الفصل 1: ما لا ينبغي رؤيته (1)
أول ذكرى تحتفظ بها “لايلا كريسْلراد” هي رائحة مُرَّة كانت تنبعث من المهد.
كانت لايلا هي تلك الطفلة الممددة في المهد، ولم يكن قد مضى على رؤيتها نور الحياة حتى أسبوع كان تنفّسها بجهدها الخاص أمراً شاقاً للغاية، وكان يصعب عليها تحمّل الهواء الغريب والروائح المجهولة التي تلامس بشرتها.
كانت ملفوفة في قماط خشن —ربما كان من الكتّان الرديء—، حين رفعتها والدتها بين ذراعيها وعندما قرّبت وجهها، استطاعت لايلا أن تشمّ رائحة مرّة تنبعث منها كانت والدتها مرهقة، وكان التنفس بالنسبة لها شاقاً كما هو بالنسبة للايلا.
—“لديكِ عينان مختلفتان عن عينَي.”
قالت الأم لابنتها:
—“لا تنظري إليهم لا تسمعيهم لا تلوّحي لهم بيدك دعيهم يعبرون باكين، يا ابنتي اسمكِ لايلا وكما كانت أمّي، وأمّ أمّي، وكما كانت جميع الساحرات، فأنت تحملين أيضاً اسم كريسْلراد.”
ثم أعادت لايلا إلى المهد، وجلست على كرسي متأرجح يئنّ تحتها، وأطلقت تنهيدة طويلة هناك، وضعت لايلا، وهناك ظلت حتى لحظة موتها.
كانت أحياناً تبكي، وأحياناً أخرى كانت تنظر إلى لايلا في المهد وتأنّ أنيناً ضعيفاً.
في البداية، اعتقدت لايلا أن ذلك مجرد حلم، لكنها في وقت ما أدركت أن الأمر لم يكن كذلك لقد كانت تلك ذكراها، وأول لقاء لها مع والدتها عالم صغير، لكنه كان كاملاً.
ابنة الساحرة، لايلا كريسْلراد —ذلك هو الاسم الذي نوديَت به.
***
كانت قرية “ريجيكوس” تقع في أقصى شمال مملكة “سِيورَو” وكان أغلب سكانها يعيشون على تربية الأغنام والماعز، ويشتغلون بقطع الأخشاب في الخريف أو الشتاء تحت سلسلة جبال “لوغاس”، التي كانت تتشح بلون رمادي شاحب من القمم حتى الوديان عند انخفاض درجات الحرارة أو تكوّن الضباب، كان الناس يعيشون حياة بسيطة.
أما حياة لايلا كريسْلراد، فكانت الأكثر رتابة وتواضعاً حتى بين سكان تلك القرية البسيطة كانت تعيش في منزل منفرد عند مدخل جبال لوغاس، منزل قديم لا يُعرف متى تم بناؤه ومن بعيد، كان يبدو كأنه أطلال مهجورة، وكان غريباً حتى بالنسبة للايلا أن ذاك المنزل لا يزال قائماً ولم ينهَر بعد.
لكن على أي حال، فإن بقاءه كان أمراً محموداً فبالنسبة للايلا، التي لا تستطيع النزول إلى القرية بسهولة كلما احتاجت شيئاً، كان وجود سقف يصمد أمام الرياح والمطر والعواصف —وإن بدا الأمر فيه شيء من المبالغة— نعمة حقيقية.
“هاه، نعمة، يقولون…”
قالت لايلا ساخرة، وهي تنظر إلى سقفها المهترئ وضعت سلتها إلى جانبها.
أما أطفال قرية ريجيكوس، فكانوا منذ أن يتعلموا المشي وسماع الكلام، ينُشَّؤون على عبارة واحدة:
“لا تقترب من مدخل جبال لوغاس.”
وعندما يتجرأ أحدهم ويسأل: “ولماذا؟”، لا يضربه الأهل على مؤخرته، بل يجيبونه بقولهم:
“تعيش هناك ساحرة إذا اقتربت منها، ستقتلك دون أن يعلم أحد، وتضعك في قدرها وإن لم تفعل ذلك، فستقتلع عينيك الجميلتين وتضع مكانهما حجارة حادة.”
نصف ما قيل كان حقيقة، والنصف الآخر كذب فقد كانت لايلا بالفعل ابنة ساحرة، وكانت ساحرة هي الأخرى لكنها لم تكن راغبة ولا تنوي أن تطبخ الأطفال في قدور، ولا أن تقتلع أعينهم.
ومع ذلك، لأنها كانت تحب الهدوء، لم تجد حاجة لتصحيح تلك الشائعات كانت حياتها البسيطة والتافهة تسير بهدوء ورضا، إلى أن حدث شيء أفسد هذا الهدوء.
“لقد زاد عددهم مجدداً… اثنان أكثر من البارحة.”
تمتمت لايلا مع نفسها بينما كانت تصعد الجبل لجمع الفطر كان رأسها منتصباً بشكل غير طبيعي بالنسبة لشخص يصعد منحدراً، ونظراتها ثابتة إلى الأمام كما لو أن أحداً يسحبها بخيط غير مرئي.
“لا يجب أن أراهم… لا يجب أن أراهم…”
بدأ تنفسها يثقل قليلاً وعندما أمسكت بغصن شجرة فجأة وسحبت نفسها إلى الأعلى، التفتت مجموعة من الأطفال الجالسين على صخرة قريبة ببطء نحوها جميعًا في وقت واحد.
كان الأطفال يرتدون ملابس عادية، ولم يكن هناك فرق في الجنس أو العمر: بعضهم بدَوا في عمر الثالثة أو الرابعة، وبعضهم الآخر في العاشرة أو الثانية عشرة.
لكن هناك أمرٌ واحد…
لم تكن هناك أعين في وجوههم كيف يمكن وصف ذلك؟ كما لو أنها انتُزِعت بملعقة نعم، بشكل نظيف تماماً.
“لا تنظروا إليّ.”
تمتمت لايلا في داخلها، وقد شعرت بقشعريرة تجتاح جسدها كله.
“أنتم لا ترون شيئاً على أي حال، أليس كذلك؟ لا تنظروا إليّ رجاءً، لا تنظروا إليّ…”
كانت تشد عضلات عنقها حتى لا تلتفت ناحيتهم، وحين وصلت بصعوبة إلى حافة الغابة حيث الأرض مستوية قليلاً، شعرت فجأة بقشعريرة تسري في عمودها الفقري اشتدّت قبضتها على سلتها.
كان شبح صبي بلا عينين يتبعها.
وكان ذلك أحد الأطفال القلائل الذين تعرف لايلا أسماءهم —أشهر مشاغب في قرية ريجيكوس، وقائد الأطفال دائماً، الصبي ذو الأحد عشر عاماً “تومي”.
توقفت لايلا لبرهة تلهث فيها، ثم بدأت تمشي من جديد فبدأ تومي يتبعها بانزلاق صامت، وكأنه يطفو في الهواء.
جلست لايلا االقرفصاء تحت شجرة متظاهرة بتفقد الفطر، ورأته وقد اقترب أكثر مما كان عليه أول مرة فعضت لايلا على أسنانها الخلفية بقوة من شدة توتر.
“اللعنة… هل تعلّق بي؟”
لم أنظر إليه أو هل نظرت؟ هل فكرت بهم أكثر من اللازم؟ لماذا تبعني؟ لماذا؟!
“تماسكي.”
تمتمت لايلا لنفسها وهي تأخذ نفساً عميقاً كان الصبي الشاحب ذو اللون الرمادي الباهت ما يزال ملتصقاً بطرف رؤيتها ظلت تدير ظهرها إليه بكل جهد ممكن، ثم بدأت تمشي.
“يجب أن أتماسك لا يجب أن أرتبك.”
بدأت خطواتها تتسارع لكنها، في كل مرة كانت تلمح طرف عينيها إلى الوراء، كانت تراه لا يزال هناك كان كأنه بيضة مسلوقة أُزيل منها الصفار، فلا تبقّى إلا البياض —لا شيء سوى عينين مفقودتين، ووجهٍ خالٍ من التعبير يطاردها بإصرار.
“تباً لك! إلى أين تنوي الذهاب؟!”
صرخت لايلا بصوت عالٍ، ثم رمت بسلتها وبدأت تركض ازدادت سرعة خطواتها، وبدأ صوت يشبه هسيس الأفعى يدوي في أذنيها.
—“لايلا…”
“اصمت، تومي! لا تنادِني!”
صرخت لايلا لكن الصوت استمر لم يتوقف مهما وضعت يديها على أذنيها كان ينبعث من عقلها، من داخل أذنيها…
—“لايلا…”
“آاااه!”
انزلقت لايلا على تربة غنية بأوراق متحللة وكادت تسقط خلعت حذاءها شبه المخلوع ورمته بعيداً لتستعيد توازنها لكنها، ما إن أمالت رأسها إلى الخلف، حتى رأت فجأة ثقبين اقتربا من وجهها.
—“أمسكتُك.”
ابتسم الصبي —رغم أنه لم تكن لديه أعين يوجّه بها نظره— لكن لايلا شعرت أنهما تلاقيا بالنظرات.
”…ابتعد عني، تومي.”
تراجعت لايلا إلى الوراء وهي تعضّ على أسنانها وتهمس بصوت خافت كانت تود لو تمسك بشيء وتلوّح به، لكن السلة التي كانت تحملها قد ألقتها منذ زمن، ولم يكن في يديها الآن شيء وحين قبضت على قبضتيها الفارغتين وهزّت رأسها، اقترب طيف تومي منها أكثر كان لا يزال يبتسم، بل بدا وكأنه أكثر فرحاً من ذي قبل.
“تومي، قلت لك أن تبتعد اذهب والعب مع أصدقائك اجلس على الصخرة واستنشق الهواء، أو اذهب إلى الجحيم واغرب عن وجهي اللعنة، تومي!”
أرجوك لا تقترب.
أرجوك…
بدأ شفتها السفلية ترتجف، ثم ما لبث أن ارتجف فكّها كله صوت اصطكاك أسنانها سُمع بوضوح، لكن لايلا كانت مذعورة لدرجة أنها لم تكن تدرك أن هذا الصوت يصدر عنها أما الصبي، فكان يبتسم ابتسامة عريضة تكاد تمزّق وجهه، حتى خُيّل إليها أن ابتسامته ستصل إلى أسفل أذنيه لو استمر بالضحك أكثر.
“تومي!”
وفي تلك اللحظة، زحف شيء ما من فجوتي عينيه الفارغتين.
ما هذا؟ أفعى؟ أم حريش؟ أم شيء آخر؟ ذهب هذا الشيء يدور حول وجه الصبي الشاحب بلون الرماد، ثم اندفع فجأة كالسهم نحو لايلا.
“لاااا!”
صرخت لايلا ورفعت ذراعيها لتغطي وجهها تلقائيًا وفي تلك اللحظة تمامًا، دوى صوت مزعج شقّ أذنيها حتى أشعرها بالغثيان كان صوتًا كصوت خدش شفرة على لوح حجري وعندما أنزلت ذراعيها ونظرت أمامها، انفتح فمها من الصدمة، وبدأ جسدها يرتجف من المشهد الذي رأته.
— كييييك… كيييك…!
كان جسد تومي، أو بالأحرى “الصبي الذي كان يومًا ما يُدعى تومي”، يلتوي بشكل مروّع مفاصله كانت تنثني في اتجاهات لا يمكن تخيلها، وذلك الشيء الطويل الذي خرج من عينيه أخذ يتلوّى كأنما أصابه لهيب نار.
حدّقت لايلا في المشهد المرعب وكأنها مسحورة جسد الصبي أخذ ينكمش ويتشوّه حتى صار أقرب إلى عجينة جبسية مضغوطة قسرًا الجزء الذي كان كتفه ذات يوم انتفخ فجأة كورم غريب، ثم انفجر بصوت عالٍ.
“يا إلهي… ما هذا…”
تراجعت لايلا بخطى متعثّرة، وارتطم ظهرها بشيء ما ظنّت في البداية أنه شجرة، فاستدارت سريعًا لترى، لكنها ما لبثت أن رفعت عينيها لأعلى.
لم يكن ذلك شجرة ولم يكن شبحًا أيضًا.
كان رجلاً غريبًا.
كان طويل القامة، ذو شعر طويل يكاد يكون أبيضًا تمامًا، مربوط إلى أعلى بشكل أنيق وأكثر ما لفت نظرها هو العدسة الأحادية التي كان يضعها على عينه اليمنى.
“أخيرًا وجدتك.”
قال الرجل وفي غفلة منها، كان قد وضع يده الكبيرة بلطف على كتفها.
وحين همّت لايلا بتحريك شفتيها بدهشة، انحنى الرجل قليلاً، وحدّق مباشرة في عينيها قائلاً:
“نعم… بالفعل، أنت تملكين عيونًا تختلف عن عيني.”
في تلك اللحظة، عبر في ذهن لايلا صوت والدتها — الذي كانت تظن أنه اندثر منذ زمن بعيد — مرورًا خفيفًا كنسيم الماضي:
— “أنت تملكين عيونًا تختلف عن عيني.”
رمشت لايلا ببطء كانت عيناها حمراوين بلون حبات الرمان، والرجل كان يتأملها كما لو كانت جوهرة نادرة ثم فجأة، أمسك بجسدها وأدارها للخلف.
اتسعت عينا لايلا حتى بدتا وكأنهما ستنفجران.
تومي لم يكن هناك.
بدلاً منه، كان الأطفال الإثنا عشر الذين كانوا جالسين على الصخور جميعهم واقفين هناك.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 1"