استفاق آلفين عند الفجر، وكان يربّت على جبهته وهو يطلق الزفرات المتكررة كلوي، التي كانت تعرف السبب بشكل تقريبي، تجاهلته وتفرغت للتمدد في الليلة الماضية، أغرقها آلفين بوابل من القُبل، ثم فتح ذراعيه وقال:
“تعالي إلى هنا لننم معًا بعد طول غياب.”
“همم. لا بد أنك مرهق.”
“ليس الأمر كذلك… كلوي.”
“نعم؟”
“من المؤكد أن علينا شراء سرير جديد.”
شعرت كلوي بالإحراج بعدما انكشف أسلوب حياتها بكل تفاصيله بعد معجم الشتائم لكنها، مهما حاولت، فلن تتمكن من بلوغ مستوى معيشة يليق بأحد أفراد العائلة المالكة لكن مهلاً، ألم يكن جنديًا لا يتردد في المبيت وسط الغابة؟ لماذا أصبح متطلبًا فجأة؟
“هل هو غير مريح إلى هذه الدرجة؟”
في الواقع، من وجهة نظر كلوي، كان السرير المخصص لشخص واحد ضيقًا عليه، إضافةً إلى أنه كان قديمًا جدًا لا بد أنه أنهكه السفر الطويل دون مرافقة أي من خدمه، فربما كان من الأفضل أن تتركه يبيت في قصر المركيز.
لكن آلفين هز رأسه نافيًا.
“الأمر ليس كذلك لكن إذا ضممتك إليّ، أشعر وكأن السرير سينهار.”
“…رائع. أول ما يخطر في بالك وأنت ترى السرير هو هذا.”
“ألن تطمئني على حبيبك؟ ماذا لو كنت قد تعرضت للتعذيب؟”
“بالنظر إلى ما قلته الآن وأنت تنظر إلى السرير، أستنتج أنك بصحة ممتازة.”
هزّت كلوي رأسها متنهّدة، لكنها بدأت تخلع ملابسه قطعةً تلو الأخرى لتواسيه يبدو أن آلفين لم يستطع الصبر، فمد يده التي برزت فيها العروق وجذب ملابسها.
“فلنبدأ بك أولًا.”
“أنا لم أُصب بأي أذى.”
صحيح أنها انهارت على السرير بعد الأمطار، لكنها استعادت عافيتها في غضون أيام إلا أن آلفين هز رأسه مجددًا، ثم قلب جسدها.
“ليس هذا ما أعنيه أردت فقط التأكد من أن الشامة لا تزال في مكانها.”
ضحكت كلوي وهي مستلقية، غير مصدقة.
“وهل تظن أنها فرت خلال الأشهر القليلة الماضية؟”
لكن آلفين لم يُعر الأمر أي اهتمام، وعضّ الشامة في مؤخرتها، فما كان منها إلا أن تصرّفت بعنف.
“توقف! أريد أن أفعلها وأنا أنظر إلى وجهك!”
“…ما خطبك اليوم؟”
“ماذا تعنين؟”
“أنت لا تتوقف عن قول أمور كهذه… أكاد أفقد عقلي.”
لم يكن يتحدث لمجرد المجاملة، فقد بدا فعلًا كمن يكابد ليكبح جماحه وهو يمرر يده في شعره مرارًا وهكذا، قضيا الليل تارة يتبادلان النظرات، وتارة أخرى لا يرون وجوه بعضهم لحسن الحظ، بقي السرير سالمًا.
ظنت كلوي أن سلسلة توبيخاته قد انتهت عند هذا الحد، لكن آلفين أطلق زفرات أعمق من اليوم السابق فمع بزوغ الفجر، بدا له الوضع أكثر سوءًا من البارحة.
فهذا المكان لا يصلح لتناول الطعام صحيح أن هناك موقدًا بدائيًا خلف ورشة العمل، لكنه يبدو غير مستخدم منذ زمن طويل وبعد أن تجوّل آلفين في الخارج منذ الصباح الباكر، عاد وسأل:
“كيف كنتِ تأكلين طوال هذا الوقت؟”
“كنت أشتري الطعام.”
“كل وجباتك؟”
“…خلال الأشهر الماضية، نعم.”
نظراته إليها امتلأت بالأسى، فانخفض صوتها شيئًا فشيئًا.
“كلوي، إن كنتِ لا تحبين إدخال الناس إلى منزلك، فالتحقي بالجيش حتى في الجيش نحصل على وجبات وفي وحدتنا تحديدًا، الطعام جيد لأن العمل شاق.”
“ألا يمكنك التوقف عن توبيخي؟ لست في السابعة من عمري.”
“لو كنتِ في السابعة، لقلت إنك مجرد طفلة وسأفهمك على الأقل.”
ولأنه لم يعد لديها ما تقوله، بدأت كلوي تخدش رأسها، ثم عادت للتمدد بنشاط ضغط آلفين بيديه على أسفل ظهرها عدة مرات، ثم خرج وهو يوصيها بإغلاق الأبواب جيدًا.
عاد آلفين وهي جالسة أمام مكتبها، تكتب شيئًا بتركيز كان يحمل كيسًا ورقيًا ثقيلًا في يده.
“ما هذا؟”
لم يجبها، بل أمسك بيدها وسحبها للخارج اتجها إلى الساحة الخلفية للورشة ومن الكيس، بدأ آلفين يُخرج مكونات غذائية بسيطة.
“سنتناول شيئًا خفيفًا، والغداء نأكله في الخارج.”
“هل ستطبخه بنفسك؟”
“وهل ستفعلينه أنتِ؟”
“…سأبقى هادئة ومطيعة.”
ومنذ تلك اللحظة، بدأ في إعداد يخنة الطماطم بصمت جلست كلوي القرفصاء تراقبه.
بصراحة، لم يكن آلفين طاهيًا بارعًا كانت الخضروات التي يقطعها ذات أحجام متساوية لكنها خشنة كان يطهو كما لو كان يؤدي واجبًا عسكريًا، لا كطاهٍ محترف وسرعان ما أدركت كلوي طبيعة هذا الطعام: إنه طعام للبقاء.
لكن مجرد مشاهدته كان ممتعًا لها فقد فهمت أن هذا أيضًا من وعوده التي يسعى للوفاء بها.
تفقد آلفين المكان من حوله، ثم أشعل النار باستخدام السحر أطلقت كلوي صوت إعجاب وهي ترى هذه الشعلة السحرية البسيطة ابتسم الاثنان وهما يشاهدان اليخنة تغلي.
وعندما بدأت رائحة الطعام تعبق في المكان، ناولها آلفين الملعقة وطلب منها أن تتذوق أولًا تذوقت كلوي الطعام بوجهٍ مفعم بالتوقعات، ثم قالت بكل طاقتها:
“هذا يشبه طعم يد جدتي التي تواسي الجراح أشعر وكأنها يخنة طماطم روحي.”
“كلامك لا يبدو صادقًا حتى أنا أعرف أن مستواها ليس لتلك الدرجة.”
ورغم أنه صدّ مديحها كما يفعل عادة، بدا عليه السرور لرؤيتها تأكل بشهية ابتسم بخفة وهمس: “سأطهو لك من حين لآخر.”
في الصباح، كان آلفين وكلوي يتعانقان على السرير كجسد واحد، لكن بعد الظهر أمضياه بفعالية أخذته كلوي إلى أرقى مطعم تعرفه، وحين أبدت فخرها بالطعام الفاخر، عبس آلفين قليلًا.
“هل هذه طريقتك في القول إن طعامي لم يكن جيدًا؟”
“لا، بل طريقتي في شكرك أنا لا أُحسن الطبخ مثلك وأردت أن أخبرك أيضًا أنني كنت آكل جيدًا شعرتُ أنك منزعج قليلًا.”
وبعدها تجولا في العاصمة حتى غروب الشمس كانت تلك أول مرة يخرجان فيها في موعد خارج ساحة المعركة.
لكن لا يزال هناك أمر مهم ينتظرهم قررت كلوي، بما أنها وصلت إلى هذه المرحلة، أن تُعرّف آلفين على التوائم الثلاثة وكان هذا بالنسبة لها بمثابة “البوابة الأخيرة”.
وقبل دخولهم حانة التوائم المعتادة، سألت بتردد:
“لكن، آلفين… هل أنت متأكد أنك لا تريد الكشف عن هويتك؟ أخشى أن يكونوا غير مهذبين معك.”
“أنتِ تعلمين أنني لا أكترث لهذا النوع من الأمور إن سألوا، سأقول إنني ضابط في الجيش، وهذا يكفي.”
حتى مجرد قول إنه جندي في فيتسمارك أمر ثقيل عليها ورغم أن آلفين تصرّف بنوع من التقدير، بدا أن شيئًا ما لا يزال يزعج كلوي.
نظر إليها آلفين بتعبير مشكك هل من الممكن أنها لا تريد أن تعرّفه عليهم بعد كل هذا؟ وبعد لحظة من التردد، قالت:
“أعتقد أنني ذكرت هذا من قبل… قد يبدو أصدقائي غريبي الأطوار قليلًا فقط تفهم الأمر وانظر إليهم بعين العطف فهم طيبون رغم كل شيء.”
“ما الغرابة التي تتحدثين عنها؟ حسنًا، فهمت.”
ولأنه تعامل مع العديد من المجانين في ساحة المعركة، لم يجد في الأمر مشكلة ثم تقدم ليدخل الحانة.
كان التوائم الثلاثة قد وصلوا باكرًا بعدما قرؤوا الورقة التي أرسلتها كلوي إلى خدم القصور كان في نبرة الورقة شيء من الجدية الغريبة، ما جعلهم يتوترون أيضًا.
ساعدت كلوي في تقديم الطرفين، فمد التوائم أيديهم للسلام متظاهرين بالأدب كما يفعل الغرباء عادة.
وعندما قدّم أندريا نفسه، نظر إليه آلفين باهتمام وقال:
“إذًا، أنت أندريا.”
“أه؟ هل تعرفني؟”
“كلوي قالت إنك ممثل مشهور.”
“آه، صحيح.”
لكن عندما نظر آلفين إلى كلوي، حرّك شفتيه بصمت ليقول:
(كلوي الحبيبة… أندريا خاصتك.)
وهي عبارة من إحدى الرسائل التي تلقاها في ساحة القتال تنهدت كلوي وأشاحت بوجهها كانت بالفعل في موقف محرج، فلماذا يزيده سوءًا؟
ومن تلك اللحظة، شعرت كلوي أن الهواء الثقيل بدأ يخنقها لم يتحدث التوائم كثيرًا كما يفعلون عادة، بل كانوا يراقبون آلفين بنظرات متفحصة.
نظرت كلوي إلى البعيد وكأنها تسلّم بالأمر، فطعنتها جوليا في خاصرتها.
“كلوي.”
“ماذا؟”
“لقد فعلتهاِ فعلًا.”
“…إن كنتِ ستقولين شيئًا غريبًا، فالأفضل أن تصمتي.”
لكن جوليا تجاهلت اعتراضها.
“ظللتِ تركّزين على أمر واحد فقط، وها أنتِ تبلغين ذروة الجمال السطحي.”
لم تكن تلك الردود مفاجئة، فوضعت كلوي يدها على جبهتها المتألمة.
“جوليا، حسنًا، كل شيء جميل… لكن هلّا توقفتِ عن تقييم حبيبي وكأنه عمل فني؟ حتى إن كان مديحًا، فذلك وقاحة.”
“يا لكِ من حساسة.”
كان آلفين يبتسم بهدوء وهو يستمع إليهن. بدا أن كلوي تحاول حمايته، لكن الحقيقة أنها هي أيضًا كانت تنظر إلى جسده كأنه تمثال وراقت له رؤية كلوي تتلعثم على غير عادتها.
توجهت جوليا بالكلام إلى آلفين بلطافة:
“بالمناسبة، كيف التقيتما؟”
كانت كلوي تودّ الإجابة عن كل سؤال يُوجّه إليه لكنها لم ترد أن تظهر وكأنها تسيطر، فبقيت تمضغ المقبلات بعيون خاوية.
“عندما كنت على الجبهة، أحضرتني كلوي إلى القاعدة وأسعفتني أنا جندي، كما تعلمون.”
فتدخل بنجامين هذه المرة كان ينوي أن يجري بعض التحريات عن آلفين من خلال علاقات والده ليس لأنه لا يثق، بل بدافع القلق على كلوي.
“هل يمكنني أن أعرف إلى أي وحدة تنتمي؟”
عندها أدركت كلوي أن اللحظة التي خشيتها قد حانت، رغم مرور أقل من عشر دقائق على لقائهم وأصبحت تمضغ الطعام بشراسة.
ثبت آلفين نظره عليها وابتسم، ثم قال بكل هدوء وهو يلقي القنبلة:
“أحد أفواج فيتسمارك لا أستطيع التوضيح أكثر، لكن الأمر لم يعد مهمًا على كل حال.”
“…”
“…”
“…”
ساد صمت ثقيل على الطاولة نظر التوائم الثلاثة إليه بدهشة، ثم تحولت أعينهم الستة نحو كلوي كانت نظراتهم تقول:
(ماذا كنتِ تفعلين هناك يا ترى؟)
كانوا يتحدثون دائمًا عن مواضيع تافهة، كوجود الحب الأبدي من عدمه لكنهم أدركوا الآن أن هناك حبًا يتجاوز حتى الحرب، وهو حولهم.
ثم تدخل أندريا ببراعة لإنقاذ الموقف، بفضل موهبته التمثيلية العالية التي تفوق تمثيل الكشافة في القاعدة أو تمثيل كلوي.
“طفلتي، حتى في الحب تبدعين فنيًا فخور بكِ أنتِ حقًا فنانة عظيمة.”
نسيت كلوي الموقف الحرج، وانبهرت في داخلها.
(هذا هو التمثيل بحق هل يراكم يا رجال الكشافة؟ هل أنتم بخير؟)
وأردف بنجامين:
“أشعر أنني على وشك البكاء من شدة التأثر أشعر بروح النضال في وجه عوائق الزمان.”
أما جوليا، فقد ركّزت على المسائل العملية:
“لكن كلوي، أليس الحب عن بعد متعبًا؟ ما رأيك في شراء عربة الآن؟”
استمعت كلوي لهم بوجه بارد، ثم ابتسمت بسخرية:
“على أية حال، أشكركم جميعًا من أعماق قلبي فلنرفع الكؤوس لعلاقة الصداقة الأبدية بين إيدلين وفيتسمارك ولنصلِّ من أجل السلام القاري.”
وبينما اصطدمت الكؤوس بعضها ببعض، همست كلوي لآلفين:
“أعلم أن ما يقولونه يبدو غريبًا، لكنهم يقصدون التهنئة… أليسوا غريبين قليلًا؟”
“غريبون؟ أبدًا أصدقاء ممتعون.”
في نظر آلفين، كانوا مجرد نسخة من حبيبته.
ورغم أنها كانت المرة الأولى التي يلتقيهم فيها، فقد أدرك على الفور: لم يكونوا ثلاثة توائم… بل أربعة.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 61"