“مرحباً.”
“…….”
كان آلفين، الذي التقته بعد أربعة أشهر، يحييها وكأنه شخص رأته بالأمس، بتحية اعتيادية لكن كلوي لم تستطع أن تبادله تلك التحية بابتسامة.
ظلت تحدق فيه بشرود، ثم عضّت شفتيها فجأة بقوة بعد ذلك استدارت بسرعة وغادرت المكان بخطوات سريعة أما من بقوا في الغرفة، فقد أصيبوا بالارتباك قال الماركيز لآلفين بنبرة يشوبها الشك:
“أنا ماركيز ويلينغتون على كل حال، سررت بلقائك…”
“…….”
“هل من الممكن أنك ارتكبت أمراً شنيعاً بحق ابنتي؟”
كان الماركيز يبدو متأكداً من أن آلفين قد اقترف فعلاً مريعاً في حق كلوي كان أشبه بحموّ يستجوب صهره، ولعله ظن ذلك لأن كلوي بدت كمن لا تستطيع السيطرة على مشاعرها.
ابتسم آلفين ابتسامة محرجة وانحنى انحناءة طفيفة، ثم لحق بها متأخراً بخطوة.
كانت كلوي تمشي دون أن تلتفت خلفها كانت تمشي بعزم لدرجة أن آلفين، بخطواته الواسعة، لم يتمكن من اللحاق بها بسهولة.
وحينما أصبح أخيراً يسير إلى جانبها، كان يتفحص ملامح وجهها، لكنها لم تتبادل معه النظرات.
ربما كان قاسياً أن تُقابل حبيباً لم تره منذ زمن بذلك البرود، لكنه آثر أن يبدأ بالاعتذار.
“كلوي، آسف لتأخري المفاوضات استغرقت وقتاً أكثر مما توقعت، وكان عليّ أن أُنهي بعض الأمور المتعلقة بالوحدة أيضاً.”
“…….”
“هل أنتِ غاضبة جداً؟”
عندها تجهم وجه كلوي فجأة وعضّت شفتيها مرة أخرى كان وجهها يعكس محاولة واضحة لكتم شيء ما، مما جعل آلفين يشعر بحرج شديد لو أنها صبّت عليه جام غضبها كان سيكون الأمر أفضل لو أنها أخرجت قاموس الشتائم الغريب لديها وبدأت تصبّ عليه سيلاً من الكلمات من الغلاف إلى الغلاف، لكان استمع إليها بصمت أي شيء كان ليكون أفضل من هذا الصمت الثقيل.
ولم تفتح كلوي فمها إلا بعد مرور وقت طويل كانا قد دارا في الطريق ذاته سبع مرات تقريباً، وخلال ذلك الوقت كان آلفين يراقبها باستمرار.
“آلفين.”
“نعم.”
“هناك شيء ندمت عليه كثيراً في الفترة الماضية.”
“…ما هو؟”
رغم أنها بالكاد فتحت فمها، فإنها لم تستطع النظر إليه حتى اللحظة، كانت عيناها ترمقان الأمام ببرود، أما الآن فصارتا تحدقان بطرف حذائها.
“أنت تعلم أنني، قبل أن أخرج في مهمة التفتيش، كنت دوماً أقول لك أشياء لطيفة، أليس كذلك؟”
“نعم.”
“فعلت ذلك لأنني خفت أن تكون تلك هي المرة الأخيرة.”
“أعلم.”
كان آلفين يعلم جيداً لماذا تشكل لديها ذلك الهوس كان ذلك بسبب ذكريات فقدان صديق دون توقع، وهو ما جعلها تكرر النظر إلى وجهه وكلماته الأخيرة مئات وآلاف المرات.
أومأت كلوي برأسها وأكملت:
“لكن عندما خرجتَ أنت من القاعدة، لم أتمكن من توديعك بابتسامة ظللت أندم على ذلك باستمرار.”
“…….”
“لو رأيت وجهك الآن، أشعر أنني سأبكي كطفلة، لذا… هل يمكنك أن تنتظر قليلاً حتى أهدأ؟”
لم تكن كلوي غاضبة الآن، بل كانت فقط تحاول كتم دموعها وعندما أدرك آلفين ذلك متأخراً، ابتسم كان ممتناً لأنها شرحت له مشاعرها وظروفها قبل أن يُساء الفهم.
لكن… كلوي.
أي رجل سيقف متفرجاً وهو يرى حبيبته تحاول بكل ما أوتيت من قوة كتم دموعها؟ ألن يفتح ذراعيه ويطلب منها أن تبكي؟
أمسك آلفين بكتفيها وانحنى قليلاً ليقابل عينيها، ثم قال بلطف:
“إذا كان عليكِ أن تكتمي دموعك، فابكي فحسب فأنت تبكين من الفرح، ولسنا… لسنا في وداع أخير.”
“…….”
“وإن شعرتِ بالحرج، يمكنكِ أن تغضبي سأتقبل ذلك.”
غطّت كلوي وجهها بكفّيها، وكأنها لم تعد قادرة على التحمل، وأجهشت بالبكاء ضحك آلفين بخفة ثم جذبها إلى حضنه.
كان المارة يرمقون الحبيبين الذين يتبادلان مشاعر اللقاء مجدداً في وسط الطريق بنظرات جانبية مضى على نهاية الحرب أكثر من مئة يوم، لكن في إديلين بعد الحرب، كانت مثل هذه المشاهد لا تزال تُشاهد كثيراً كان الناس يمرّون متظاهرين بعدم رؤيتهم، لكن ابتسامة لطيفة كانت تعلو محياهم.
حين استعادت كلوي بالكاد رباطة جأشها، أخذت آلفين إلى ورشتها تحت الأرض بعد أن بكت كثيراً في الطريق، بدت ملامحها متعبة ومع ذلك، لم تصدق بعد أنه عاد، فكانت تنظر إليه بين حين وآخر بشرود.
أما آلفين، فكان يتفقد ورشتها لم يكن فيها ذرة غبار، وكأنها شهادة على أنها كانت تعمل يوماً كعاملة نظافة في القاعدة.
لكن، رغم ذلك، لم يكن من الممكن وصف المكان بأنه مريح فالأثاث يقتصر على مكتب وسرير ولوحة مفاتيح ورغم بساطته، إلا أن الغرفة بدت ممتلئة بالكامل.
قد يكون هذا ما جعله يتأقلم جيداً مع بيئة القاعدة التي تشبه المعتقل.
هل يمكن أن أصدق حقاً أنك جنيتِ الكثير من المال؟
“كلوي، ألا تشعرين بالاختناق؟”
“هاه؟”
“أفهم أنه شبه تحت الأرض، لكن… ألم تفكري في العيش بمكان أوسع قليلاً؟”
“…لا، أنا في الأصل كان لدي بيت، لكنني بعته عندما غادرت العاصمة.”
“ألم يكن لديكِ وقت كافٍ لشراء بيت آخر؟”
أشاحت كلوي بنظرها وأدارت الحديث في خجل لم تكن تتوقع قدوم آلفين بهذه السرعة، وكانت تتمنى لو أن الأرض انشقت وابتلعتها، ثم قالت فجأة لتغير الموضوع:
“آلفين، لكن لماذا قلت إنك خرجت من بيت دوق فلير؟ هل تم حذفك من سجل العائلة الملكية؟”
“أفكارك ما زالت مبتكرة كعادتك.”
في الحقيقة، كان آلفين يتمنى ذلك بشدة لكنه للأسف، لم يحدث بعد.
“لكن لا يمكنني أن أقول إنني خرجت من العائلة الملكية ولا أستطيع أيضاً الكشف عن الوحدة التي أنتمي إليها لم تمضِ فترة طويلة على نهاية الحرب، ولم أرد التسبب بمشاكل.”
نعم، هذا معقول أومأت كلوي برأسها وضمت آلفين إلى صدرها حبيبي العزيز، قائد عدوي السابق.
أعجب آلفين بمشاعرها الحنونة، فابتسم وهو يمرر يده على شعرها.
“يبدو أنك كنتِ تقلقين عليّ كثيراً.”
لم تنفِ كلوي ذلك لم تكن تستطيع أن تقول عكس ذلك، حتى لو مجاملة فقد كادت تموت قلقاً أثناء انتظاره.
ولم يكن بيدها أن تفعل شيئاً آخر لم تكن تملك مكانة تتيح لها اقتحام قاعة المفاوضات، ولا كانت تملك الحق في زيارة قصر فيتسمارك الملكي لكنها ربما كانت لتفكر بالتسلل إلى القوات الخاصة لفيتسمارك… لا، هذا مستحيل.
عبرت كلوي عن مشاعرها المتراكمة بمزحة.
“لو تأخرتَ قليلاً بعد، ربما كنتُ قد نظرتُ إلى شخص آخر.”
“…ماذا؟”
“صديقتي سألتني اليوم فجأة إن كنتُ أرغب أن تعرفني على رجل ما.”
ظل آلفين للحظة يحاول فهم ما تعنيه، ثم ضحك بسخرية وبعد أن زالت ابتسامته، بدا وجهه قاتماً.
“هاه، بدأت مشاعري تجاه صديقاتك تصبح… غير ودّية.”
“…….”
“أجيبي بصراحة هل رفضتِ بشكل قاطع؟”
“نعم، طبعاً.”
قالت كلوي وهي تتدلّى شفتيها:
“قلتُ إن لديّ حبيباً، لكن لم يصدقني أحد ربما لأنك لم تكن بجانبي.”
“وهل أزعجكِ ذلك؟”
“من الطبيعي أن يزعجني.”
أومأت كلوي برأسها، وكان آلفين يدلك جبهته.
آه، ما خطبها اليوم؟ إنها شديدة الظرافة بشكل غريب.
ذهب يطبع قبلة صغيرة تلو الأخرى على وجهها وهو يعتذر بلطف.
“آسف لأنني تركتكِ وحدك لاحقاً سنذهب معاً لزيارة كل اصدقائك.”
“نعم، أحب ذلك.”
ضحك الاثنان معاً، ومن تلك اللحظة، كانا يتبادلان الحديث عمّا مرّ به كل منهما.
أخبرها آلفين بأنه حصل على إجازة لا يعلم متى ستنتهي، وكانت أقرب إلى سنة راحة.
وعرفت كلوي أيضاً أخبار بعض الجنود أخبرها آلفين أنه ضمّ ديوي، الذي تدهورت حالته الصحية ولم يعد قادراً على العمل، إلى وحدته، وقال بفتور إنه يمكنه العمل في الأوراق أو الحسابات، لكنه لم يكن يتوقع منه الكثير.
صفّقت له كلوي بحرارة وقالت إنه أحسن صنعاً، ربت آلفين على ظهرها بخفة وهو يضحك من دهشتها.
ثم تحدث عن تفاصيل المفاوضات كان أغلب الحديث مملاً عن الدبلوماسية، لكن بالنسبة لكلوي، بدا كل ما يقوله محبوبها كأنه موسيقى.
وظلت تومئ برأسها وتبتسم بمرح، إلى أن اكتشفت فجأة حقيقة صادمة.
تساءلت بدهشة:
“أن تصيبك لعنة بسبب خطأ في استخدام السحر… هذا صحيح؟”
“نعم لم أكن واثقاً أيضاً، لكن ساحر الأمير الأول بدا كمن شرب سماً.”
تحركت شفتاها دون أن تخرج صوتاً لفترة.
“…آلفين، كيف تقول لي الآن عن شيء مرعب كهذا؟”
“لماذا؟”
“لقد كنت على وشك ارتكاب خطأ فادح!”
“ماذا تقصدين؟”
“كنت أفكر إن كان عليّ أن أتسبب بطوفان، أو أجلب جفافاً! لقد عانيت من هذا التفكير وحدي!”
عندها ضحك آلفين طويلاً أدرك أنها كانت تقول ذلك رغم أنها لم تكن لتقدر على فعله حزناً على الزرع.
“لكن، هل أنت بخير حقاً؟”
كان الجميع يعلم أن جيش فيتسمارك قد استخدم السحر الناري ثلاث مرات في المعركة الأخيرة ولم تكن هناك إصابات، لكن ألسنة اللهب كانت واضحة للعيان من القاعدة.
ضحك آلفين وسحب قميصه لأعلى.
“هل تريدين التأكد؟”
“آلفين، لا تمزح في مثل هذه الأمور هل أنت بخير فعلاً؟”
“أنا بخير تماماً يبدو أن بيتساركي أحب فكرتي.”
كان آلفين قد توقع استنفاد طاقته السحرية قبل استخدامه للسحر فقد كانت المرة الأخيرة تتطلب طاقة هائلة لكنه ظل بخير، بل واحتفظ بطاقته السحرية.
وحين سمعت كلوي أنه بخير تماماً، تنفست ثم بعد فترة من التفكير، تمتمت:
“هذه القوة أكثر تعقيداً مما توقعت هناك الكثير من القيود كلما استخدمتها.”
ابتسم آلفين فقد كان هو أيضاً يفكر في ذلك سابقاً، لكنه وجد الإجابة والطريق من خلال كلوي.
(لكن قولك هذا أمامي الآن غير مناسب.)
ضغط آلفين بإصبعيه فاشتعلت شمعة كانت على الطاولة رغم أن اللهب كان يتراقص، فإنه لم ينطفئ.
“كلوي، سأكون دوماً قادراً على إنارة غرفتك.”
كانت قد قالت له يوماً إنه عندما يضيع، سيكون الآخرون بمثابة علامات لهداه.
فهل سيكون هو أيضاً قادراً على أن يكون لها كذلك؟
لم يكن متأكداً.
لكن عندما تشعرين أنكِ وحيدة في الظلام، سأضيء محيطك لتجدي تلك العلامة بسرعة.
وإن شعر أحد بالعطش، فستسقينه.
كنتِ تريدين أن تمطري الجنود الذين أنهكهم الحر من دون قيد أو شرط، وأنا أفهم ذلك.
وليس هذا فقط إن اضطروا مرة أخرى لعبور طريق الغابة كما حدث سابقاً، فسيكون قادراً على إعداد طعام دافئ لها، وربما يستطيع تدفئة يديها الباردتين أيضاً.
في الواقع، كان ذلك كافياً لهما.
لكن لم يكن هناك ضمان أن تستمر هذه السلام إلى الأبد.
ولم يكن آلفين يخشى ذلك أيضاً.
“كلوي.”
“…نعم.”
“حتى وإن اندلعت حرب أخرى، فسأنهيها أنا.”
“…….”
“في كل مرة… سأجد حلاً.”
أنصتت كلوي لكلماته بصمت، ثم نظرت إليه بعينين دامعتين.
كان أمامها رجل قد عبر خط الموت وعاد.
خاطر بحياته ليوفي بوعده، وأتم مهمته.
أصبح أقوى، وأعلن عزمه على مستقبل أفضل.
قد يكون من غير اللائق قول هذا أمامه، لكنها أرادت أن تقول:
أنا أفضل الانشغال بك على السلام وحدي حرارة المعركة التي عشتها معك أنقذتني، لا سكون القبو.
آلفين فلير فيتسمارك.
أعز وأشرف أعدائي.
وأوفى حلفائي.
“آلفين، شكراً لك.”
“…….”
“شكراً لعودتك سالماً وبصحة جيدة.”
“…نعم.”
“سأقضي حياتي بأكملها ممتنة لذلك.”
لم تستطع كلوي أن تكبح مشاعرها المتدفقة، فاندفعت تعانق عنقه بشوقٍ غامر.
أما ألفين، فكأنّه كان ينتظر هذه اللحظة منذ دهر، فطوّق خصرها بذراعيه وسكب على شفتيها قبلة لقاءٍ ملتهبة، تحمل كل ما عجزت الكلمات عن قوله.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 60"