“كيف لي أن أذهب وأعود مجددًا بعدما أتركها هنا؟”
كان شعور الحنين والافتقاد يتسلل إليه منذ الآن، فتنهد لا إراديًا دون أن تدري بما يجول في خاطر آلفين، كانت كلوي تغرف من الحساء ربما لم تستيقظ تمامًا بعد، إذ إن وتيرة مضغها كانت أبطأ بكثير من المعتاد.
كان لدى آلفين ما يقوله، فأنهى طعامه باكرًا وجلس ينتظرها وعندما وضعت الملعقة أخيرًا، ناولها منديلًا وفتح فمه بالكلام:
“كلوي، هل تستطيعين البقاء وحدك لبضعة أيام؟”
“هم؟”
“حدث أمر ما في الوحدة سأعود في غضون أسبوع على الأكثر وإن تأخرت، فسأتواصل معك حتمًا من خلال أفراد الوحدة.”
في البداية، لم تفعل كلوي سوى أن رمشت بعينيها فقد استغرقها بعض الوقت لتفهم كلامه ولكن سرعان ما أدركت أن ما قاله يعني عودته إلى الوحدة، فخفت نظراتها قليلًا على ما يبدو، فهو ذاهب في مهمة ما بما أنه لن يتمكن من العودة للمنزل لبضعة أيام.
احتضنها آلفين من خصرها وهمس في أذنها:
“ليس بالأمر الجلل لن تقلقي، صحيح؟”
“نعم، إنه عمل، فماذا عساي أن أفعل؟ لن أقلق.”
لكن، وهل يمكن ألا تقلق؟ لقد حاولت فقط ألا تُظهر ذلك لأنها كانت تعلم أنه إذا شعرت بالقلق، فلن يستطيع هو أيضًا أن يرحل بسهولة.
لكن آلفين اتخذ من ردّها موقفًا غريبًا فقد كان يخشى أن تشعر بالحزن، غير أن ردة فعلها الهادئة على غير المتوقع جعلته يشعر بالأسى.
“ردّة فعلك الهادئة هذه تجعلني أشعر بالأسف أيضًا.”
“…إذًا، ما الذي ترغب مني أن أفعله، حضرة القائد؟”
حاولت كلوي دفع صدره وهي تقول أحيانًا إنه يتصرف كالأطفال لكنه لم يتراجع، بل على العكس، ضمها إليه بإحكام أكثر وذهب يطبع القبلات على أذنها.
ضحكت كلوي بصفاء، لكنها كانت تعتقد في قرارة نفسها أن من يتصرف كالأطفال في الحقيقة هي هي، لا هو فمنذ أن التقت بآلفين، كانت تراودها أحلام غير واقعية من قبيل “ألا يمكنني أن أصبح جزءًا منه؟” مع علمها أن الحب الناضج لا يكون بهذا الشكل.
ومع ذلك، كانت تريد أن تكون معه في كل لحظة وبينما كانت تفكر في وسيلة تحقق ذلك، قالت له بنبرة تجمع بين المزاح والجد:
“آلفين.”
“نعم؟”
“هل يجب… أن ألتحق بالخدمة العسكرية؟ هل تقبل وحدتكم بأشخاص من إديلين؟ ألا توجد طريقة للالتحاق عن طريق استثناء من القائد؟”
نظر إليها آلفين فترة دون أن ينبس ببنت شفة، متسائلًا ما الذي تقوله هذه المرة ثم تنهد ضاحكًا، غير مصدّق يبدو أن الأفكار الظريفة لا تنتهي لديها.
“وماذا ستفعلين في الوحدة؟”
“يبدو أنك نسيت أنني كنت عاملة متعددة المهارات ذات كفاءة عالية.”
“…….”
“أنا بارعة في التنظيف والغسيل وأعرف كيف أزرع الأرض أيضًا.”
رغم أنها تعلمت ذلك من خلال المراقبة فقط، إلا أنها كانت قادرة إلى حد ما على إجراء الإسعافات الأولية للجنود المصابين ومع ذلك، بدا أن آلفين غير مقتنع، فعبس وهز رأسه.
“لا أريد أن أُكلّفك بأعمال كهذه.”
“آلفين، لا توجد مهن دنيئة إذا كان هناك عمل ضروري، فلا بد أن يقوم به أحد.”
“متى قلت إن تلك الأعمال دنيئة؟ صحيح أنني لا أحب أن أراك تقومين بأعمال شاقة، لكن ما أقصده هو أن على كلٍّ منا أن يمارس ما يُجيده أنا أكون جنديًا، وأنت تواصلين إعداد العروض عندما يقوم كل منا بما يتقنه، نكون أكثر كفاءة.”
توقفت كلوي للحظة ونظرت إلى آلفين بإعجاب لأن كلامه هذا كان مطابقًا تمامًا لمعتقدها الشخصي فهي من النوع الذي يؤمن بأن الأعمال يجب أن تُوكل إلى أهل الاختصاص كلما أمكن ذلك، وإن لم يكن ذلك ممكنًا دائمًا.
“آلفين.”
“ماذا؟”
“كلامك قبل قليل هو بالضبط السبب الذي يجعلني لا أطبخ كثيرًا في العادة.”
“…….”
“الطبخ لا يعطيني نتيجة تتناسب مع الجهد الذي أبذله فيه لذا من الأفضل أن أستخدم ذلك الوقت في تأليف مقطوعة موسيقية إضافية، وأشتري الطعام من الخارج بدلًا من ذلك.”
“…….”
“تلك هي الطريقة المثلى للمساهمة في اقتصاد الطهاة، وفي الوقت نفسه في إطعام أطفال القارة.”
قالت كلوي ذلك بنبرة جادة، فيما ضحك آلفين وهو يمسك جبهته لم يكن كلامها خاطئًا بالكامل، ولكن لا يدري لماذا يبدو أحيانًا غريبًا ومضحكًا في الوقت ذاته لقد أراد فعلًا أن يعرف ما الذي يجري في هذا الرأس الصغير.
على أية حال، كانت مزحة كلوي سببًا في التخفيف عن قلبه، فطبع قبلة خفيفة على طرف ذقنها تعبيرًا عن امتنانه.
“حسنًا، دعي أمر الطبخ للطهاة، وركّزي أنت على تأليف الأغاني فقط احسبي بيديك سبع ليالٍ، وسأعود.”
كانت كلماته أشبه بما يُقال لتهدئة طفل، لكن كلوي تلقّتها ببراءة.
“نعم، عد سالمًا يا حضرة القائد.”
وانفجر الاثنان ضاحكين سويًا.
***
سارت العملية بوتيرة سريعة فبفضل المعلومات التي تلقوها من البلاط الملكي بعد بلاغ تلقوه، لم يكن على آلفين وفرقته سوى التحقق من تلك المعلومات والتسلل إلى أماكن الأعداء كان من اختصاص آلفين ورجاله.
تسللوا إلى قصور المتورطين، وجمعوا الرسائل والمستندات المختلفة.
كانت العملية بالغة السرية، لكن لا سرّ يدوم إلى الأبد بدأ النبلاء يلاحظون أن الجيش يراقبهم واحدًا تلو الآخر.
أما أولئك الذين كانوا يخططون للخيانة، فقد لجأوا إلى أساليب سلبية، وبدؤوا بإتلاف الأدلة وإخفائها.
لكن، كما هو الحال دائمًا، يوجد من يفضل الوسائل العنيفة فكثيرًا ما اندلع قتال دموي بين جنود آلفين والحرس الخاص للنبلاء، وبدأت العائلات النبيلة تنهار الواحدة تلو الأخرى كل ليلة.
وفي فجر اليوم، حصل آلفين على اعتراف بأن اجتماعًا طارئًا سيُعقد في أحد القصور الكبرى بالعاصمة، فبقي متخفيًا بالقرب منه.
ذهب يراقب التحركات بعينين هادئتين نوعًا ما، إلى أن همس أليكس قائلاً:
“سيدي القائد، يبدو أن الحراسة مشددة نوعًا ما.”
“همم.”
“هل من المناسب اقتحام المكان الليلة؟ لقد قال جلالته إنه يرغب في إنهاء الأمر بأسرع وقت ممكن.”
نظر إليه آلفين نظرة طويلة، وكأنما يقول له: لماذا تكرر عليّ كلامًا بديهيًا؟
“في أي جهة تنتمي أنت بالضبط؟”
بالرغم من توبيخ القائد، كان لدى أليكس بعض الظلم الواقع عليه فقد استُدعي يومياً إلى الملك خلال غياب آلفين، وتعرض لمضايقات شديدة لدرجة مأساوية كان ذلك من وجهة نظر الملك تعبيراً عن الألفة والمودة، لكن بالنسبة لأليكس لم يكن إلا مضايقة وانتقاماً على أمور سابقة.
بدا أن الملك أراد بهذه المناسبة أن يجعل القائد في صفه تماماً وكان ذلك طبيعياً؛ فآلفين كان قائداً كفؤاً، وفوق ذلك، اكتشف أنه يملك قوى سحرية، لذا كان من الطبيعي أن يسعى لتوطيد علاقة ثقة متينة معه.
لكن القائد كان في بعض الأحيان يتضايق من إيماءات الود التي يرسلها إليه أخوه غير الشقيق وفي هذه الأيام، كان أليكس يعاني الأمرّين في محاولته إرضاء الطرفين.
قال آلفين:
“هل أُسرّحك من الخدمة وأرسلك إلى البلاط الملكي؟ الانضمام إليهم سيكون أفضل لمستقبلك.”
أبدى أليكس تعبيراً بالغ الحزن.
“فخامتك… أرجوك، لا تتخلَّ عني.”
ضحك آلفين بصوت خافت وكأن كلامه كان مزاحاً، ثم نظر مجدداً إلى الأمام.
ولصرف أنظار الجنود، أطلق شعلة من النار في الساحة أمام القصر الكبير كان ذلك إشارة بدء العملية لهذا اليوم وبينما كان الجنود في حالة ارتباك، تسلق الأفراد الكامنون في مواقعهم الأسوار كان عليهم القبض على من في الداخل قبل أن يتمكنوا من الفرار.
شارك آلفين بدوره وقفز مع باقي الأفراد ضيّق عينيه وهو يلاحظ أن الجنود، رغم أنهم ليسوا عسكريين نظاميين، كانوا يحملون بنادق ربما كان من السهل تهريب الأسلحة عندما كانت الجثث مكدسة على الجبهات، ولكن متى انتهت الحرب؟ كان من الخطير جداً أن يتجول مسلحون في العاصمة دون تصريح من الجيش.
أشعل آلفين النار أمام جندي صوب نحوه السلاح وفي هذه اللحظة، هاجم دوكرين الجندي وخنقه رافعاً ذراعه المسلّحة نحو الأعلى.
قفز آلفين وضرب ظهر يد الجندي بقوة ثم ركل البندقية التي سقطت منه لتطير بعيداً وقال:
“آسف، لكن لا يمكنني أن أُصاب الآن لدي زوجة تنتظرني في البيت.”
“…”
“لقد وعدتها ألا أسبب لها قلقاً بعد الآن.”
أومأ دوكرين برأسه متفهماً كلمات آلفين الهادئة التي قالها دون أن يغيّر تعابير وجهه هو أيضاً، بصفته زوجاً وأباً لطفلة لطيفة، شعر بثقل المسؤولية.
أما أليكس، فكان ينظر إليهم بوجه متجهم.
(هل هذا يعني إذا لم يكن لديك زوجة، فمسموح لك أن تُصاب؟)
ولكنه لم يتمكن من إخراج هذا التذمر من فمه.
في هذه الأثناء، بدأ الجنود المهاجمون بإخراج النبلاء واحداً تلو الآخر.
بعد أن تحقق آلفين من هوياتهم جميعاً، أومأ برأسه.
“فتشوهم، ثم خذوهم إلى القصر.”
“نعم، مفهوم!”
“اجمعوا جميع الأسلحة، حتى الأشياء الصغيرة، فلا نعرف ما قد يُستخدم كدليل.”
“نعم، فخامتك!”
بدأ الجنود في قنص ما تبقى من المقاومين، وطاردوا الفارين.
أطفأ آلفين النار، ثم نظر إلى السماء الفجرية بينما كانت أصوات إطلاق النار تتلاشى خلفه.
تساءل في نفسه ما إذا كانت كلوي بخير لقد مر أكثر من عشرة أيام منذ رآها آخر مرة.
كان عدد المتورطين في هذه الحادثة أكثر مما كان يتوقع، وبالنسبة لآلفين، كانت هذه الفترة طويلة ومملة للغاية.
لكن رغم ذلك، ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتيه وهو يتذكرها.
في ذلك الوقت، كانت كلوي قد خرجت إلى الحديقة لتستريح قليلاً.
رغبت في التركيز على العمل، لكن الحقيقة أنها لم تستطع أن تركز على المخطوطات أو النوتات الموسيقية كان كل تفكيرها منشغلاً بآلفين.
لقد أوفى آلفين بوعده لها بكل إخلاص.
رغم أنه لم يتمكن من العودة بعد سبعة ليالٍ كما وعد، فقد أرسل أحد جنوده ليخبرها بأن الأمر سيستغرق وقتاً أطول.
بذلك الخبر القصير، كانت كلوي قلقة، ثم ارتاحت قليلاً.
عندما خرجت كلوي من الحديقة وهي لا تزال تشعر بالقلق، كان زائر ينتظرها في القصر.
كان جندياً من وحدة آلفين، نفس الشخص الذي رأته قبل أسبوع.
وبحركة انضباطية شديدة، قال بصوت مهيب:
“هل كنتِ بخير؟ فخامتك أمر بأن أُرافقك.”
“أنا؟ إلى أين؟! وقبل ذلك، هل آلفين بخير؟ لم يُصب بشيء؟”
“نعم، إنه بخير، وقد أتم المهمة بنجاح هو الآن في القصر الملكي، وقال إنه بما أنه خرج، فسيأخذك لتتناولا الطعام معاً في العاصمة.”
كانت ملامح كلوي تشرق بوضوح وهي تومئ برأسها بسرعة.
ركضت إلى غرفتها لتغيير ملابسها.
كان آلفين ينتظرها خارج القصر مع فابيان وأليكس.
رغم أنهم تحدثوا بين حين وآخر عن القضية، إلا أن السبب الحقيقي لبقائهم في العاصمة لم يكن ذلك.
فبما أن المهمة قد نُفذت بنجاح، كان على الجنود أن يحصلوا على قسط من الراحة.
أُعطي الجنود المشاركون في العملية إجازة قصيرة كمكافأة، وكانت العاصمة مكاناً جيداً للشباب لقضاء وقت فراغهم.
من بين نواب آلفين الثلاثة، الوحيد الذي عاد مسرعاً إلى بيته كان دوكرين، لأنه كان لديه ابنة يحبها كثيراً.
عندما نزلت كلوي من العربة، ابتسم آلفين وأومأ برأسه بخفة كإشارة لها أن تقترب.
لكن كلوي اقتربت ببطء، وكان على وجهها تعبير فيه بعض العتب.
كانت سعيدة لرؤيته، ولكن أول ما خرج من فمها كان:
“شكراً لأنك دعوتني إلى هنا، لكن، هل كان من الصعب أن تكتب لي ولو بضع كلمات في الرسالة؟”
صحيح أنها كانت قد سُمِعت بأنه بخير، لكن ذلك لم يمنع قلقها طوال الطريق.
ثم ندمت على ما قالته.
إن لم يتمكن من العودة طيلة أسبوعين، فهذا يعني أنه كان مشغولاً للغاية.
كانت المهمة على الأرجح عاجلة وخطيرة، والآن بعدما انتهى كل شيء، لا بد أنه مرهق جداً.
في ظل ذلك، كان رائعاً منه أن يدعوها للخروج قليلاً.
لكن آلفين أجابها بأمر لم تكن تتوقعه أبداً:
“حسناً… لا أثق كثيراً في نفسي بهذا المجال.”
“…؟”
“يعني، حتى لو كتبت لك رسالة حب، هل ستتأثرين؟ وأنتِ زوجتي، أديبة!”
آلفين، الذي عاش حياته وهو يكتب تقارير، اعترافات، وخطط تكتيكية، كانت عباراته دائماً جافة.
فلا أحد يزين تقريراً بالعبارات البلاغية.
حتى عندما يتحدث، لم يكن الوضع مختلفاً كثيراً.
كان يحاول ألا يكون كذلك مع كلوي، لكنه قضى وقتاً طويلاً مع الجنود، فكان أسلوب العسكريين يتسلل إلى كلامه دون قصد.
والمشكلة أن ذلك كان يحدث أحياناً حتى في السرير.
كان يُصدر تعليمات بصيغة الأمر القصيرة دون أن يعرف ، ثم يتوقف فجأة ويعتذر قائلاً “آسف”.
لكن كلوي كانت تضحك وتقول: ” لا تهتم ، في أذني، تبدو مثيراً فلا تقلق وتحدث براحتك.”
نعم، لم تكن امرأة عادية أبداً.
أما الآن، فقد كانت تنظر إليه بنظرة غير مصدقة:
“هل أنا طلبت منك تكتب لي رسالة حب؟ أنا ما أتوقع من شخص مشغول مثلك أمورًا كهذه.”
كانت ستشعر بالتأثر حتى لو قرأت منه جملة أو جملتين فقط، تخبرها بأنه بخير.
بل في الحقيقة، كانت ستشعر بالراحة فقط برؤية خط يده.
ابتسم آلفين وأومأ برأسه:
“حسناً، لست معتاداً، لكن سأحاول.”
ثم فتح ذراعه كإشارة: “وهل هذا كافٍ الآن؟”
اقتربت كلوي منه وتوقفت على بعد خطوتين.
لكن يبدو أن آلفين لم يرضَ بذلك، فطوق خصرها بذراعه القوية.
“اقتربي أكثر ألم تشتاقي إليّ؟”
“اشتقت وأنت؟”
ابتسم آلفين وعانقها كجواب.
ذهب الأربعة يتجولون في العاصمة فيتسمارك بهدوء.
كان الجنود الثلاثة بملابس مدنية، لتجنب إثارة القلق بين السكان.
لذلك، تمكنت كلوي من التجول براحة تامة.
ليست هذه أول مرة تزور فيها العاصمة، فهي مثل إيدلين، مركز للفنون والعروض.
لكنها المرة الأولى التي يرافقها أحد لأجلها فقط.
كانت تصغي لشرح آلفين، وتضحك أحياناً وهي تهز رأسها.
بعد أن أنهوا العشاء في مطعم فاخر، اختلق فابيان عذراً للانسحاب:
“فخامتك، سأذهب الآن مضى وقت طويل منذ رأيت أصدقائي.”
“حسناً، أحسنت العمل.”
“لا شكر على واجب استرحوا.”
هذه هي الفطنة بدأت السماء تظلم، وكانت كلوي تضحك كثيراً لدرجة أنها بدت كشخص آخر عن تلك التي كانت في القاعدة.
أما آلفين، فلم يرفع عينيه عنها.
كانت نظرته هادئة، لكنها مشتعلة من الداخل.
بعد أن تبادلوا الحديث لبضع ساعات، حان وقت ترك المجال لهما.
نظر آلفين إلى نائبه الآخر، أليكس، وكأن عينيه تقولان: “لماذا لا تذهب أنت أيضاً؟”
كان أليكس ينوي الذهاب، لكن لم يكن لديه أهل أو أصدقاء ينتظروه.
البيت الفارغ كان موحشاً، لكنه لم يرغب في العودة إلى القاعدة أيضاً.
كما أنه لم يستطع الاختلاط ببقية الجنود، لأنهم كانوا يهابونه كضابط.
وفجأة، بدأ الناس في العاصمة يتهامسون، فالتفت الجميع ناحية مصدر الضجة.
كان الحريق يتصاعد من أحد المحال.
استجاب جنديان بسرعة.
يجب احتواء الحريق قبل أن يمتد إلى المباني المجاورة.
“تحقق إن كان هناك جنود لم يعودوا بعد.”
“نعم، فخامتك.”
أراد آلفين أن يتحرك للتأكد من سلامة السكان، لكن كلوي أمسكت معصمه فجأة.
ثم نظرت إلى أليكس بعينين مشككتين، وضاقت عينيها.
(أليكس، أنت من وحدة خاصة، يفترض أن تكون كتوماً، أليس كذلك؟ وتبدو فطناً…)
إن اكتشف السر، واضطرت أن تتخلص منه…
رغم أنها لم تفعل ذلك مع أحد من قبل، لكنها دائماً ما تتحدث بهذه الطريقة.
أليكس فوجئ بنظراتها المشككة ولم يفهم السبب.
لكن آلفين، الذي أدرك نية كلوي فوراً، تنهد وأصدر أوامره من جديد:
“اذهب وأخبر الناس في المبنى المجاور بالإخلاء.”
“ألن أجمع الجنود؟”
“افعل ما طلبته أولاً.”
“… نعم، فخامتك.”
جذبت كلوي آلفين إلى زقاق ضيق، ثم ضمّت يديها وأغمضت عينيها بتركيز.
كان آلفين يراقبها بوجه جاد.
لكنها، التي خاضت الكثير من الأحداث، لم تعد تشعر أن هذه القوة عبء أو أمر صعب.
لم يمر وقت طويل حتى اضطر آلفين إلى رفع رأسه نحو السماء، ثم مسح جبهته وتنهد:
“…هاه.”
بدأ المطر يهطل على العاصمة.
لكن لم يكن رذاذاً ولا مطراً غزيراً، بل كأن أحداً سكب دلواً ضخماً من الماء من السماء.
ذهب الناس، الذين فروا من الحريق، يحدقون في السماء بدهشة.
(ما هذا؟)
أصبح الجميع يركضون للاحتماء من المطر، رغم أن السبب مختلف عن السابق، إلا أن الفوضى هي نفسها.
لو استمر الأمر هكذا، فقد تتعرض الأنهار للفيضانات وتغرق المباني.
لكن كلوي لم تتوقف.
حدّقت نحو اللهب حتى تأكدت من أنه انطفأ تماماً، ثم ضمّت يديها مرة أخرى.
فأخذ المطر يهدأ شيئاً فشيئاً حتى توقف تماماً فجأة.
بدأ الناس، الذين احتموا تحت الأسطح، ينظرون حولهم بدهشة:
(مجدداً؟ ما هذا؟)
كان الأمر وكأنه معجزة.
كل شيء حدث بسرعة مذهلة.
المسؤولة عن هذه المساعدة العامة الممتازة، نظرت بوجه متجهم إلى آلفين وسألته:
“أليكس، لم يُصب بشيء، صحيح؟”
“…”
“هاه؟”
كانت سرعة التنفيذ ودقته تدل على أنها كانت تهتم بأمره بالفعل.
كان آلفين قد ابتلّ تماماً، كان يمرر يده عبر شعره المتقاطر بالماء، وتنهد مراراً.
ثم نظر إلى كلوي بنظرة معقدة، وهو يتذكر ما قالته يوماً عندما كانت تلعب مع الجنود في الرمال:
“أنا أحب المعارك السريعة.”
فكر طويلاً، ثم قال:
“كلوي.”
“نعم؟”
“بما أنك هكذا… لمَ لا تنضمين للجيش؟”
حقاً، كانت موهبة لا تُعوّض.
أداءها يفوق بعض أفراد وحدته.
ابتسمت كلوي وأومأت برأسها مراراً:
“أليس كذلك؟ فكرت مؤخراً أنني أمتلك طبيعة عسكرية.”
رغم أنه هو من اقترح ذلك، إلا أنه نظر إليها بنظرة فيها بعض الغيظ.
(أنتِ تعلمين كم حاولت منعك من حمل السلاح، والآن تمازحينني بهذه الطريقة؟ ببراءة وعلى وجهك هذا الشحوب؟)
أمسك شفتيها وهزّها بخفة.
لكن لم يستطع إخفاء ابتسامته رغم كل شيء.
بدأ يمسح وجهها المبلل مراراً بظهر يده، وكأنه يريد حمايتها بكل ما أوتي من قوة.
لكن المطر ظل ينساب من رموشها وشعرها الأسود على وجنتيها.
حتى لو أراد أن يمنحها ثيابه، فهو أيضاً كان مبللاً من الرأس إلى القدمين.
وفي النهاية، احتضنها واستدعى قوته السحرية.
ليمنح المرأة التي يحبها أكثر من أي شيء… دفء قلبه.
ضحكت كلوي وهي تعانقه بدورها.
رغم المطر البارد… كان دافئاً بلا حدود.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 72"