استمر اللقاء حتى الليل حين ارتفع القمر عاليًا في السماء لم يبقَ يقظًا سوى آلفين وكلوي، إذ لم يتناول أيٌّ منهما قطرة واحدة من الكحول، بينما كانت الثلاث توائم ضعيفين في شرب الخمر، باستثناء أندريا التي بدا من الواضح أنها تستطيع الشرب بكميات كبيرة قالت جوليا بلسان مثقل بالكلمات:
“في الحقيقة، ظننا أن حبيب كلوي قد توفي.”
كادت كلوي أن تبصق الماء الذي كانت تحتسيه، أما بنجامين، فعلى الرغم من أنه كان قد بدأ يشعر بتأثير الشراب، فقد صحح الأمر بهدوء:
“جوليا، قولي إنه تعرّض لحادث مؤسف الشخص المعني ما زال حيًّا ويستمع إلينا.”
لم يكن من اللائق أن يصدر مثل هذا التصحيح من شاعر يوزع كلماته كأنها سُم، ومع ذلك، كان هذا يعني أن بنجامين هو الآخر قد فكّر بالمثل سأل آلفين، الذي كان يجلس مائلًا على كرسيه يستمع:
“ولماذا؟”
أجابت أندريا:
“كلوي كانت، أثناء حديثها عنك، تنظر إلى السماء وتبدو شاردة النظرات مع أنك تعرف، هي لم تعش يومًا حياة تناسب تلك النظرات الحالمة والآن وقد مضى كل شيء، يمكنني أن أقول إننا كنّا مرعوبات بحق.”
ابتسم آلفين ونظر إلى كلوي قائلًا وكأنه سمع شيئًا ممتعًا:
“حقًّا؟”
زفرت كلوي للمرة السادسة والثلاثين على الأرجح منذ بداية هذا اليوم، ونظرت إلى الأفق البعيد ثم نهضت لتوقف التوأم عن الشرب، بل ووبّخت جوليا على غير عادتها قائلة إن الأمر يؤذي حبالها الصوتيةرلكن المدهش أن لا أحد أولى الأمر اهتمامًا.
جذب آلفين كلوي، التي كانت تتجادل مع أصدقائها، وأجلسها إلى جواره، ثم لفّ ذراعه حول خصرها ونظر إلى كأسها التي لم ينقص منها شيء فظن لوهلة أن الأمر قد يكون خوفًا من العودة إلى المنزل في حالة سُكر، فقال:
“أنا هنا، إن رغبتِ في الشرب فاشربي كأسًا أو اثنتين سأوصلك إلى المنزل بأمان.”
لكن الجواب جاء هذه المرة أيضًا من بين التوائم الثلاث:
“هي في الأصل لا تقترب من الخمر إن كانت تعمل على نص جديد. … مهلاً؟ هل تعملين على نص حاليًا؟”
فجأة، خيّم الصمت على التوائم، ونظر آلفين إلى كلوي بنظرة غريبة كلوي أسندت ذقنها إلى يدها وأخذت تفكر كانت قد وعدت الماركيز بكلمات خرجت من فمها، وكان عليها أن تفي بها وإن لم يكن من أجل وعدها، كانت ستقوم بذلك على أي حال غير أن وجود آلفين في إيدلين جعلها تفكر مجددًا في مكان العرض.
ردّت كلوي ببرود على التوائم اللواتي كنّ يترقبن كلامها:
“أيعقل أن أُحال إلى التقاعد في هذا العمر يا فتيات ويا سادة؟”
هنا، حَكّ الجندي الذي كان يفكر أحيانًا في التقاعد حاجبه.
وبينما كانت كلوي تفكر بأنها قد جلست طويلًا، رتّبت المكان ونهضت وعندما توجهت إلى الموظف لتدفع الحساب، عبس آلفين وسارع ليمنعها فتقدّمت مجددًا قائلة:
“لدينا مقولة شهيرة في إيدلين.”
“ما هي؟”
“الشكر يكون بالمال.”
“…….”
“آلفين، شكرًا لأنك قابلت أصدقائي.”
لكن آلفين، الذي لا يزال يشعر بالذنب لأنه لم يستطع فعل شيء لها أثناء وجودها في القاعدة، دفعها برفق وقال:
“آسف، كلوي لكن حتى لو قدّمتِ الشكر مالًا، فلن يُجدي نفعًا مع أحد من العائلة المالكة قوليها فقط بالكلمات كما فعلتِ الآن.”
ثم دفع الحساب بوجه متجهم، وأمسك بيد كلوي وقادها إلى الخارج.
في زقاق ضيق، وقفت عربة أنيقة لا تناسب المكان المحيط يبدو أنها العربة التي أُرسلت من منزل جوليا فرغم كونهم في العاصمة، فإن عودة امرأة وحدها في هذا الوقت كان أمرًا خطيرًا.
لوّحت كلوي بيدها مودّعةً جوليا وبنجامين أما أندريا، التي كانت متجهة في نفس الاتجاه، فقد مشت إلى جوار آلفين وكلوي.
ثم بدأت كلوي تترنم بلا وعي وهي تلوّح بأصابعها، فابتسم الرجلان بهدوء كان صوتها بالكاد مسموعًا، لكن من يعرفها جيدًا كان بإمكانه أن يرى بوضوح أن قلبها في غاية الصفاء.
وهكذا كان رغم لحظات الحرج والتوتر، فإن تقديم الشخص الذي تحبه إلى من تحبّهم كان شعورًا رائعًا على غير ما توقعت.
سار آلفين خلفها بخطوات قليلة، يستمتع بمشيتها وعيونه الزرقاء تلألأت كبحر صافٍ وهو يحدّق فيها.
غير أن كلوي، التي كانت تسير بخفة، توقفت فجأة التفتت أنظار الرجلين المصدومين إلى حيث تنظر كان هناك رجل وسيم إلى حد ما، لكنه بدا مُهمل الهيئة بدا كأنه سكران أو متأثر بعشبٍ ما خرج من فم أندريا تنهيدة طويلة:
“هاه….”
“ماذا؟ هل تعرفينه؟”
لكن آلفين لم يتلقّ جوابًا، لأن كلوي، التي كانت قد توقفت، بدأت تسير مجددًا، وهذه المرة بسرعة مخيفة كان آلفين قد لاحظ أنها أمس كانت تسير وكأنها لا تعرف التوقف، لكنه الآن أدرك متأخرًا أن ذلك كان لطفًا منها لتسمح له باللحاق بها.
ركض آلفين وأندريا خلفها، والرجل الذي التقته بالصدفة تبعهما أيضًا سأل آلفين مجددًا:
“من هذا؟”
“…….”
“هل هو حبيبك السابق؟”
بدت الحيرة على وجه أندريا، وظهر الانزعاج في عيني آلفين.
أما كلوي، فتابعت سيرها بوجه بارد لا يُقرأ، لكنها في داخلها كانت تسبّ وتشتم شعرت كأنها قضمت قطعة خبز شهية، ثم اكتشفت فيها دودة.
(ما هذه الحالة البائسة؟)
يكفي أنها تتضايق لو لمسته مجرد لمسة عابرة في الطريق، فما بالك وهو يتبعها بينما آلفين خلفها؟ كانت تودّ لو تظهر له أجمل ما لديها، وهذا اللقاء كان أسوأ ما قد يحصل.
لكن الرجل الذي لم تكن تودّ تبادل أي كلمة معه، لم يتوقف عن الثرثرة:
“كلوي، مضى وقت طويل كيف حالك؟”
“…….”
“لم أعلم أنك عدتِ إلى العاصمة لأنني لم أكن أذهب إلى الصالون….”
يا سيد، من طلب منك ذلك؟ لست مهتمة بأخبارك.
استمرت كلوي في السير بصمت، بينما رفع آلفين طرف فمه ساخرًا رغم تجاهل كلوي التام له، فإن إصرار ذلك الرجل بدأ يثير الاشمئزاز.
تدخل أندريا بتبرير قلق:
“لم يتواعدا سوى لبضعة أشهر ذلك الوغد ظل يلاحق كلوي طويلًا، لكنه خانها بعد أن صار معها.”
“هاه.”
“… على أي حال، كلوي قطعت العلاقة فورًا دون أي تردد.”
عندما بدأت كلوي علاقة قبل أن تذهب إلى الجبهة، لم يشعر التوائم بالسعادة بقدر ما شعرو بالقلق لم يكن يعرفون السبب، لكنها بدت حينها في قمة أزمتها النفسية، ولم تكن في حالة تسمح لها بعلاقة سلسة.
ومع ذلك، فإن كلوي، حتى بعد أن تلقت الطعنة، لم تَبدُ عليها أي علامات الندم بل أدارت ظهرها ومضت دون أن تنبس بكلمة كان الغضب من نصيب الممثل الكبير، الذي عبّر عنه عبر صفعة مثالية نفّذها ببراعة فنان مدرّب، نيابة عنها.
لكن ذلك لم يخفف من استياء آلفين فذلك الذي لم يواعدها سوى لبضعة أشهر، ما زال يواصل الثرثرة:
“هل ذهبتِ إلى ساحة الحرب… بسببي؟”
لم يستطع آلفين تحمل ذلك أكثر، وهمّ بالتقدّم، لكنه لم يكن الوحيد الذي انقطع حبل صبره.
توقفت كلوي فجأة كانت على وشك أن تصرخ بكلمة “اصمت”، لكنها تماسكت.
(صحيح، أنا كاتبة قصص أطفال ولو لم أستطع تهذيب هذا النوع من الكلمات، فذلك يعني أنني لست مؤهلة.)
لكنها لم تكن تكتب القصص فقط، لذا فشلت في تنقية كلماتها تمامًا.
“يا هذا.”
“…….”
“أرجوك، فقط أغلق فمك.”
أندريا، التي كانت تسمع من الخلف، تمتمت لنفسها: (فتاتي، ما زلت تملكين صبرًا عظيمًا.)
قالت كلوي بوجه متعب:
“لماذا بحق الجحيم أذهب إلى ساحة الحرب من أجلك؟ من تظن نفسك؟”
كانت تتعجب حقًا من أين ينبع هذا الغرور كفنّان، قد يكون الغرور بهذه الدرجة مثيرًا للإعجاب أما هو، الذي كان يتبعها بوجه منكس، فقد انطفأ بصره كليًا عند سماع كلامها.
“أجل، لم تحبيني يومًا على أي حال لم تكوني تنوين البقاء معي من البداية، أليس كذلك؟”
(ما هذا المنطق؟)
شعرت كلوي بأن صداعًا بدأ يجتاح رأسها وضغطت بإصبعَيها على صدغيها وهي تقول:
“وما الذي تريد قوله الآن؟”
“…….”
“تريد أن تلقي باللوم عليّ؟”
“… ألست مخطئة أيضًا؟”
ضحكت كلوي بمرارة، ثم تنهدت بعمق.
كانت تؤمن دائمًا بأنه لا وجود لشيء اسمه “انفصال جميل”، لكنها كانت تعتقد أن الطرفين يمكن أن يحاولا إنهاء العلاقة بأقل قدر من القذارة.
لو أنك شعرت بالضيق من شيء، ألم يكن من الأفضل أن تفتحه منذ البداية؟ ولو لم تجد أملًا في التغيير، حينها يكون الفراق هو الخيار الناضج.
ما أغرب هذه الدنيا لماذا يصرّ أمثاله على لوم الطرف الآخر؟ هل يزيل ذلك ذنبهم أم يخفف عنهم الشعور بالذنب؟
لكن الجزء الذي يزعجها حقًا لم يكن هذا، بل كان في أمر آخر تمامًا ففي هذا العالم، هناك دائمًا من يتأذى من كلام كهذا.
“أجل، أصحاب القلوب الرقيقة إن صادفوا أمثالك، يبدأون بالتفكير: ربما كنت أنا السبب.”
“…….”
“حتى دون أن تقولها صراحة، سيبدؤون بلوم أنفسهم وتتراجع ثقتهم بذاتهم.”
“…….”
“آسفة، لكنني لا أريد أن أكون منهم سأقولها بوضوح في محكمتنا العظيمة…”
لأن كلوي كانت تنطق كل كلمة بوجهٍ حزين، لم يجد آلفين ولا أندريا فرصة لمقاطعتها وعندما بدأت عبارتها بـ”في محكمتنا العظيمة…”، تنهدت أندريا.
فهي تعرف جيدًا أن كلوي لا تستخدم هذا الأسلوب الساخر إلا في حالتين: إن كانت تمزح، أو إن كانت غاضبة بشدة والآن، من الواضح أنها كانت في الحالة الثانية.
“… في محكمتنا العظيمة في إيدلين، تُفرض الغرامة فقط على من يرمي القمامة في الطريق، لا على من يصادفها صدفة ولا يُجبر أحد على تنظيفها.”
“…….”
“فلماذا يجب أن أسمع أنني مذنبة أيضًا؟ أنا فقط عشت حياتي بجد، وصادفتك مصادفة لا أكثر.”
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال جديد: من هو أول من ألقى بهذه القمامة إلى هذا العالم؟ من غير أولئك الأشخاص!
بسبب أمثالهم، يُضطر أناس طيبون إلى التلفظ بكلمات سيئة عن أهل الآخرين، وهو أمر مريع.
“انتهيت من الحديث إن كان لديك ما تقوله، قلها بسرعة أنا مشغولة.”
كان عليها الآن أن تنهي هذه الانفلاتة اللحظية وتعود لارتداء قناع كاتبة القصص كان عليها العودة إلى البيت لتمنح أطفال القارة الحلم والأمل.
وحين ضغطت مجددًا على صدغيها، كان الرجل، الذي كانت شفتاه ترتجفان، قد بدأ وجهه يتلوى.
“لماذا… لا تذكري ذلك؟”
“ماذا الآن؟”
“أنا… أنا سرقت مسودتك، أليس كذلك؟”
ارتجفت أصابع كلوي للحظة وهي تضع يدها على رأسها المتألم، وقبل أن تتمكن من الرد، تقدم آلفين بخطوات سريعة وأمسك بياقة الرجل النحيل ورفعه عن الأرض ثم حدق في الزقاق الضيق الذي لاحظه، ودفعه إليه بقوة، ثم تبعه إلى الداخل فورًا.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 62"