة… نعم، تلك الساحرة ضرورية أنت بحاجة إلى تلك الساحرة، يا يوستار.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 16"