“قلت لكِ من قبل يمكنني إخبارك بذلك فقط عندما تعرفين عني أكثر.”
كان يبتسم بهدوء، لكن لايلا شعرت بأن جدارًا أقوى وأعلى من أي وقت مضى يحيط به من كل جانب.
جدار متين إلى درجة بدا معها أنه لا يمكن اختراقه بأي وسيلة جدار يبعث على الاستسلام لمجرد النظر إليه…
حدّقت لايلا بصمتٍ فوق كتفه، وعبست حاجبيها بدا وكأن خيطًا رقيقًا من الدخان مرّ من أمامها وكأنه يسخر منها، لكنها هزّت رأسها وعادت لتنظر، لتدرك أنها كانت تتخيل.
قال يوستار:
“الآن حان وقت النوم أعتقد أن تكلفة الإقامة قد سُدّدت بالكامل.”
“سدّدت بالكامل؟”
التفت يوستار إليها بينما كان يهمّ بالجلوس على السرير استعدادًا للنوم.
“ما الأمر؟”
أظهرت لايلا تعبيرًا وكأنها تسأله: هل تتحدث بجدية؟
“ألن تُبلّغ الحرس عن السيدة نولون؟”
غرق يوستار في التفكير للحظة.
“لا أرى ضرورة لفعل ذلك.”
“لقد ألقت بجثة تلك المرأة في البئر! وكأنها قمامة! لو أن السيدة نولون أبلغت فقط، ربما تم القبض على الرجل الذي قتلها، لكنها لم تفعل ولذلك، تلك المرأة…”
كانت تتألّم فكرت لايلا هناك بعض الأرواح التي تؤذي البشر بدافع الشر فقط، لكن لا بد أن هناك من هم ليسوا كذلك.
الألم في الحياة يمكن أن يُمحى بالموت، ولكن حين يرتبط الألم بالموت، يصبح قيدًا لا يمكن الفكاك منه بأي وسيلة.
—يقال إن من يرتكب الشر يذهب إلى الجحيم بعد موته لكن ذلك ليس صحيحًا بالكامل، لايلا.
تذكّرت لايلا كلمات والدتها لم تكن تفهمها حينها، لكنها الآن أدركت معناها تمامًا لم يكن المرء بحاجة إلى ارتكاب الشر ليسقط في الجحيم فحتى من لم يرتكب شرًا يمكنه أن يعاني في جحيمٍ لا هو حيّ فيه ولا ميت.
“السيدة نولون مذنبة أيضًا يجب أن تدفع ثمن ذنبها.”
استدار يوستار نحو لايلا.
“طبعًا، هذا هو العدل لكن لا ضرورة للقيام بذلك، أليس كذلك؟ الشيء الذي كان هنا قد اختفى، ولن يظهر مجددًا وحتى إن بلّغنا عن السيدة نولون ، فهل تظنين أن جثة تلك المرأة لا تزال كما هي؟ لا أظن على الأرجح، لم يتبقَ منها سوى العظام لا يمكن فعل شيء بجثة كهذه ومن المستحيل أيضًا العثور على الرجل الذي قتلها.”
“أنت ترى أن لا معنى لذلك، أليس كذلك؟”
“ليس تمامًا… لا، ربما أنت على حق أجل، لايلا أظن أنه أمر لا جدوى منه أمر لا يلزمنا التدخل فيه.”
قالت لايلا:
“الأمور التي تتعلق بالأحياء ليست وحدها المهمة أحيانًا… أحيانًا، أظن أن علينا أن نتصرف بعدل من أجل الأموات أيضًا هكذا أعتقد.”
“حتى لو كان الموتى لن يشكروك على ذلك؟”
“نعم، حتى لو كان الأمر كذلك.”
ساد صمت ثقيل في الغرفة المظلمة فكّرت لايلا، ماذا لو انفجر هذا الصمت المنتفخ؟ هل ستتحطم هذه النُزُل تمامًا؟ الأرضية الخشبية المهترئة، والسقف المتعفّن، والمرايا المغطاة بالزيوت والغبار… هل ستتفتت كلها وتطير بعيدًا؟
عندما كانت صغيرة، حدث شيء كهذا ذات مرة استغرقت لايلا لحظة في الذكريات القديمة ثم استعادت وعيها كان يوستار لا يزال يحدّق بها بثبات.
كأنه لا يفهم، لكن في عينيه بعض الفضول هل من الممكن أن هذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها كلامًا كهذا؟ بدا ذلك غير معقول، لكنه بالنسبة إلى لايلا، كان شعورًا حقيقيًا قويًا بشكل غريب.
“لا أرغب في الجدال معك، لايلا.”
رمشت لايلا بصمت.
حتى في تلك اللحظة القصيرة، لم يبعد يوستار نظره عنها وكأنه يعتقد أنها ستغيّر رأيها فقط إن واصل النظر إليها…
لا فكرت لايلا هذه المرة لن يحدث ذلك.
(لا أريد أن أعارضه.)
صوت آخر تردّد في داخلها صوت يخصها، ومع ذلك ليس صوتها…
أخيرًا، رفع يوستار يديه وهزّ رأسه.
“حسنًا، سنفعل كما تقولين في الصباح، عند بزوغ الضوء، سأذهب للحرس وأطلب منهم التحقيق في البئر الجاف هل يرضيك هذا؟”
“ويجب أن تذكر السيدة نولون أيضًا.”
ظهرت ابتسامة خافتة على وجه يوستار.
“الحرس لن يتمكنوا من إيجاد أي دليل ضدها على أي حال ومع ذلك، لا بد من القيام بذلك، أليس كذلك؟”
أومأت لايلا برأسها بحزم.
“نعم، لا بد من ذلك حتى لو لم نجد شيئًا، حتى لو لم يتغير شيء، فهذا هو الصواب.”
“حسنًا الآن علينا النوم حقًا استخدام البوابة يحتاج إلى طاقة لذا، نامي لايلا.”
انتظرت حتى أطفأ يوستار المصباح، ثم مشت عائدة إلى السرير واستلقت عليه وبقيت مستلقية تنظر إلى السقف، تتأمل في الظلام أمام عينيها لفترة طويلة.
***
في فجر اليوم التالي، حين كانت السيدة نولون تغفو على الطاولة، فتحت عينيها لترى لايلا ويوستار ينزلان بسلام، فبدا على وجهها تعبير وكأنها رأت شبحًا.
“لا يعقل! هل تقولان إنه… لم يحدث شيء على الإطلاق؟”
قال يوستار:
“في الواقع، لم يكن الأمر بلا أحداث لكن، الكيان الذي كان هناك قد اختفى الآن لن يعود للظهور.”
اتسعت عينا السيدة نولون بذهول، ثم فتح فمها الواسع بدهشة.
“أوه، كيرون المقدس! يا إلهي، أنتما حقًا من فرسان تنتينيلا! كنت أظن أنكما تكذبان فقط لتأخذا الغرفة مجانًا!”
“من حسن الحظ أن الأمر لم يكن كذلك.”
“بالتأكيد! كنت قد عزمت أمري على التخلص من جثة أخرى هذا الصباح، كما تعلمان!”
بدت السيدة نولون ثرثارة ومبتهجة على نحو ملحوظ مقارنةً بأول مرة التقيا بها لا شك أن الشيء الذي كان في تلك الغرفة كان عبئًا ثقيلًا عليها.
(لو أنكِ فقط لم تتركي تلك المرأة هكذا…) فكرت لايلا لا، كانت على وشك قولها… لكن قبل أن تتكلم، أوقفها يوستار بحركة طبيعية.
“سننصرف الآن.”
“نعم، نعم، شكرًا لكما”
“لا شكر على واجب.”
وضع يوستار يده على كتف لايلا هبّ نسيم الصباح الباكر رائحة النهر الممزوجة بروائح أخرى… نظرت لايلا إلى شعر يوستار المعقود والمرفوع، يتمايل في الريح.
“لماذا منعتني من الكلام؟”
“لا حاجة لأن نكون نحن من يكشف عن ذنبها هذا من مهام الحرس.”
“وما الفرق؟”
تمتمت لايلا بالسؤال كانت تضع القلنسوة وتخفض رأسها قليلًا، فلم يكن بوسعه رؤية وجهها.
“لا أعلم ما الذي تفكرين به، لكن أتمنى أن تعلمي أنني لست بهذا القدر من القسوة.”
تنهدت لايلا بعد لحظة من الصمت.
“لم أفكر بذلك كثيرًا.”
“هذا جيّد إذًا ذلك المبنى هناك يبدو مقرّ الحرس، لنذهب ونخبرهم بالأمر باختصار.”
***
ما إن خرجا من القرية ودخلا طريقًا نائيًا خاليًا من الناس، حتى شعرت لايلا بأن ذهنها قد أصبح أكثر صفاء لم يكن هناك أي صوت سوى صوت خطوات يوستار بجانبها.
صوت الرياح وهي تحرّك الأغصان، أو أحيانًا صوت حفيف الأوراق، أو صوت طائر يحلّق فحسب سكون مألوف، نشأت عليه طَوال حياتها، حتى إنه بدا لها أكثر ألفة من الصمت التام، كوسادة ناعمة تحيط بها من كل جانب.
قالت لايلا فجأة وكأنها تذكرت أمرًا:
“يُقال إن أحد الملوك في الماضي حبس زوجته في غرفة جُدرتُها كلها وسائد.”
كان صوتها في هذا المكان أوضح وأنقى بكثير مما كان عليه في القرية.
سألها يوستار:
“ولِمَ فعل شيئًا كهذا؟”
“لأنها كانت تكره الملك بشدة ويبدو أنه خشي أن تصطدم رأسها بشيء وتموت.”
“قصة مروعة بعض الشيء.”
بدت لايلا وكأنها اعتادت على ذلك النوع من القصص.
“أمي كانت تتحسر وتقول، لو أن تلك المرأة، أعني الملكة، كانت ساحرة حقًا، لما وقعت في حب رجل كهذا.”
قال يوستار:
“لا تقولي إنكِ تظنين أن ما فعله كان حبًا، أليس كذلك، لايلا؟”
توهّجت عينا لايلا الحمراوان ببريق خالٍ من المشاعر.
“لا، لا أعتقد ذلك لكن أليس كل حب من هذا النوع؟ تقييد للطرف الآخر؟ حتى وإن لم يكن سجنًا مهووسًا مبطنًا بالوسائد.”
أمال يوستار رأسه وابتسم بلطف.
“من يعلم ، ربما يوجد حب لا يشعر فيه الطرفان بالتقييد.”
“وكيف يكون ذلك؟ فالحب في النهاية يعني…”
بدت لايلا وكأنها تبحث عن الكلمات، فترددت شفتاها قليلاً وغرقت في التفكير، ثم قالت بتعبير غامض:
“أن تستمر بالتفكير في شخص واحد فقط.”
قال يوستار:
“أنا لا أحب أحدًا بعد، لكن إن أحببتُ يومًا، لا أظنني سأعدّه قيدًا ومن يدري؟ ربما أنتِ أيضًا ستشعرين بذلك، لايلا.”
وهنا انتهى الحديث فبالأساس، كان منظور كلٍّ منهما للحب مختلفًا تمامًا ناهيك عن أنهما لم يتعرفا إلى بعضهما إلا منذ ثلاثة أو أربعة أيام فقط.
قال يوستار:
“ها، لقد وصلنا أخيرًا من حسن الحظ أننا بلغنا المكان قبل أن يتأخر الوقت كثيرًا.”
نظرت لايلا أمامها كما قال، لكنها لم ترَ شيئًا كان هناك سهل دائري مكشوف، لكنه صغير بل، كان ما بعده هاوية.
قالت:
“لا يوجد شيء هنا.”
فقال يوستار:
“آه، البوابة الموجودة هنا ليست شيئًا ماديًا هذا المكان، هذه البقعة بحد ذاتها هي البوابة في الواقع، نحن الآن بالفعل داخل حدود البوابة وأظن أن مقر الفرع قد تلقى إشعارًا بأننا على وشك الانتقال.”
رمشت عينا لايلا بدهشة أن يكون المكان نفسه هو البوابة؟ هل يُعقل أنه بمجرد الوقوف على عشب بلون مختلف ستُرفع في الهواء وتنتقل إلى مكان آخر؟
يا له من كلام سخيف هكذا فكرت صحيح أنها لم ترَ بوابة بعينيها من قبل، لكنها كانت تعرف عنها قدرًا لا بأس به.
كانت قد قرأت في الكتب أن البوابات غالبًا ما تكون صخورًا منقوشة عليها دوائر سحرية، أو أشياء جامدة… وأن هذه هي التي تُستخدم كبوابات.
“إن كان هذا هو البوابة، فماذا يجب أن نفعل الآن؟”
ابتسم يوستار وهو ينظر إليها كمن يقول: “ألستِ تعرفين بعد؟”
“علينا أن نقفز، طبعًا.”
وفي اللحظة نفسها، احتضن يوستار خصر لايلا وانطلق بها نحو الهاوية القريبة بسرعة خاطفة.
حين وطأت قدمه حافة الهاوية، نظرت لايلا إلى الأسفل، حيث كان الانحدار شديدًا، فشهقت وتوقف نفسها رأت الصخور السوداء تقف منتصبة كالإبر العملاقة.
(سأموت) هكذا فكرت لايلا، ولم تستطع حتى أن تصرخ أغمضت عينيها بقوة، وقد أيقنت أن جسدها سيتهشم فوق الصخور قبل أن تلتقط أنفاسها.
لكن ذلك لم يحدث.
سمعت في أذنها صوتًا حادًا ومرتفعًا يشبه الصفير تلا ذلك شعور بالغثيان، وما إن أمسكت ببطنها حتى سمعت صوتًا غليظًا وغريبًا:
“يا سيد يوستار! كم مرة قلت لك إن تلك البوابة غير مستقرة في الاتصال!”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 13"