كلوي قالت بصوت بدا وكأن هذا الموقف يؤلمها بشدة، ودفنت وجهها في صدره كان ألفين يضحك بصمت، لكنه انطلق بجسده في تلك اللحظة.
مرَّ عبر منتصف الوادي بحركة سلسة ومألوفة كما لو كان الماء يجري قول ألفين بأنهم سيصلون بعد عدٍّ حتى الرقم خمسة كان فيه بعض المبالغة في الواقع، لكن لو عَدّوا حتى سبعة أو ثمانية فسيكفي للهبوط.
ومع ذلك، لم يهبط إلى أسفل الوادي الأسود مباشرة، بل جلس على صخرة بارزة في منتصف الطريق ثم أعاد احتضان خصرها بيده الكبيرة شعرت كلوي بأنهما يجلسان على أرض مستوية الآن، لكنها لم تجرؤ على فتح عينيها وسألت:
“…هل وصلنا؟”
“أجل.”
“حقاً؟”
“أجل.”
فتحت كلوي عينيها نصف فتحة ونظرت إلى الخلف، ثم أغلقت عينيها بسرعة عندما أدركت أنهما لم ينزلا سوى إلى منتصف الطريق فقط، صرخت بصوت عالٍ تعبيراً عن الظلم:
“زعيم العدو هذا! خدع مدنية بريئة مجددًا!”
لو كانت يداها حرتين، لكانت ضربت ساعد ألفين أو أمسكت بقبضة ملابسه وهزته بقوة لكن ألفين ضحك لأن تصرفها بدا له في غاية اللطافة.
“كلوي، افتحي عينيك قليلاً.”
“لا أريد أنا خائفة أنزلني إلى الأسفل بسرعة.”
“أنا من يحملُك، فلمَ الخوف؟”
“…….”
“سأمسك بك جيداً فقط انظري الغروب جميل جداً.”
كانت كلوي تفضل جهة الغرب، ليس فقط لأنها لا تستيقظ بسهولة صباحًا، بل لأنها تحب تأمل الغروب لم يكن ألفين يمازحها، بل توقف عن عمد ليريها هذا المنظر النادر فحتى لو كان القصر الذي يسكنانه فخمًا، فإن مشهدًا كهذا لا يمكن رؤيته في أي مكان.
ترددت كلوي قليلاً، ثم أمسكت بحافة ثيابه بحذر ونظرت خلفها كان الغروب المتوهج يصبغ السماء والأرض الشاسعة بلون أحمر بدا أنه لا أحد يمكنه كبح أنفاسه أمام هذا الجمال الطبيعي الخارق.
كانت كلوي تنظر إلى المشهد لفترة طويلة وهي منكمشة تمامًا.
“جميل، أليس كذلك؟”
“…نعم. رائع لكن، أنزلني الآن من فضلك.”
أومأ ألفين برأسه ومسح جانب عينيها بيده ليغلق عينيها بلطف ثم نهض من فوق الصخرة، وقبل أن يخطو بضع خطوات، كان قد هبط على الأرض بسهولة بعد ذلك، قال لكلوي التي كانت متشبثة به كأن حياتها تعتمد عليه:
“كلوي، يمكنك فتح عينيك لقد وصلنا.”
“…أنت تكذب لقد فقدت ثقتي بك.”
“لقد وصلنا فعلاً وإن كنت أكذب، فاقطعي علاقتك بي.”
“نحن زوجان الآن، فلن تكون انفصال بل طلاق.”
“لا تقولي شيئاً كهذا بهذه السهولة.”
عندها فتحت عينيها بحذر، ولما تأكدت من صدقه، نزلت بتردد من بين ذراعيه الآن حان وقت الانتقام صفعت ساعده بيدها وأطلقت سيلًا من العتاب:
“لا تعبث بمواقف كهذه!”
كانت على وشك البكاء من شدة الظلم ضحك ألفين وهو يتظاهر بالمبالغة في الألم.
“هل كان الأمر مخيفاً إلى هذه الدرجة؟ أيمكن أن تكون لديك رُهاب الأماكن المرتفعة؟”
لم تكن كلوي تعرف من أين تبدأ في الرد، فأطلقت أصواتاً مترددة مثل “هاه… هااه…”، ثم نظرت بذهول إلى الوادي الوعر الذي نزلت منه لم يكن المهم إن كانت تخاف المرتفعات أم لا.
الأشخاص الذين يملكون ذرة من المنطق لا يرون هذا مكانًا للعبور أصلاً! من أول من قرر أن يسلك هذا الطريق؟ أيها الجنود الأغبياء!
وبينما كانت لا تزال مشتعلة غضباً، كانت ترمق ألفين بنظرات حانقة أما هو، فكرر اعتذاره وهو يطبع قبلة على خدها.
ظل الاثنان يمشيان لنصف ساعة أخرى تقريبًا جمع ألفين بعض الأغصان وأشعل نارًا في الغابة فبغض النظر عن الطريق الذي سلكاه، فإن عبور الحدود كان يتطلب التخييم لليلتين أو ثلاث.
كانت كلوي تحدق بألفين وهو يُخرج بعض المكونات البسيطة من حقيبته ثم قالت بعد تفكير:
“ألفين، هل أقوم أنا بالطهي اليوم؟”
نظر إليها بدهشة:
“لماذا فجأة؟ أنتِ لا تحبين الطبخ.”
صحيح أنها لم تكن مهتمة به ولم تكن تجيده لكن طوال الطريق، كان ألفين هو الدليل، وهو من تولى الصيد، وهو من حمل الحقائب الثقيلة بمفرده الشيء الوحيد الذي جعل كلوي تحمله هو قلم داخل جيبها.
شعرت بالذنب، فأخذت السكين العسكري منه.
“لقد فعلت كل شيء البارحة أيضاً هذا غير عادل لدي قدر بسيط من الضمير.”
لكن ألفين ضحك بخفة ودفعها برفق جانبًا.
“أنا لا أريد أن تتضور زوجتي جوعاً، فما دخل العدل والظلم هنا؟ سأقوم أنا به، فاستريحي واكتبي في مذكرتك، أو اقرئي الكتاب الذي أحضرته.”
“…أحضرت كتاباً أيضاً؟”
“أجل خفت ألا تتمكني من النوم لكن لا أعلم إن كان يعجبك أم لا.”
قالها وكأن الأمر بسيط، لكنه جعل كلوي تشعر بمزيد من الحرج والأسف دفعت ألفين بعيداً وجلست منكمشة أمام النار.
“سأطبخ اليوم فعلاً.”
راقبها ألفين وهي تطهو بعينٍ قلقة.
فالسكين، وإن كانت حادة بطبيعتها، إلا أن السكين العسكرية الخاصة بالقوات الخاصة كانت شديدة الحدة لم تكن مخصصة لتقطيع الفطر بهذا الشكل ماذا لو جرحت نفسها؟ لا يمكن أن تُصاب يدها هذه.
لكن وهو يراقبها، أدرك شيئاً: ربما لم تكن ماهرة جداً في استخدام السكين، لكنها كانت تعرف الخطوات الصحيحة للطهي.
“أنت… تعرفين كيف تطبخين؟”
“بالطبع أنا من العامة، هل تعتقد أنني لم أطهُ طيلة حياتي؟ فقط كنت مشغولة، فلم أستطع الاستمرار.”
“ولهذا السبب قلت أنني سأطبخ.”
ضحكت كلوي بخفة لم تكن واثقة من أن طعامها سيكون لذيذاً أو متقناً مثل طعام ألفين.
لكنه قال سابقاً: إنه لا يريد أن تتضور جوعاً، فلماذا يتحدث عن العدل؟ وهكذا، لم ترغب كلوي هي الأخرى في الحديث عن الكفاءة أو الفعالية عندما تكون المسألة متعلقة بصنع طبق حساء بسيط لمن تحب.
وأخيرًا بدأ حساء الفطر بالغليان وما إن سكبت ملعقة حتى اقترب ألفين وفتح فمه قائلاً:
“آه.”
أطعمتْه كلوي بيدها، وحدّقت إليه بوجه فيه بعض التوتر ابتسم ألفين قائلاً:
“طعمه كأن لمسة تداوي الجراح سيكون حساء الفطر الذي يرمم روحي.”
أعاد ألفين نفس الجملة التي قالتها سابقًا، تمامًا كما هي، ما أثار إعجاب كلوي في سرّها.
بالفعل، جزء كبير من حس الدعابة يأتي من قوة الذاكرة أحببت حديثك منذ أول لقاء لنا.
فأجابت ببساطة:
“إنك تملك ذوقاً رفيعاً.”
أكلا معًا حساءً كان الأدفأ في العالم كله، بابتسامة على وجهيهما.
كانت الرحلة ممتعة صحيح أنها واجهت صعوبات في بعض الأماكن، لكن كلوي نظرت إلى ألفين بريبة: هل خطط لهذا الطريق ليجعلني أتلقى تدريبًا عسكريًا؟
غير أن ألفين، كلما بدا الطريق قاسيًا أو صعبًا، كان يومئ برأسه قبل أن تقول كلوي شيئاً فإذا أمال رأسه إلى الأمام، كان ذلك يعني “تسلقي إلى ذراعي”، وإذا أشار بذقنه إلى الوراء، فذلك يعني “تسلقي على ظهري” وأحيانًا كان يحملها على كتفه بحركة مميزة.
ثم أدركت كلوي في لحظة: هذا… مريح؟
بل وممتع أحياناً لم يكن ألفين من النوع الذي يقول لزوجته كما يقول للجنود: “اجعل المستحيل ممكنًا” بل اختار الطريق الأكثر أمانًا وسرعة بين ما يعرفه.
ليلة ناما فيها في الغابة، لا في سرير مريح، ضمها ألفين إليه داخل البطانية بإحكام سألها مراراً إن كانت تشعر بالبرد، لكن كلوي شعرت بأن هواء الليل منعش فغنّت له عدة أغانٍ يحبها.
وفي صباح اليوم التالي، استيقظت تحت ندى الفجر، وعلمت أن ألفين لم ينم طيلة الليل، لحمايتها من أي حيوان مفترس قد يظهر عندها، أعدّت له حساء الفطر مجددًا، كدواء لروحه المتعبة.
بعد الإفطار، تابعا سيرهما في الغابة وعندما وصلا إلى شجرة تحمل ثمارًا حمراء داكنة، توقفت كلوي في مرة سابقة، عندما تعرضت القاعدة الطبية لهجوم واضطرّا للانسحاب، قطف لها ألفين هذه الثمار وأطعمها إياها.
استعادت كلوي ذلك المشهد وقدّمت الثمرة لألفين، فخاطبها:
“كلوي، أمم…”
“نعم؟ يمكنك أكلها لقد أعطيتني كل الثمار في المرة السابقة.”
“هذه تقتل من يأكلها.”
“…أقسم أنني لم أكن أنوي تسميمك.”
“أصدقك.”
وفكّرت كلوي في قلبها بأنها لا تريد لهذه الرحلة أن تنتهي تمنت لو أن طريق الغابة هذا لا ينتهي أبدًا فبينما كانت تمشي مسترجعة الذكريات، بدأت تبني ذكريات جديدة في نفس الوقت.
لكن رغم كل شيء، وصلا إلى نانسي بعد وقتٍ قصير.
كلوي، المولودة في نانسي، وجدت نفسها في موقف محرج بعد الوصول أرادت أن تشارك ألفين ذكريات طفولتها، لكن كل الأماكن التي زاراها تغيرت كثيرًا.
الغريب أن من أرشدها بشكلٍ أفضل كان ألفين، القادم من فيتسمارك.
“واو، تغيّر المكان كثيرًا كيف تعرف جغرافية هذه المنطقة بهذا الشكل؟”
“لأنني زرت هذا المكان في وقتٍ أقرب منك.”
“بلا شك، جاسوس.”
ضحك ألفين برقة ولمس خدها قائلاً:
“لنعد العام المقبل، والذي بعده أيضاً.”
أومأت كلوي برأسها مراراً نعم، لا بد أن نعود مجددًا قبل أن تختفي الأماكن التي يمكننا أن نصنع فيها الذكريات معًا.
***
استقر كلوي وألفين في منزلهما في إيديلين وقبل أن يذهبا إلى قصر ماركيز ويلنغتون، سألت كلوي:
“ألفين، هل تفضل البقاء في المنزل؟”
كانا قد أقيما حفل زفاف بسيطاً في إيديلين، حضره عدد قليل من المقربين فقط وقدمت كلوي ألفين على أنه جندي من عائلة فلير لم تكن قد كشفت كل شيء، لكنها لم تكذب في ذلك أيضاً إلا أنها لم تستطع خداع ماركيز ويلنغتون بهذا الشكل.
خلال مفاوضات إنهاء الحرب، كان وجه الأمير الثالث السابق لفيتسمارك، والذي أصبح الآن الأخ غير الشقيق للملك، معروفًا لدى كبار ضباط الجيش الإيديليني لم يكن أحد يعلم أنه قائد فرقة خاصة ومستخدم سحر النار، لكن هذا لا يعني أنهم لم يعرفوا هويته.
ورغم أن الماركيز لم يكن من خلفية عسكرية، إلا أنه كان يمكنه الوصول إلى هذه المعلومات فبداية كل هذه الأحداث كانت من مركزه الطبي بل إنه بدأ يشتبه منذ أن جاء ملك فيتسمارك الحالي بشكل غير رسمي إلى إيديلين للبحث عن كلوي.
كان ألفين والماركيز يتعاملان بجفاء غريب رغم أنهما يدركان وجود الآخر وقد لاحظت كلوي تمامًا هذه الأجواء الغريبة ألفين لم يكن يحب التباهي بأصله الملكي، لكن الغريب كان موقف الماركيز الذي بدا باهتًا.
الآن وقد انتهت الحرب، لا يُعقل أن يضيع الماركيز فرصة بناء علاقة جيدة مع العائلة المالكة فيتسمارك لذلك، لم تفهم كلوي سبب هذا البرود بينهما.
قطب ألفين حاجبيه وقال:
“أنتِ تستبعدينني مرة أخرى.”
“لا، فقط خشيت أن يكون الأمر مزعجًا لك.”
“ليس مزعجًا إطلاقًا.”
“هذا جيد هل من السيء أن نذهب دون إعلامه؟”
“أعتقد أنه سيسعد أكثر برؤيتنا هكذا.”
“صحيح، هو ليس من النوع الذي يغلق الباب في وجهنا، لكنه مشغول للغاية.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 75"