“لا بأس بهذا القدر على أي حال، لم أتمكن من الاستفادة من إجازتي السابقة كما ينبغي.”
كان قد تقدم بطلب إجازة مفتوحة وكأن ينوي أخذ سنة راحة، لكنه وجد نفسه يعود إلى الخدمة فجأة وهو يساعد الملك في شؤونه وإن قام أحد بإزعاجه هذه المرة أيضًا، فقد ينتهي به الأمر إلى تقديم استقالته لا طلب إجازة.
“إذا رافقتني، فسأكون سعيدة جداً.”
“أليس من المفترض أن يكون قرار الذهاب معًا أمرًا بديهيًا منذ البداية؟ نحن حديثا الزواج، وسيزعجني أن تُقصيني هكذا.”
قالها آلفين بنبرة متجهمة، فضحكت كلوي ضاحكة باعتذار صادق: “آسفة إن كنت قد ضايقتك.”
وبعد العشاء، تجوّل الاثنان في الحديقة لأول مرة منذ زمن، كما لو أنهما يستعيدان لحظات نسيها الزمان، ثم استلقيا جنبًا إلى جنب على أريكة في الدفيئة، يتبادلان أطراف الحديث برقة وحنان.
فوق السقف الزجاجي الشفاف، انهمر ضوء النجوم المتلألئ كأن السماء تمطر ضوءًا خصيصًا لأجلهما، وكانت أصوات الرياح تتخلل السكون همسًا، لكن أنفاسهما، ونظراتهما المتشابكة، ونبرات صوتهما المليئة بالدفء، كانت أقرب إليهما من أي شيء آخر.
كان آلفين وكلوي قد التقيا في مكان استثنائي، حيث كانت ساحة المعركة شاهدة على بداية حبهما، ونما ذلك الحب في قلب العواصف والنيران كانت لحظاتهما معًا مليئة بالدراما والانفعال، لكن فرص تقاسم تفاصيل الحياة اليومية كانت قليلة ونادرة. وحتى يومنا هذا، لم تتوقف الأحاديث بينهما، تتدفق كما لو أنها لا تعرف النهاية، ولا تزال كلوي تشعر وكأنها لم تكتشف بعد كل زوايا روح آلفين، فسألته بعينين يملؤهما الفضول، واللهفة :
“آلفين، ما نوع الرحلات التي تفضلها؟”
“هممم… أليست كل الرحلات متشابهة؟”
بدا سؤال كلوي غامضًا قليلاً في أذنه، فمال برأسه مستفسرًا.
“هناك من يخطط لرحلته بالدقيقة، وهناك من يتنقل بحسب ما تقوده خطواته، أليس كذلك؟”
“آه، فهمت… لكني لم أفكر في الأمر من قبل.”
ولو طُلب منه تصنيف نفسه، لكان آلفين من النوع الذي يضع الخطط فبالنسبة له، عبور الحدود لم يكن رحلة بل عملية عسكرية ورغم أنه شاهد مناظر تفوق ما رآه كثير من أعضاء فرق المسرح الجوال، إلا أنه لم يسبق له أن استمتع بها حقًا.
“إذا لم نتفق على هذا مسبقًا، فقد ننتهي إلى شجار خلال الرحلة وأنا أريد أن أقضي وقتًا ممتعًا معك، من دون مشاحنات.”
بدت كلوي في منتهى الجدية، وعندها فقط أدرك آلفين السبب خلف أسئلتها، فابتسم.
“وماذا عنك؟ ما نوع الرحلات التي تفضلينها؟ أيًّا كان، فسأتبع ما تريدين، فلا تقلقي.”
“هممم…”
كانت كلوي بطبيعتها تميل إلى الرحلات العفوية التي تتبع فيها قدميها، كما هو حال الغجر؛ فلم يكن بينهم من يخطط لخط السير لكنها لم تشأ أن تفرض أسلوبها عليه، إذ كانت تعلم أن وقته ليس متاحًا كما يجب ففي حال طرأ أمر ما على الوحدة، سيكون عليه العودة فورًا ومثلما كان آلفين راغبًا في أن يتكيف معها، أرادت كلوي أن تراعي ظروفه.
“إذا أردنا المرور بنانسي أيضًا، فمن الأفضل أن نتحرك بنشاط.”
“سآخذ ذلك في الحسبان، وسأحاول تقليص مسار التحرك.”
“نعم، رائع يبدو الأمر ممتعًا.”
توصل الاثنان إلى اتفاق ودي وسلمي ولكن من تلك اللحظة تحديدًا، بدأ الخطأ.
كانت كلوي قد شاهدت مرارًا كيف أن حتى وقت تناول الطعام بالنسبة للعسكريين كان معركة من أجل تحطيم الأرقام القياسية، ورغم ذلك ارتكبت خطأ التقدير بالنسبة لآلفين، كان اختصار الوقت مسألة تختلف جذريًا عما كانت تتخيله.
***
وقفت كلوي على حافة الجرف، تواجه الريح العاصفة بعينين خاويتين، متمسكة بأمل أخير يتلاشى شيئًا فشيئًا، فسألت:
“آلفين، أنت تمزح، أليس كذلك؟”
لكن آلفين داس على شرارة الأمل تلك.
“لا، لست أمزح.”
“لا، مستحيل أنا بارعة في فهم السياق، ومن الواضح أنك تمازحني الآن.”
“…أنا لا أمزح.”
هز كتفيه ضاحكًا، مما زاد إحباط كلوي.
كانا في اليوم الثاني من رحلتهما، وكلوي كانت تشعر بمتعة حقيقية حتى لحظات مضت صحيح أن الطريق كان وعراً أحيانًا، لكنها لم تجد في الأمر صعوبة تُذكر، لا سيما مع رعاية آلفين المستمرة.
لكن بمجرد أن وصلا إلى منحدر حاد لا يكاد يختلف عن هاوية، قال آلفين:
“تمسكي بعنقي جيدًا.”
“…هاه؟”
“فقط تمسكي للحظة، وسأنزلك بسرعة.”
ظنت كلوي أن هذا لا بد أن يكون حلمًا، وضحكت في سرها بسخرية لكنها لم تستطع الضحك فعليًا، فسألت بلهفة:
“آلفين، هل هذا هو الحل الوحيد فعلًا؟”
“لو ذهبنا من الطريق الآخر، سنحتاج إلى أيام إضافية.”
“……”
“ما الأمر؟ أنت تتشبثين بي دائمًا.”
آلفين كان يحب حملها داخل القصر، وكان يعجبه عندما تطوق عنقه بذراعيها وكان كثيرًا ما ينحني ليطلب منها أن تصعد إليه.
لكن اليوم، شعرت كلوي بغضب يغلي داخلها، وردت بأسنان مطبقة:
“أن أقفز ثلاث شبرات عن الأرض في المنزل… هذا ليس مثل هذا!”
في داخله، آلفين لم يجد فرقًا كبيرًا النزول من هنا لا يستغرق حتى عشر الوقت الذي يستغرقه انتقالها من مكتبها إلى غرفة النوم وهو سيبذل الجهد عنها، والارتفاع ليس كبيرًا.
ومع ذلك، شعر أنه ربما بالغ في الحكم بمعاييره الخاصة، فحك رأسه كان من الأفضل لو استمرا باستخدام العربة لكنه كان قد أعاد السائق إلى القصر قبل دخول الغابة، لأن هذه الطرق المختصرة لا تصلح للعربات، وكان الوقت سيتأخر أكثر كما أن المرور عبر الطرق المعروفة للعامة قد يؤدي إلى نقاط تفتيش غير متوقعة، وهو أمر غير مرغوب فيه، خصوصًا بسبب رتبته وانتمائه الحساس.
“إذا كنت خائفة جدًا، يمكننا سلوك الطريق الآخر.”
“لكنك قلت إنه سيستغرق أيامًا إضافية.”
“إن كان لا يزعجك، فلا بأس أنا فقط ظننت أن المشي الطويل سيكون أصعب عليك.”
عبست كلوي كما لو كانت تواجه أصعب قرار في حياتها وبعد تفكير طويل، نظرت إلى آلفين بعينين ملؤهما العتاب فلما لاحظ أنها قررت، ابتسم وانحنى قليلًا.
“لا تضحك أنا أكرهك.”
“أغمضي عينيك وعدّي إلى خمسة فقط، وسنكون في الأسفل أفراد وحدتي يستخدمون هذا الطريق دائمًا وأنا جربته عدة مرات.”
“…حقًا؟”
“نعم.”
“لا تُسقطني.”
(كان يجب أن تقولي: لا تتركني)، همّ أن يمزح، لكنه ابتلع الكلام بحكمة لو كان هناك احتمال ضئيل بأنها قد تسقط، لما اختار هذا الطريق أصلًا.
قفزت كلوي من على الأرض، وعلقت بذراعيها حول عنق آلفين، ولفّت ساقيها حول خصره، ثم أغمضت عينيها بشدة حاول آلفين أن يلف ذراعه حول خصرها ليسندها، لكنه لم يتمالك نفسه من الضحك بسبب إحساسه بأنها تكاد تخنقه من شدة تمسكها به.
“كلوي.”
“ماذا؟ لا تقل لي أننا وصلنا حتى لو أغمضت عينيّ، لا زلت أشعر بما حولي.”
“لا، لكني أعتقد أني على وشك أن أختنق.”
كانت تضغط على عنقه بذراعيها النحيلتين كأنها تخنقه لكن لم يكن هناك مجال لتخفيف القبضة.
“تحمّل، وعدّ إلى خمسة.”
“حسنًا، لنعش وننجُ معًا.”
“لست في مزاج يسمح لي بتقبل هذا النوع من المزاح… لذا، رجاءً لا تقله.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 74"