كان يوستار، الذي كان يحدّق إليها بصمت، قد حرّك زاوية فمه كأنّه يبتسم بتعبير هدأ شيئًا ما.
“هل أنتِ غاضبة؟”
تحرّكت شفتا لايلا قليلاً شعرت بقشعريرة تسري في جسدها.
كان الناس يصرخون ويتقيؤون.
وصل حراس البلدة متأخّرين وأسرعوا بتغطية جثة الرجل المهترئة، لكن الدم استمر في التدفق مبللًا الأرض جرى كالنهر وتسرّب إلى القناة التي تقطع وسط القرية.
وسط كل تلك الضوضاء، أغمضت لايلا عينيها للحظة كانت تفعل ذلك كثيرًا حين تشعر بالارتباك، لكن هذه المرة لم يهدأ شيء في داخلها بل على العكس، ازدادت الأصوات التي لا تريد سماعها وضوحًا.
“هل أنتِ غاضبة، لايلا؟”
فتحت لايلا عينيها ونظرت إليه من تحت قلنسوتها.
“لست غاضبة أنا فقط… لم أستطع تقبّل طريقتك.”
بدأ الحراس يرمقونهما بنظرات جانبية ابتسم يوستار لهم ابتسامة خفيفة، ثم قاد لايلا بحركة طبيعية.
في تلك اللحظة، فكرت لايلا بأنها تريد أن تزيح يده، لكنها في الوقت نفسه أرادت أن تمسك بها بقوة أكبر وكأن رغباتها انقسمت إلى نصفين.
“سواء تقبّلتِ ذلك أم لا… في النهاية، كان روحًا تائهة متداعية لقد رأيتِ ذلك بنفسك، أليس كذلك؟ لو تُرك على حاله، لكان سيلتصق بذلك المكان ويؤذي الأبرياء.”
“أنا أعلم ذلك لكنك كنت تستطيع… القضاء عليه دون فعل كل ذلك، أليس كذلك؟ كما فعلتَ في ريجيكوس.”
أومأ يوستار برشاقة.
“نعم، كان بإمكاني ذلك.”
“فلماذا لم تفعل؟ لقد أجبرتَ ذلك الرجل الأحمر الشعر على استقبال روحه، أليس كذلك؟ هل يمكنك فعل شيء كهذا؟ ألم تقل إنك لست وسيطًا روحانيًا؟”
“لست وسيطًا، صحيح لكنني أستطيع فعل أمور كهذه.”
عندما دخلا زقاقًا خلف نُزل قليل الحركة، أزاحت لايلا يد يوستار عنها.
نظرت حولها ثم خلعت قلنسوتها وحرّكت شعرها المشوش هنا وهناك زوج من العينين الحمراوين حدّق في يوستار بصمت.
“كيف يمكنك فعل ذلك؟ هل استعنت بقوة أداة سحرية أيضًا؟”
“لا، هذه… قوة أمتلكها لأكون دقيقًا، إنها قوة يعيرني إياها شخص ما.”
في تلك اللحظة، تذكّرت لايلا الدخان الأسود الذي كان يتلوى خلف كتفه ما الذي كان ذلك؟ هل ذلك هو “الشخص” الذي كان يقصده؟ أم أنها قوته الحقيقية؟
توالت الأسئلة في رأسها حتى شعرت بأن دماغها سينفجر تنفست لايلا بعمق وقالت:
“أأنت… حقًا إنسان؟”
ضحك يوستار وكان لتلك الابتسامة أن تكسر قفل قلبها مرة أخرى، رغم إرادتها كأن شيئًا فيه تسلل إلى داخلها وهمس لها ألا تقلق.
“لا تقلقي، لايلا مهما قيل، فأنا إنسان مثلك نحن متشابهان.”
ضحكت لايلا بسخرية.
“الناس العاديون لا يقولون ذلك لساحرة حقيقية.”
“أنا لست شخصًا عاديًا على أي حال، السبب في قدرتي على القيام بأفعال مماثلة للوسطاء الروحيين، رغم أنني لست واحدًا منهم، هو هذا لكن لا يمكن مقارنتي بوسيط حقيقي ولهذا السبب أحتاجك.”
تنهدت لايلا، وقد كانت تعض شفتها وذراعاها مشبوكتان، كمن استسلم أخيرًا الريح التي هبّت من طرف الزقاق حرّكت شعر يوستار الطويل بقوة.
“حسنًا، فلنذهب إذن، آنسة الساحرة لدينا أمر آخر وعدنا به لن أمنعكِ إن أردتِ التجول في البلدة أكثر، لكن يبدو أن هناك أشياء كثيرة مشابهة لما رأيناه قبل قليل.”
لم يكن هناك حاجة لتخويفها بذلك، إذ أن لايلا كانت تكره الأماكن المزدحمة بطبيعتها. أعادت ارتداء قلنسوتها وسارت نحو نُزل السيدة نورلن .
***
كانت السيدة نولون قد نظّفت الغرفة المشؤومة كما وعدت.
صحيح أنها لم تكن نظيفة كالغرف الأخرى، لكنها كانت خالية إلى حد ما من الغبار، وكانت الأغطية نظيفة رغم أن شبكات العنكبوت كانت لا تزال معلّقة في زوايا السقف، فإن العنكبوت نفسه لم يكن موجودًا.
عندما أغلق يوستار الباب، كانت أول ما فعلته لايلا هو خلع قلنسوتها.
انعكست صورة شعرها الأسود القصير، الذي كان يهتز قليلاً على وشك ملامسة كتفيها، على المرآة الضبابية بشكل باهت لم تكن مرئية تمامًا، لكن رؤية وجهها عن قرب على ذلك النحو جعلتها تشعر بشيء غريب.
في تلك اللحظة، ظهر يوستار فجأة خلفها، ومن وقفتهما المتراصة، أدركت فجأة كم هو طويل كان أطول منها برأس تقريبًا، وكتفاه عريضان لكن بزته الضيقة جعلت هيئته تبدو رشيقة أكثر من كونها خشنة.
“أليس لديكِ أي رأي بخصوص مشاركتي في الغرفة؟”
نظرت لايلا إلى يده التي استقرت بخفة على كتفها، وفكرت: لم يخطر ببالي ذلك أصلاً.
“هل من المفترض أن أقلق؟”
سألت لايلا وفي تلك اللحظة، هل كانت تتوهم؟ بدا وجه يوستار في المرآة وكأنه وجه شخص آخر لوهلة.
لم يتغير كليًا، لكنه بدا وكأن هناك وجهًا آخر مرّ فوق وجهه الحقيقي، كأنّه قماش رقيق جدًا وجه مثير إلى حدّ يخنق القلب…
“هل من المفترض أن أقلق؟”
عادت لتكرر السؤال، فضحك يوستار الذي ظل صامتًا حتى اللحظة وعندها اختفى ظل ذلك الوجه الآخر عن وجهه تمامًا، كما لو أن زجاجًا سكريًا تحطم فجأة.
“لا، لا داعي لذلك أعدكِ، إن حاولت فعل أي شيء، فيمكنك تجفيف لساني بالكامل.”
“قلتَ إن ذلك يتطلب وجود ‘تينك’، أليس كذلك؟”
أزاحت لايلا يده عنها بلمسة خفيفة، ثم عبست قليلًا قائلة:
“تينك… كان هناك مذكرة تركتها والدتي، مع بعض المكونات كانت كلها في المنزل، رغم ندرتها لكنني فقدتها كلها.”
انتظرت أن يقول يوستار شيئًا، لكن توقّعاتها خابت في تلك اللحظة، كان قد تراجع خطوة إلى الوراء، وأدار رأسه قليلاً نحو ما خلف كتفه بتعبير غريب.
“يوستار.”
نادته لايلا وفجأة عبس يوستار بشدة، مما جعل لايلا تتراجع بخوف وتقبض على قبضتها.
لكن ذلك لم يدم طويلًا.
لم يهاجمها فجأة، ولم يُصدر صوت زمجرة كحيوان بري بدلًا من ذلك، استدار نحوها وكأن شيئًا لم يحدث، وابتسم ابتسامة رُسمت بعناية.
“آسف فقط شردت قليلاً ماذا قلتِ مجددًا؟”
طرفَت عينا لايلا الكبيرتان ببطء كانت تحاول أن تجد شيئًا غريبًا في يوستار، لكنها لم تستطع اكتشاف شيء كان كل شيء حوله طبيعيًا، وتصرفه لم يختلف عن السابق.
“قلت إن المنزل احترق… وفقدتُ كل المكونات النادرة تلك التي أحتاجها لصنع تينك.”
“آه، إن كان الأمر كذلك فلا داعي للقلق يمكننا الحصول عليها متى شئنا.”
“لكنك لا تعرف ما هي تلك المكونات.”
أومأ يوستار برأسه كما لو أنه يوافق على ما قيل، لكنه لم يُبدِ أي نية للتراجع عن تصريحه السابق.
“هذا صحيح، لكن مهما يكن ما تبحثين عنه، فأنا واثق من قدرتي على إيجاده كله ثقي بي وعلى كل حال، معذرة لكوني غير مهذب أمام سيدة، لكن هل يمكنني أن أستلقي قليلاً على السرير؟ يبدو أن التعب بدأ يغمرني الآن فقط.”
ثم، ومن دون أن يُمهل لايلا فرصة للرد، جلس على السرير الضيق بتراخٍ، ثم خلع سترته.
وخلع كذلك الصديري الذي كان يرتديه تحتها، وفكّ بضعة أزرار من قميصه تحت عظمة الترقوة التي انكشفت قليلاً، بدت ندبة كبيرة وكانت تلك الندبة على ما يبدو تمتد على الأقل حتى أعلى صدره، وربما تصل إلى بطنه إذا كانت أعمق.
رمى يوستار ملابسه على ظهر الكرسي العتيق، ثم انحنى بجسده كانت الشراشف التي تم تبديلها حديثاً نظيفة، لكنها لم تكن تفوح منها رائحة طيبة ربما كانت مخزنة في ركن من أدراج الخزانة لفترة طويلة قبل أن تُفرش الآن.
تنهد يوستار طويلاً، ثم غطى عينيه بذراعه وقال:
“قالت لنا السيدة نورلن سابقاً… إن عدة أشخاص قد ماتوا في هذه الغرفة بالفعل.”
“نعم، قالت ذلك.”
“برأيكِ، لايلا، ما الذي تعنيه السيدة نورلن حين قالت إن هناك شيئاً ‘شريراً’ هنا؟”
هزّت لايلا كتفيها كما لو أنها لا تعلم.
“أليس من الممكن أن يكون شيئاً مثل ما رأيناه سابقاً؟”
“ربما من الأرجح أنه شيء أقدم بكثير وقد التصق بهذا المكان… وإن كان كذلك، فهذا يعني أن شخصاً ما مات هنا في النزل لكن السيدة نورلن لم تذكر ذلك ومن المؤكد أنها لن تجيب إذا سألناها عمّا حدث.”
في تلك اللحظة، بدأت نقاط حمراء صغيرة تومض أمام عيني لايلا فجأة لكنها ما لبثت أن اختفت حين عقدت حاجبيها وفركت عينيها.
“لايلا؟”
“عذراً، يبدو أن شيئاً دخل عيني أممم… برأيك، هل تعتقد أن السيدة نورلن… لها علاقة بهذه الأمور الغريبة؟”
“أرجّح أن احتمال ذلك كبير.”
“لكن السيدة نورلن ما زالت على قيد الحياة وهذا يعني… أياً يكن ما يوجد هنا، فهو غير قادر على مغادرة هذا المكان ولا أشعر الآن بشيء على الإطلاق حقاً لا أشعر هناك أشياء لا تظهر إلا في أوقات معينة، أو عندما تتوفر ظروف محددة قد يكون من ذلك النوع.”
أشار يوستار إلى جانبه بظهر يده، كما لو أنه أستاذ جامعي يشير لطالب ذكي بالجلوس قربه.
نظرت إليه لايلا للحظة، ثم جلست إلى جانبه دون أي مقاومة تُذكر وما إن جلست، حتى أدركت أن السرير لم يكن واسعاً جداً وراودها شعور قوي بأنها لن تنعم بنوم مريح هذه الليلة.
“لا تقلقي لديكِ عين خاصة، وبفضل تلك العين أستطيع أنا أن أتعامل مع أي شيء يظهر أي شيء كان، يا لايلا.”
“عن القوة التي تحدثت عنها سابقاً… تلك التي قالوا إن أحدهم أعارك إياها، ألا تشمل أيضاً امتلاك عين مثل عيني؟”
عندما سألت لايلا، ارتسم على وجه يوستار ابتسامة ساخرة، ومالت زاوية فمه قليلاً.
“لا، ليس كذلك لكنني لا أرغب باستخدام تلك الطريقة الكيان الذي يمنحني القوة لا يخدمني بالمجان، كما تعلمين عندما يمنح شيئاً، فإنه يأخذ شيئاً مقابله حتماً امتلاك قوة تكفي لـ‘التلبّس’ أو ‘التماثل الكامل’ يشكل عبئاً كبيراً حتى عليّ.”
“أخبرني ما هو ذلك الكيان.”
لكن يوستار حرّك رأسه ببطء نافياً.
“ليس بعد ، ليس الآن لا يمكنني إخبارك بذلك قبل أن تعرفيني أكثر، لايلا.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 11"