10
راودت لايلا في لحظة تلك الأداة السحرية الغريبة التي استخدمها يوستار في قرية ليزيكوس.
ذلك الشيء الذي كان يتحرك بسرعة كأنه يطير… لكنها تتذكر أنه قال شيئًا عن حاجته إلى الشحن أو شيء من هذا القبيل، أليس كذلك؟ على أي حال، لو كان ذلك الشيء بحوزته الآن، لما كان عليهما أن يسيرا نصف نهار كامل.
لم يستغرق الأمر منها سوى بضع ثوانٍ لتدرك أن يوستار لم يستخدم أي أداة سحرية فقد كانت ببساطة بين ذراعيه، وهو يشق طريقه راكضًا بين الناس بأقصى سرعة ممكنة.
“يوستار، لا يمكنك الهروب بهذه الطريقة!”
صرخت لايلا مثل هذا التصرف لا يجذب سوى انتباه الأشباح.
استدارت برأسها، فرأت روح الرجل تتبعهم بسرعة لا تُصدق، فعضّت شفتيها بقوة ساقه اليمنى كانت متعفّنة لدرجة أنها بالكاد تُرى، لكنه رغم عرجه الشديد، كان يقترب منهما بخطوات واسعة.
“يوستار!”
“أعرف، لايلا لا تقلقي، لست أركض بلا تفكير.”
قال هذا وهو يقفز بخفة بين البسطات الضيقة، لا يزال ممسكًا بلايلا بين ذراعيه.
وحينما شعرت بجسدها يرتفع فجأة في الهواء، أمسكت بتلقائية بطرف سترته وما إن وصلا إلى مكان أقل ازدحامًا، حتى حملها يوستار على كتفه بيد واحدة وبدأ يُفتش في جيبه.
“لحظة فقط، تحمّلي قليلًا.”
أنا أكره هذا الوضع، فكرت لايلا لم يكن مزعجًا فحسب أن تكون متدلية كحقيبة على كتفه، بل الأسوأ من ذلك أنها لم تستطع أن تُبعد عينيها عن الشبح الذي يكاد يصل إليها.
لو كان لا يزال حيًا، لانخلع فكّه من شدة اتساع فمه، ومنه كانت تسقط أسماك متعفنة واحدة تلو الأخرى.
“تمّ الأمر، تحمّلي بعد قليل فقط.”
أعاد يوستار جسد لايلا إلى الأمام ليحتضنها مجددًا ورأت رايلا في تلك اللحظة العدسة الأحادية التي يضعها على عينه اليمنى.
“تلك العدسة…”
“هذا الاتجاه أفضل.”
استدار بسرعة ودخل إلى زقاق ضيق، ثم أنزل لايلا.
في تلك اللحظة، اقترب الصوت المبلل المتخبط، وظهر الرجل ذو الفم المفتوح على مصراعيه أمام أعينهما لا يُعلم إن كانت ذراعه قد طالت من كثرة الجري، أو إن كانت طويلة منذ البداية، لكنها بدت وكأنها تلامس الأرض.
“لايلا ، لا تغمضي عينيك انظري جيدًا لأنك إن نظرتِ جيدًا، فسأستطيع أنا أيضًا أن أرى بوضوح.”
صدر صوت كاحتكاك مفصّل صدئ كان ذلك عندما رفع الرجل ذراعه ولوّح بها كما لو كانت سوطًا، فقفز يوستار إلى الوراء محتضنًا لايلا لتفادي الضربة.
“أنا… أنا عليّ فقط أن أنظر، أليس كذلك؟”
“نعم، صحيح لا تغمضي عينيك انظري، واستمعي لقد قمتِ بذلك من قبل تستطيعين فعلها.”
رأت اليد البيضاء الرطبة تُصفق على الأرض وتُجرّ تاركة أثرًا كجلد الأفعى الذي يتحرك وحده.
لايلا ، وهي تقاوم غثيانًا صاعدًا من معدتها، فتحت عينيها على وسعهما وحدّقت في الرجل كانت أذناها تمتلئان بأصوات طنين متواصلة كما سمعت صوتًا يقطع الهواء وكأنه شيء اخترقه بسرعة.
—لقد قتلني هو الذي قتلني! ذلك الوغد قتلني!
أدركت لايلا أن الصوت يعود لذلك الذي يقف أمامها، والذي تعفّن معظم جسده كان مفعمًا بالغضب لم يكن فيها سوى الغضب والصراخ، ولا شيء آخر.
هذا خطر فكّرت لايلا ، تحاول استعادة توازن جسدها المتخشّب من التوتر.
بعض الأرواح تحتفظ بجزء من عقلها، أما بعضها الآخر فلا ومن بين تلك التي لا تملك عقلًا، يُعدّ أكثرها خطرًا هي الأرواح الغارقة في الغضب لا بد أن هناك قصة خلف موت هذا الرجل لم يكن حادثًا عاديًا…
“هل تستطيعين القيام بـ‘التلبّس’، لايلا ؟ ”
همس يوستار بجانب أذنها كان قريبًا جدًا، لكن في مثل هذا الوضع، كانت حقيقة وجوده خلفها تمامًا هي الشيء الوحيد الذي يُشعرها بالأمان.
“أن أرى ذكريات ذلك الرجل؟ كما فعلت في تلك المرة؟”
“نعم، صحيح تعلمين أن حتى الأرواح المتبقية فقط على هيئة طيف ما تزال تملك ( نواة )، أليس كذلك؟”
أومأت لايلا برأسها في تردد، تعضّ شفتها السفلى.
“أجل، أعلم.”
“وأنتِ وحدكِ، كوسيطة روحية، قادرة على رؤيتها أنا أستطيع أن أراها بوضوح من خلال هذه العدسة وبفضل قوتك، لكن لا يمكنني النظر داخلها لأنني لست وسيطًا روحيًا سأشرح لك لاحقًا.”
“ولماذا عليّ أن أنظر إلى تلك النواة؟”
استدارت إليه وسألت بنبرة تنطوي على تحدٍّ لم تكن تعرف ما هي نواة ذلك الرجل، لكنها لم تشعر برغبة في رؤيتها لا يبدو أنها سيكون عرضًا ممتعًا في سيرك متنقل، على أية حال.
أجابها يوستار بصوت هادئ:
“لأنك إن عرفتِ ما هي تلك النواة، سيكون الإمساك به أسهل بكثير.”
الإمساك به تمعّنت لايلا في الكلمة في قلبها كما فعل في قرية ليزيكوس عندما أزال أرواح الأطفال… هل يقصد ذلك؟ لكن…
“فهمت سأحاول.”
أومأت لايلا برأسها، ثم رفعت عينيها ونظرت إلى الرجل مباشرة.
كان شيء أسود قاتم يُصدر صوتًا غريبًا وهو يصعد من فمه تساقط ذلك الشيء على جسده المتعفّن والممزق وسال إلى الأرض.
—لقد قتلني… قتلني… ذلك الوغد قتلني…
ركّزت لايلا كل حواسها في صوته، في عينه الوحيدة المتبقية، وفي فمه المفتوح على اتساعه شعرت بوجوده يزداد قوة أكثر فأكثر.
أن تشعر لايلا بالأرواح وتستدعيها كان كأن تكتشف فجأة بقعة لم تكن تعلم بوجودها.
طالما لم تكن تراها، فمهما كانت تلك البقعة كبيرة أو في مكان ظاهر، كان بالإمكان تجاهلها.
لكن بمجرد أن تقع عليها العين مرة، تصبح غير قادرة على النظر إلى مكان آخر، بل وتشعر أنها تكبر كلما حاولت تجاهلها.
والآن، كانت لَايلا لا تنظر فقط إلى تلك البقعة، بل تقترب منها تحاول لمسها، لتعرف مما صُنعت.
—قلت لك إنه قتلني! أما زلت لا تسمعين؟ لقد قتلني! ذلك الحقير!
تفجّر من فمه ذلك الشيء الأسود، وانتشرت رائحة سمك فاسد حادة، وفي عقل لايلا ظهرت صورة واضحة تمامًا.
كان الصوت الطنين يتزايد حتى لم تعد تسمع شيئًا، لكنها رأت بوضوح رجلين يجلسان على صخرة يصطادان لم يكن هناك أحد غيرهما.
مكان لا يعرفه سوى اثنين فقط هكذا فكرت لايلا كان للرجلين لونان مختلفان من الشعر؛ أحدهما أحمر، والآخر أشقر.
وما إن رمشت بعينيها، حتى اختطف ذو الشعر الأحمر صنارة الصيد من يد الأشقر، وركله أسفل ركبته بحذائه الثقيل.
كان الماء عميقًا، لكنه ليس بعمق يمنع النجاة كان يمكن للأشقر أن ينجو، لولا أنه ارتطم رأسه بالصخرة أثناء السقوط.
صدر صراخ خافت، وفي اللحظة نفسها، قُذفت لايلا خارج ذاكرة الرجل إحساسه باليأس عند ارتطام رأسه، الشعور بالخيانة على حافة الحياة والموت.
ذلك هو نواة الرجل.
“لقد أحسنتِ، لايلا .”
همس يوستار، وفي اللحظة نفسها ترنّحت لايلا ، فرفع يوستار يده اليمنى التي أضاءت بلون أزرق باهت نحو صدره ثم بسطها جانبًا لو رآه أحدهم في تلك اللحظة، لما تردد في اعتباره ساحرًا وسيمًا.
“يسأل إله أديـاك: هل تحمل وزرًا؟ أُجيب: إنها خطيئة غيري. فانظر، يدَيّ طاهرتان كيدي حباشوكا.”
تفجّر الماء الأسود—وكانت لايلا تعرف أنه مزيج من كل الفساد العالق بإصرار الرجل—من فم الرجل بانفجار، وانثنى ظهره إلى الوراء بعنف.
ارتطم رأسه بالأرض ارتطامًا متتالياً، وتطايرت من فمه المفتوح بقايا أسماك متهالكة، متناثرة في كل اتجاه.
رفع يوستار صوته، وكانت يده اليمنى التي غلفها الضوء الأزرق قد بدأت تختفي عن الأنظار.
“يسأل أديـاك: هل تحمل وزرًا؟ أُجيب وأنا مطأطئ الرأس: إنها خطيئة غيري فانظر، يدَيّ طاهرتان!”
دوى صراخ شق الآذان، وكان حادًا لدرجة أن جميع من في هذه القرية الصغيرة لا بد أنهم سمعوه.
روح الرجل، التي كانت ترتجف وتتلوى وجسدها منحني للخلف، انطلقت فجأة في الهواء محدثة صوتًا يشق الريح، واختفت إلى مكانٍ ما.
اتسعت عينا لايلا بدهشة كانت تحدّق في يد يوستار التي خفت عنها الضوء وآنذاك فقط رأت ما بيده: كانت هناك كرة زجاجية شفافة وكبيرة تستقر على كفه.
كان بداخلها ماء صافٍ، ورغم تحريك الكرة، لم يكن الماء يتمايل أو يهتز كان ذلك غريبًا بطريقة لا توصف.
“هل طردته؟” سألت لايلا.
أعاد يوستار الكرة إلى حقيبته الجلدية بعناية، ثم نظر إلى وجهها ليتفقد حالتها.
“هل أنتِ بخير؟”
“أنا بخير! لكن، لماذا لم تمسك به؟ في ريجيكوس…”
“آه، في تلك القرية كان لا بد من إجراء طقوس طرد الأرواح لكن ذلك الرجل… شعرت أنه لا داعي لذلك معه.”
“ولماذا…؟”
وفجأة—
“آه! ما به هذا الشخص؟!”
“أمسكه! أمسكه! ماذا تفعل؟ سيموت!”
تعالت أصوات الناس من خارج الزقاق، وهم يصرخون ويضجون في هرج ومرج وقبل أن تدرك، كانت لايلا توشك أن تركض نحو مصدر الصوت، لكن يوستار أمسك بمعصمها.
“من الأفضل ألا تري ذلك.”
فكرت لايلا: إنه هو من فعل هذا.
كانت صرخات تتصاعد، ورأت بعض الأشخاص يركضون هاربين لم تكن تعرف ما الذي حدث تحديدًا وراء منعطف الطريق، لكنها كانت واثقة أن يوستار هو الفاعل.
“أعتقد أن عليّ أن أراه.”
“لن تكون رؤيةً سارة.”
“لا يهمني لم أشهد منظرًا سارًا طوال حياتي أصلاً.”
في تلك اللحظة، ارتسم على وجه يوستار طيف من ابتسامة سرعان ما تلاشى.
هل كان ذلك شفقة؟ لا يهم، ليس الآن على الأقل…
أعاد إليها غطاء الرأس بهدوء، ثم أحاط كتفها بحماية ومضى بها خارج الزقاق.
بمجرد أن تجاوزا المنعطف، ضربتهما رائحة دم كثيفة.
وضعت لايلا يدها على فمها وأنفها، وفي تلك اللحظة رأت رجلاً مغطى بالدماء يضرب رأسه بالحائط الصلب بعنف شديد.
“يا إلهي!”
صرخ الناس من حوله الدم كان يتدفق بغزارة على الأرض حتى أصبح كالسيل.
كان الرجل ميتًا، جاحظ العينين باتجاه لايلا وكان من شدة تهشيم جمجمته يمكن رؤية كتلة رمادية في أعماق رأسه المحطم.
“هل من الممكن أن يكون هذا الرجل…؟”
ارتجف صوت لايلا.
لقد كان الرجل ذو الشعر الأحمر نفسه الذي ظهر في ذكريات الرجل الميت.
رغم أن وجهه المدمى والممزق بالكاد يمكن تمييزه، إلا أنها كانت متأكدة تمامًا.
قال يوستار:
“لقد حددتُ لذلك الرجل وجهته والآن بعد أن انتقم، فلن يظهر مجددًا.”
دفعت لايلا يد يوستار بعيدًا عنها بوجه يعلوه الذهول، ثم استدارت بجسدها كانت تنظر إليه بعينين امتزج فيهما الارتباك بالغضب.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 10"