ظنّت كلوي أنها أظهرت مظهرًا لا يليق بأميرة أمام أحد أفراد العائلة الملكية من الدولة المجاورة، فسارعت في الاستعداد للانتقال وحين تمتمت قائلة: “هل عليّ أن أستدعي بعض العمال…؟”، بدا ذلك غريبًا لآلفين فعيناه لم تريا ما يستحق النقل باستثناء بعض الملابس.
أمسكت كلوي بيده واقتادته إلى الطابق الأرضي وعندها فقط أدرك آلفين أنّ المبنى بأكمله مملوك لها. “لا عجب أنني لم أسمع أصوات سكنى فيه.”
غير أنّ الطابق الأول بالكاد كان يتّسع للوقوف وبينما يتفحّص الغرفة المليئة بالكتب واللوحات، قال آلفين:
“أليس من المعتاد أن يسكن الناس في الطابق الأرضي ويضعوا الأمتعة في القبو؟”
فأجابت كلوي: “في إيديلين هناك موسم للأمطار، فماذا أفعل إن غمرت المياه المكان؟”
“وهل لا بأس عندك لو غمرتك المياه أنتِ؟”
سأل آلفين بدهشة، إلا أنّ كلوي أومأت برأسها بوجه جاد.
“ذلك أفضل فجسدي يمكن تنظيفه على الأقل، أما هذه، فلو تبللت مرة فقط فهي نهايتها.”
“…….”
رفع آلفين إبهامه وسبابته محاولًا قرص شفتيها، لكن كلوي تفادته بعضّها بنفسها وهي تقول “آه”. فأمسك آلفين وجنتها بخفة وهزّها كان يعرف جيدًا مقدار حبها للكتب واللوحات، لكن أن تضعها قبله؟ بدا له الأمر مبالغًا فيه بعض الشيء.
قررت كلوي أن تشرح لحبيبها المتحيّر بطريقة أوضح قررت أن تتحدث عن المال، رغم أنه أمر غير أنيق، لكنه وسيلة فعالة أشارت إلى لوحة في الزاوية وقالت:
“آلفين، هذه اللوحة رُسمت بيد أشهر رسام في بلدك الآن صحيح أنه لم يكن بهذا القدر من الشهرة وقتها، لكن كان هناك من رأى فيه المستقبل هل تعلم كم اشتريتها؟…”
ثم اقتربت وهمست في أذنه، دون وجود أحد يتنصّت تغيرت ملامح آلفين عند سماع الرقم.
“إذًا لم تشترِ منزلًا، بل استثمرت في هذه الأشياء؟”
شعرت كلوي بالحنق لتعرضها للإحراج بالأمس بسبب المنزل والسرير المكسور، فقالت بحدة:
“كان عندي ما يكفي لشراء منزل، حسنًا؟ على كل حال، مؤخرًا جاءني ثري عبر الماركيز يطلب شراء هذه اللوحة هل تعلم كم عرض؟…”
وهمست مجددًا في أذن آلفين وحين علم أن السعر المعروض كان أكثر من عشرة أضعاف سعر الشراء، تغيرت ملامحه مجددًا.
“الآن فهمتِ لماذا أضع هذه اللوحات فوق رأسي؟”
“نعم اقتنعت.”
كانت كلوي تذهب إلى صالات العرض أحيانًا مع الماركيز ويلينغتون، وكان الرسام الذي تختاره دائمًا ما يحقق النجاح لاحقًا وفي مجال الاستثمار الفني، كانت كلوي تتفوق على الماركيز كانت طريقتها بسيطة: تشتري ما تحب، دون تفكير معقد.
لكن هذا كان له عيب فحتى لو عُرض عليها سعر أعلى، لم تكن ترغب في البيع لكنها تساءلت: “أليس من الأنانية أن أستأثر بكل هذه الروائع وحدي؟ الفنان الذي يقدم الفن للناس لا يجب أن يتصرف بهذا الشكل.” لذلك، كانت تفكر في إقامة معرض يجمع لوحاتها يومًا ما.
أخذت كلوي آلفين إلى لوحة هي الأحب إلى قلبها كانت الألوان السوداء والحمراء مكدّسة على القماش كالبقع، والخدوش التي تعمّدها الرسام واضحة.
“آلفين، ما رأيك بهذه اللوحة؟”
تمعّن آلفين في القماش مليًّا كان يشعر أن كلوي تنتظر منه تعليقًا مميزًا، لكنه لم يكن خبيرًا بالفن، فقرّر أن يكون صادقًا.
“مخيفة بعض الشيء.”
لكن كلوي أومأت برضا واضح وقالت:
“أليس كذلك؟ مخيفة، أليس كذلك؟ اسم هذه اللوحة هو (قلب الإنسان).”
“…….”
“رسمها صديقي الفنان الذي حدثتك عنه سابقًا.”
كان صديق كلوي يتمتع بموهبة فائقة، وكانت تؤمن تمامًا بأنه سينجح يومًا ما.
لكن تلك الموهبة كانت كبيرة لدرجة أنه رسم قلب الإنسان بلا تصفية أو تلطيف لقد تجرأ على لمس منطقة يعجز الفنانون عادة عن التعبير عنها رغم تفكيرهم بها.
فهل كان من الطبيعي أن يكون رد الفعل سلبيًا؟ رأى الناس أن اللوحة مزعجة، بل ومقزّزة. و”مخيفة” كانت من أهون التعليقات ربما كان النقد مؤلمًا جدًا لذلك الصديق الحساس لكن كلوي لم تعرف بذلك إلا بعد وفاته، فقالت لنفسها: “أنتم تتضايقون لأن اللوحة تشبه قلوبكم كثيرًا.”
ثم أخذت آلفين إلى لوحة أخرى كانت تصور ظهر طفل يمسك بيد والدته لم تُرَ الوالدة كاملة، لكن الاتصال بينهما واضح كانت لحظة دافئة في ظهيرة مشمسة.
“ما رأيك في هذه؟”
“دافئة.”
أومأت كلوي برأسها وهمست كأنها تكشف سرًا:
“هذه أيضًا من رسم صديقي نفس الشخص.”
أترى؟ كانت اللوحة الأولى مخيفة، لكن ألا تشعر أن انطباعك عنه أصبح معقدًا الآن؟
هكذا هو الإنسان، كائن متعدد الأوجه فما بالك بفنان يرسم ما يشاء على القماش؟
لكن كلوي كانت تعرف أكثر عن حقيقة صديقها ففي أيام الجوع في العاصمة، أعطى حصته من الخبز لطفل مار كان شخصًا رقيق القلب.
جلست كلوي القرفصاء أمام اللوحة وقالت:
“آلفين، أنا… قررت أن أترك صديقي يرحل.”
فاحتضن آلفين ظهرها الصغير بصمت.
التمسك بالراحلين يدمّر حياة الأحياء لكن هل كانت كلوي لا تعرف ذلك؟ بل كانت تعرف، لكنها أرادت أن تبقى مع صديقها حتى وإن دمّرت حياتها لأجل ذلك لم يكن هناك وسيلة للبقاء معه سوى استحضار الذكرى مرارًا أرادت أن تعتذر، أن تُكفّر عن انشغالها عن صديقها في أصعب لحظاته.
لكن ما دفعها أخيرًا إلى قرار الوداع لم يكن مجرد النضج، بل رؤيتها للأمر من زاوية أخرى لقد وجدت سببًا.
صديقها الذي كان يرسم أفضل من أي شخص كان اسمه الفنان R.J.
لقد ترك الكثير من اللوحات خلفه وهذا يعني أنه قدّم الكثير من الجمال للعالم. لذلك فكّرت كلوي: “من الظلم أن يُذكرك الناس بالحزن بسبب حزني الطفولي والندم.”
“حين صعدنا العاصمة معًا لأول مرة.”
“نعم.”
“تواعدنا كالأطفال، بشبك الأصابع أن ننجح معًا.”
“…….”
“آلفين، سأحقق ذلك الوعد مهما كلفني.”
صديقي، سأحقق النجاح سأنجح أكثر من الآن لن أستسلم.
وسأرسمك على المسرح ذات يوم سأُخبر الجميع ما هي الألوان التي كنت تحبها، وكيف كنت شخصًا رائعًا.
سأُجسد تلك اللحظة التي أعطيت فيها خبزك للطفل وتلك الابتسامة، كيف أثّرت في قلبي حينها، بعد أن أبلغ القمة، سأخبرهم جميعًا.
لذا، في مكانك ذاك، ارسم كما تحب وإن تعثّرت لوحاتك يومًا، يمكنك زيارتي في الحلم مثل تلك الليلة حين طرقت باب مرسمي دون سابق إنذار وسأستقبلك بابتسامة حتمًا.
يا صديقي، الفنان R.J.
لقد كنت أكنّ لك… احترامًا وحبًا حقيقيين فكن في سلام هناك.
ابتسمت كلوي في حضن آلفين، وهي تطلق سراح صديقها أخيرًا.
***
اجتمع التوائم الثلاثة في الصالون في لقاءهم المعتاد فقد كان اليوم ليلة “الفنانين” لكن الحاضرين تفاجؤوا بوجود شخص ليس من الوسط الفني، وهو آلفين.
قالت جوليا همسًا:
“كلوي، يبدو أن حبيبك وسيم فعلًا الجميع ينظر إليه.”
ضحكت كلوي وقالت:
“لكن ملامحه لا تصلح لأن يصبح ممثلًا كبيرًا.”
ردّت عليها أندريا، الممثل الشهير:
“ولمَ تعتقدين ذلك؟”
“لو كنتِ كاتبة مسرح، فماذا سيكون الدور الذي تعطيه له؟”
“أمم، أمير؟”
تجمدت كلوي وآلفين في اللحظة نفسها ثم أومأت كلوي برأسها بعد سعال خفيف:
“بالضبط لا يصلح لدور الشرير أو الفقير تعبيراته محدودة ولكي يتجاوز هذا الوجه الوسيم، يحتاج إلى موهبة تمثيل خارقة.”
“أنتِ صعبة الإرضاء كالعادة.”
وعلى الرغم من شرحها المفصّل، لم تسلم كلوي من الانتقاد، فعبست وجهها بينما لم يكن آلفين، غير المهتم بمظهره، يعطي كلامهن اهتمامًا كبيرًا وكان يراقب من حوله.
كان في الصالون عدد من الغرباء الأطوار بعضهم يصرخون في نقاشات حامية، وآخرون يشربون بلا توقف، ثم فجأة يجلسون للعزف بجنون بل ووجد من يدخن الأعشاب والتبغ في الزاوية، فعبس آلفين.
“ليست بيئة جيدة.”
لم يَرُق له أن حبيبته ترتاد هذا المكان بانتظام. لكن الثلاثي رأوا أنه قلق بلا داعٍ.
“كلوي تعرف كيف ترفض. ألم نقل إنها لا تشرب أثناء العمل؟”
وكان ذلك صحيحًا بل لم يعد أحد يجرؤ على إجبارها إذ أنّ صرامتها لم تكن نتيجة يوم أو يومين، بل خبرة طويلة.
لكن آلفين كان يرى أن امتناعها عن الشرب هو العجيب فالجو العام مغرٍ بالانحراف هو نفسه نادرًا ما يشرب، لأنه جندي وسبق أن تعرض لمحاولات اغتيال كثيرة أما كلوي، فلا سبب لديها.
“كيف تفعلين ذلك؟”
أجابت كلوي بهدوء:
“إن كانت أعمالك أثمن من لحظة متعة، فالأمر سهل والفنانون أصلاً ليسوا بكامل عقولهم فهل يحتاجون إلى السكر ليزيدوا جنونهم؟”
نظر إليها شاعر كان يشرب بصمت فسارعت كلوي إلى تعديل كلامها:
“لكلٍ طريقته في العمل علينا أن نحترم الاختلاف والتنوع.”
ضحك الثلاثي وآلفين على طريقتها في التملّص، أما هي فابتسمت بفخر وهي تفكر: “ربما أنا مضحكة فعلًا هل أكتب مسرحية كوميدية قريبًا؟”
ثم سألت أندريا فجأة:
“بالمناسبة، كلوي، متى تتزوجان؟”
قطبت كلوي حاجبيها بارتباك.
“هل أعلن أحدهم زواجي في كل الأرجاء؟ أنا لم أقل شيئًا، فلمَ الجميع يعلم؟”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 66"