كانت الرسائل المتبادلة عبر الخطوط الأمامية دائمًا مغطاة بالبقع السوداء،
وهي آثار الرقابة.
ذلك لأن هناك من لا يرغب في انتشار الشائعات.
ومع ذلك، يبدو أن العاصمة إيدلين تعجّ بالفعل بالأحاديث عن الساحر الناري.
في كل ليلة، أدوّن ملاحظات موجزة حول مجريات الحرب وما يحدث في القاعدة.
لكن، حتى لو ضاعت هذه الملاحظات كلها، فلن يتغير الكثير.
فلا يمكن محو ذاكرة جميع الناس، كما لا يمكن إسكات أفواههم جميعًا.
– كلوي ليبرتا، تدوّن من الجبهة الثانية
***
كان سكان القاعدة يحدّقون في عربة الإمدادات وملامحهم مليئة بما يرغبون في قوله.
وكانت كلوي تقف بينهم بعينين جافتين لا أثر فيهما لأي انفعال.
قالت:
“ألم يكن بإمكانكم الوصول قبل يوم واحد فقط؟ ظننا أنكم تعرضتم لهجوم قطاع طرق.”
ماذا عساي أن أقول لذلك الجندي الذي أغمي عليه والزبد يخرج من فمه؟ لم أعد أملك وجهًا أرفع به رأسي.
لكن حتى أولئك الذين جلبوا الإمدادات كانوا في هيئة مزرية، وكانت ملامحهم تنطق كذلك بالكثير مما يودّون قوله.
وقد شعروا بالإحباط لأنهم تلقّوا التوبيخ فور وصولهم.
فقال أحدهم متذمّرًا:
“هطلت علينا أمطار غزيرة في الطريق فغمرت المياه الجسر انتظرنا أيامًا حتى تنحسر المياه، لكن دون جدوى، فاضطررنا إلى البحث عن طريق آخر وأكملنا بشق الأنفس.”
“……”
“إن كنتم لا ترغبون في استلام الإمدادات، فلا حاجة لها إذًا نعود أدراجنا؟”
قال الرجل الذي عانى كثيرًا أثناء الرحلة ذلك بنبرة حانقة، مما جعل سكان القاعدة يفقدون أعصابهم، فسارعوا إلى كبح كلوي وسحبها إلى الخلف قبل أن تبدأ بالكلام.
فإذا ما تفوّهت بكلمة، فلن يكون من الممكن إيقافها بعد ذلك.
لكن بعض أفراد فرقة الاستطلاع لم يخرجوا بعد من دورهم الذي أدوه كمشاغبين.
وقد قال أندريا، ذلك الممثل الكبير، إن الخروج من دور أدّاه المرء بإخلاص يتطلب بعض الوقت.
“كلامك هذا جارح فعلًا.”
“دعونا نحافظ على حسن التعامل، ما رأيك؟”
وكانت آنا كذلك تنظر بعينين حادتين.
رغم أنها كانت صباحًا تبدو منهكة من شدة التعب، فإنها الآن تندفع نحو الأدوية وكأنها وجدت خلاصها.
وكان من الواضح أن من يمدّ يده نحو تلك الأدوية لن يخرج سالمًا.
وقد شعر أفراد فرقة الاستطلاع بغريزتهم بهيبة امرأة ربّت ثلاثة أبناء، ففكروا في أنفسهم:
“حقًا، النساء يصبحن مرعبات في المواقف الحرجة.”
أما الرجال الذين جاؤوا بعربة الإمدادات، فقد أمالوا رؤوسهم في حيرة.
وقد نسوا ما كانوا يشعرون به من انزعاج، من فرط ذهولهم مما رأوه.
“لم يكونوا بهذه الدرجة من الجنون سابقًا… ما الذي حدث بحق السماء؟”
قالت كلوي، وهي تزيح اليدين القويتين اللتين كانتا تمنعانها من الكلام:
“القاعدة تمر بفترة مضطربة، فالأفضل أن تبقوا هنا لبضعة أيام وترتاحوا تناولوا طعامكم أيضًا.”
ثم أخذت تعبث في العربات لبعض الوقت، قبل أن تجمع الرسائل الموجهة إليها وتتوجه إلى غرفتها.
كانت الرسائل من ماركيز ويلينغتون، وجوليا، وأندريا.
ونظرًا لحساسية الوضع، بدأت كلوي أولًا برسالة الماركيز.
كلوي، إنها رسالة من جدك.
ما زلت أتابع أخبار الجبهة.
ويؤلمني أن أرى كيف أنهكت هذه الظروف أفراد القاعدة، وأنتِ منهم.
إن كنتِ بحاجة إلى أي شيء، فأخبِريني دون تردد.
لم يتبق لي الكثير من العمر، وكل ما أملكه الآن هو المال.
لو أنكِ فقط تقبلين أن تصبحي ابنتي بالتبني، حينها سأموت مرتاح البال.
كانت كلوي تسمع منه عبارة “لم يتبق لي الكثير من العمر” منذ أن كانت في العشرين من عمرها.
وبالنظر إلى نشاطه الاجتماعي المتواصل، فغالبًا ما ستسمعها لعشرين عامًا أخرى على الأقل.
كلوي، على بعد ثلاثة إلى أربعة أيام سيرًا نحو الجنوب الغربي من القاعدة، توجد قلعة قديمة.
مذ أن تقدّمت إيدلين شمالًا، لم تعد لها قيمة استراتيجية، فهُجرت.
لكنها كانت تستخدم حصنًا أثناء الحرب الثانية ضد فيتسمارك.
حصلت مسبقًا على الإذن باستخدامها، فإن لم تكن هناك مساحة كافية لاستقبال المرضى، فيمكنكِ اللجوء إليها.
أرفقت لكِ خريطة مع الرسالة.
وأكرر، إن احتجتِ إلى أي شيء، لا تترددي.
عضّت كلوي على شفتيها وقالت:
“كم مرة قلت إن المشكلة ليست في المساحة، بل في نقص الأيدي العاملة…؟”
وكان طلب استقبال المزيد من المرضى يبدو لها وكأن قائله يتحدث بخفة غير لائقة.
وفكرت: بهذا الشكل، ربما ننجح في إنقاذ الجنود، لكن المدنيين سيموتون من الإجهاد.
ألقت الرسالة في الدرج دون اكتراث، ثم فتحت رسالة جوليا.
كلوي، مرحبًا.
كيف تسير الأمور عندكم؟
يقول بنيامين إن الأوضاع في الجبهة ليست على ما يرام.
لذا، حين تقرئين هذه الرسالة، لا تنسي أن ترسلي لنا ردًّا تخبريننا فيه عن حالك.
فنحن ننتظر أخبارك دائمًا.
…
آه، صحيح لدي خبر جديد لأخبرك به.
أخيرًا، سيَنضم إلى مجموعتنا المنتظَرة رسّام جديد كنا نتطلّع إليه منذ زمن.
قالت كلوي، بعينين متحفظتين وهي تقرأ:
“ مجموعتنا؟”
لقد أنكرت دائمًا في داخلها أنها واحدة من أربع توائم.
كما لم تكن تفهم لِمَ يجب أن تضم هذه المجموعة فنانًا بالضرورة.
وقد بدا لها أن شقيقاتها مجرّد جامعات للفنانين.
يبدو أن بنيامين التقى به في أحد الصالونات منذ مدة، وتحدث معه.
إنه فنان ناشئ، وله طريقة فريدة في استخدام اللوحة، لذا لم يحظَ بالكثير من الاهتمام.
بل، على العكس، تعرّض للكثير من الانتقادات على ما يبدو.
لكن بما أن ذلك الرسّام قد نال إعجاب بنجامين، رغم مزاجه الصعب، فأنا أتطلع حقًا لرؤية لوحاته.
أشعر بالحماس منذ الآن، وأتوق للقائه.
ابتسمت كلوي ضاحكة بخفة من كلمات جوليا المفعمة بالحيوية، وقد راق لها ما قرأت، بل شعرت ببعض الترقب أيضًا فهي كانت تحمل شيئًا من الإعجاب والاحترام للفنانين.
غير أن ملامحها سرعان ما تغيّرت وهي تتابع قراءة الرسالة، إذ عقدت حاجبيها.
آه، بالمناسبة، إنه رجل. أخبرك بذلك ظنًّا مني أنكِ قد تودين معرفة هذه المعلومة.
ويُقال إنه وسيم جدًا… همسًا همسًا.
“حقًا، جوليا؟ ولمَ تظنين أنني سأهتم بذلك؟”
قالتها كلوي وهي تشهق في ضيق، ثم فتحت رسالة أندريا بشيء من التوجس وكانت الرسالة قصيرة للغاية.
كلوي! لقد رأيته بالفعل!
لا، ليس إلى ذلك الحد من الوسامة! لكن ملامحه ناعمة نوعًا ما.
“لا أفهم، ما فائدة هذا الكلام لي؟ ما دم يرسم جيدًا، فما علاقة مظهره بأي شيء؟”
قالت كلوي وهي على وشك أن تنفجر من الاستغراب والضيق.
لطالما كان لدى الشقيقتين التوأم الثلاثة انطباع خاطئ كبير عنها — وهو أنها تهتم بالمظاهر إلى حد مفرط.
دأبن على انتقادها بهذا الشأن مرارًا وتكرارًا.
وقد بدأت تلك الفكرة منذ ذلك الوقت الذي كانت فيه كلوي تبحث عن ممثل مناسب لأداء دور معين:
“كلما فكرت بالأمر، أرى أن مظهره ناعم أكثر من اللازم والدور يتطلب مظهرًا وحشيًا.”
“أهكذا ترين؟”
“نعم. حتى مفاصل أصابعه أجمل من يدي.”
“…ما… ما هذا؟ من تكون هذه الإنسانة؟”
نظر التوأم الثلاث إليها وكأنها إنسانة معقدة تصعّب على نفسها الحياة، وقالوا إن النظر إلى أمور كهذه يصيب المرء بالصداع، واعتبروا أن بها شيئًا من الغرابة.
لكن كان لدى كلوي ما تدافع به عن نفسها.
فأحيانًا، يمكن لجوهر الإنسان أن يتجاوز مظهره الخارجي وعندما يمتلك المرء طاقة داخلية ضخمة، فإن بإمكانه أن يبدو كشخص مختلف تمامًا في لحظة واحدة.
وفي المسرح، كانت تلك الطاقة تُجسَّد في قوة الأداء التمثيلي.
ومع ذلك، كان من المعروف أيضًا أن للمظهر دورًا مبدئيًا فهو سلاح ووسيلة، مثل أي أداة أخرى.
لماذا يجب علي أن أتجاهل هذه الوسيلة الفعالة؟
حين أحتاج إلى عيون حالمة في مشهد رومانسي، هل أختار ممثلًا ببطن منتفخ وكأنه على وشك أن يلد؟
حتى ذلك الرسام الجديد، لو سُئل، فلن تكون إجابته مختلفة كثيرًا.
فحين يرسم رسمة توضيحية، فإن تصوير الشخصية كجار عادي من الحي، لا يكون بنفس أثر رسمها كأيقونة جمال لا تُرى إلا على اللوحات.
إن كسر التوقع الجمالي لدى الجمهور بشأن بطلة القصة أمر ليس في متناول أي كاتب مسرحي، حتى لو كان عبقريًا.
ومواجهة الذوق العام بهذه الطريقة يعني الحكم مسبقًا على العمل بالفشل.
لذا، كانت كلوي ببساطة تقوم بعملها كما ينبغي.
وكان على التوأم الثلاث أن يفهمن هذا جيدًا، لكنهن أصررن على اتهامها بعبادة الجمال، وهو ما كان يُشعرها بالظلم.
والأدهى، أن جوليا وأندريا – مرسلتَي الرسائل – كنّ في الحقيقة الأكثر حرصًا على الاهتمام بمظهرهن، لأنهن يعملن على خشبة المسرح، ويدركن تمامًا أن أجسادهن ووجوههن أدوات عمل وسلاح فعّال.
في النهاية، لم يكن الهدف من كلامهن سوى استغلال فرصة نادرة للسخرية من كلوي.
لكن في تلك اللحظة، أدركت كلوي أنها تواجه موقفًا محرجًا للغاية.
فجأة، خطر على بالها وجه ألفين — ذلك الوجه الذي ظلّ وسيمًا رغم ارتدائه الملابس الرثة.
حتى هي، التي اعتادت رؤية الممثلين، لم تصادف من قبل شخصًا يطغى وجهه إلى هذا الحد.
“أعتقد أنني في موقف يصعب شرحه بالكلام.”
كان بوسعها أن تتخيل تمامًا كيف ستهاجمها التوأم الثلاث إن رأين ألفين.
وتخيلت بسهولة مدى الحماسة التي ستغمرهن في السخرية منها.
فجوليا قد تقول، بابتسامة لاذعة:
“أوه، قالت إنها لا تهتم بالمظاهر، وها هي الآن تثبت عكس ذلك.”
أما بنجامين فسيرمي سهمًا مسمومًا كعادته:
“لماذا لا تعترفين وحسب، يا كلوي؟ ما العيب في ذلك؟ على الأقل، لم تعودي تنظرين إلى الوجه فقط — أصبحتِ تهتمين بالثروة والمكانة أيضًا.”
عندها ستقفز أندريا دون مواربة لتقول:
“إذًا، هل يمكننا القول إنك أصبحت أكثر توازنًا في تفكيرك؟ صغيرتي، لقد نضجتِ أخيرًا؟”
هزّت كلوي رأسها بحزم، وقد عزمت في سرّها على عدم التحدث عن ألفين إطلاقًا في الوقت الحاضر.
ثم رتّبت الرسائل في الدرج بدقة، ونهضت من مكانها.
كانت قد تذكرت أمرًا، وقررت الذهاب إلى مخيم فيتسمارك.
أرادت أن تتفقّد المريض الذي خضع أمس لعملية بتر، كما رغبت في إيصال ملابس جديدة لألفين.
عندما وصلت إلى مخيم فيتسمارك، كانت تحمل في يديها بعض الأدوية والملابس والضروريات الأساسية.
ما إن أزاحت ستار الخيمة، حتى انعقد حاجباها بامتعاض.
فقد اندفعت موجة من الحرارة الرطبة، وانبعثت رائحة عرق خانقة.
كان الجنود، في ذلك الحيّز الضيّق، يمارسون تمارين الضغط.
وكان أحدهم يرفع نصف جسده لأداء تمارين المعدة، مع تحريك جسده إلى الجانبين كما لو أنه يعصر قطعة قماش.
فتحت كلوي ستار الخيمة بأكمله وثبّته ليُسهم في تهوية المكان، ثم أمسكت بأنفها وتذمرت قائلة:
“يا له من جنون… جنود أسوأ من الفنانين أنفسهم سيحيون طويلًا على ما يبدو.”
كان وكأنهم مصابون بمرض قاتل، لا يُشفى منه إلا عبر تدريب بدني دائم
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 9"