بعد أن أنهت كلوي اجتماعها الدوري مع التوائم الثلاثة، لم تعد إلى مرسمها بل أخذت تتجول في الشوارعرفلقد شعرت بالارتياح والاضطراب في آنٍ معًا بعد أن بلغها خبر إتمام توقيع اتفاقية السلام.
في الحقيقة، كانت تشعر ببعض الضيق من آلفين هذه الأيام.
«إن كان الأمر قد انتهى قبل ثلاثة أسابيع، لكان لديه ما يكفي من الوقت ليأتي إلى العاصمة هذا الوغد.»
هي نفسها من قالت له من قبل إن لا بأس إن لم يبحث عنها طالما بقي بخير، لكن يبدو أن مشاعر الإنسان تتبدل بين الصباح والمساء.
ومع ذلك، كان يمكنه على الأقل أن يرسل رسالة يخبرها بأخباره، وهو يعلم تمامًا كم كانت قلقة عليه.
في تلك اللحظة، وبينما كانت كلوي تطلق زفراتٍ متتالية، وقعت عيناها على رجل يرتدي زيًّا عسكريًّا حدّقت في جسده بعناية، تبحث إن كان مصابًا، وهل أطرافه سليمة كان هذا من العادات التي اكتسبتها من الجبهة.
لحسن الحظ، لم يبدُ أن الجندي مصاب إصابة بالغةرومع ذلك، كان يجلس على الرصيف في شارع مزدحم ودموعه تنهمر في صمت شعرت كلوي بألمٍ حاد في صدرها حين رأته.
«ما الذي مررت به في الجبهة؟ في الحقيقة، لا حاجة لأن تخبرني، فأنا أعلم.»
عادة ما يكون سبب بكاء الجنود المفاجئ وهم في حالة ذهول أمرًا من اثنين: إما أنهم شعروا بخوفٍ شديد، أو فقدوا شخصًا عزيزًا.
تردّدت كلوي قليلًا ثم اقتربت منه، وجلست على مقربة منه بهدوء ثم أخرجت شيئًا من جيبها وناولته إيّاه كانت حلوى عسكرية لا تخطئها عين من عاد من الجبهة.
“هل ترغب في تناول هذه؟ حبيبي كسبها في مباراة مصارعة الأذرع في وحدته.”
ابتسم الجندي رغم وجهه المبلّل بالدموع، لا يُدرى إن كان وجد الأمر مضحكًا أم عبثيًّا.
“يبدو أن حبيبك قوي البنية، أليس كذلك؟”
“أظن ذلك يقول إنه واثق أنه لن يدعني أجوع أبدًا لكنني أظن أنه لا يعرفني جيدًا بعد فأنا أكره أن أكون الطرف الذي يتلقى فقط في العلاقة، حتى ولو كنا حبيبين.”
“إن بالغتِ في ذلك، فسيشعر حبيبك بالضيق.”
“حقًا؟”
“قد يبدو الأمر وكأنك تضعين حدودًا.”
لا عجب إذا، أنه لم يتواصل معها مؤخرًا أومأت كلوي برأسها وقالت:
“سأضع كلماتك في الحسبان.”
أخذ الجندي الحلوى من يد كلوي وهو يبتسم وقال:
“شكرًا سأستمتع بها.”
وبعد أن أنهت ما أرادت فعله، نفضت كلوي الغبار عن ثوبها ونهضت من مكانها.ج فكرت أن تواصل طريقها، لكنها عادت لتفتح فمها من جديد:
“لا بد أنك عانيت كثيرًا أحسنت صنيعًا وشكرًا لك… حقًّا.”
لقد كانت قد توجهت إلى ساحة الحرب محاولة نسيان جراحها، إلا أن ذكريات الجبهة تركت فيها ندوبًا جديدة لكنها رغم الجحيم الذي عاشته هناك، تعلّمت شيئًا مهمًا: إن كان هناك شخص يحتاج إليك، فلا تتردد في مشاركته الماء ولن تبخل بقطعة من فطيرتك.
ابتسم الجندي بوجهٍ منير، ولوّح كلٌّ منهما للآخر دون أن يعرف اسم الآخر.
تجولت كلوي بعد ذلك في الشوارع لنصف ساعة أخرى وكانت الشمس توشك على المغيب، لكنها غيّرت رأيها عن العودة إلى مرسمها هذه المرة، توجهت قدماها إلى قصر ماركيز ويلنغتون فلقد اشتدّ شوقها لآلفين بعدما رأت ذلك الجندي.
فوجئ مركيز ويلنغتون بزيارتها.
“ما الذي جاء بكِ إلى هذا الجد العجوز؟”
“…وكأنني لا أزورك أبدًا.”
ضحك الماركيز بصوتٍ عالٍ، ثم قال إن الإنسان حين يتقدم به العمر، يصبح أكثر ترحيبًا بالزوار لشعوره بالوحدة.
لكن كلوي لم تكن تعتقد أن الماركيز من ذلك النوع من الناس فمع أنه بلغ سنّ التقاعد، إلا أنه لا يزال يعيش حياة أكثر نشاطًا من الشباب.
غير أنها ظلت صامتة تحك خدها، فهي لم تأتِ بدافع مواساة شيخٍ وحيد بعد تردد، قررت أن تدخل في الموضوع مباشرة.
“سيدي الماركيز، لدي طلب واحد فقط.”
هز المركيز رأسه وهو يصدر صوتًا يدل على أنه توقع ذلك منها.
“أرجو أن تحددوا لي موعدًا لعرض مسرحي في فيتسمارك.”
“…يبدو أنكِ بدأتِ ترغبين في العمل مجددًا لكن لماذا تذهبين إلى فيتسمارك وتتركين إيدلين؟”
“لأن هناك شخصًا يجب أن يرى عرضي على المسرح.”
فقد وعدت آلفين يومًا أن تريه مسرحها، لذا وجب عليها أن تفي بوعدها.
صمت المركيز لفترة، وبدأ القلق يساور كلوي فكرت للحظة أن تتفاخر وتقول إنها ستردّ له أمواله أضعافًا، لكنها تراجعت.
“كلوي.”
“نعم.”
“حين طلبتِ مني أول مرة أن أرسلكِ إلى الجبهة، لم أكن راغبًا في ذلك.”
وقد حاول بالفعل ثنيها، لكنها أصرّت وتوسلت إليه فلم يكن أمامها طريق آخر لتصل إلى الجبهة، وهي لا جندية ولا طبيبة، سوى عبره.
“أتدرين لماذا وافقتُ في النهاية؟”
“…لا أعلم.”
“لأنني شعرتُ أنكِ لو بقيتِ هنا، فسوف تموتين كانت عيناكِ تنطق بذلك بالفعل.”
“…”
“حين يكون قلبك ساحة معركة، فهل سينفع أن يُحتجز جسدك في مكان آمن؟ لن يكون لذلك معنى.”
خفضت كلوي عينيها، شاعرةً بأن نواياها قد كُشفت ابتسم الماركيز ابتسامة دافئة وقال:
“يبدو أنكِ أصبحتِ أفضل حالًا الآن. كم من الوقت تحتاجين؟”
فوجئت كلوي بالسؤال كان سؤالًا يخشاه كل كاتب مسرحي: متى ستسلّم النص؟
لقد حان الموعد المخيف، فكرت، ثم قالت بعد تردد:
“ثلاثة أشهر، لا، شهران يكفيان.”
كان ذلك بمثابة تحدٍّ كبير لكلوي، فهي ليست من أولئك الكُتّاب الذين ينهون أعمالهم دفعة واحدة وقد علم الماركيز ذلك، فسأل:
“هل يطاردك أحد؟ إن كنتِ تنوين تقديم عمل هزيل آخر كما فعلتِ سابقًا وتُحرجينني، فالأفضل ألا تبدئي أصلًا.”
آه، يا له من قاسٍ، قاسٍ للغاية شعرت كلوي بغصّة في حلقها.
“حسنًا، سيدي صحيح أن عملي الأخير فشل، لكنه لم يكن بهذا السوء… لا، كان سيئًا فعلًا أعترف بذلك لكن الألم مضاعف حين يُذكّرك أحد بما تعرفه مسبقًا.”
هل كان من الضروري أن تطعنني بهذه الطريقة؟
ضحك الماركيز بصوتٍ عالٍ على كلامها، وقال:
“كلوي، لا يجوز أن تعترفي بالأمر بهذه السهولة الفنان بحاجة إلى بعض الكبرياء.”
“ما الفائدة من الكبرياء أمامك يا سيدي؟ لن يُغير شيئًا صحيح أنني ما زلت مبتدئة، أليس كذلك؟”
“بلا، ولكن لا تظني أنكِ ستظلين مبتدئة للأبد.”
رغم قسوة كلامه، لم يكن في وسع كلوي الاعتراض، فهي لم تعرض عملًا ناجحًا منذ زمن، ولا صعدت بمسرحيتها إلى مستوى يُذكر فلم يكن لها سوى أن تطلب منه أن يثق بها هذه المرة.
عضّت على شفتها، ثم قالت:
“لم تتوقعوا حين طرقتُ باب القصر أن أبقى إلى اليوم، أليس كذلك؟ ولم تكن لديكم أي آمال كبيرة فيّ.”
“صحيح.”
“في الحقيقة، لقد ساعدتم فتاة مسكينة لا أكثر.”
“…”
“إذن، أرجوكم، اعتبروني تلك الفتاة المسكينة مجددًا، وامنحوني ثقتكم مرة واحدة فقط سأردّ الجميل فالاستثمار في البشر دائمًا ما يستغرق أطول فترة ليُؤتي ثماره، أليس كذلك؟”
حدّق المركيز فيها مطوّلًا، ثم ابتسم بخفة هو لم يكن من الذين يدعمون الفنانين شفقةً، بل أحب الحماسة المكنونة خلف وجوههم المتعبة في تلك الطفلة التي كانت تأتيه يوميًّا حاملة نصًّا جديدًا، رأى الكبرياء لا الذل.
“سأمنحكِ نصف عام ابذلي جهدك وسأحدد لك المسرح حيث تشائين.”
“سأحضره خلال ثلاثة أشهر.”
أصرت كلوي على الموعد القصير حتى النهاية فما إن تتضح فكرتها، فإن نقلها إلى الورق ليس إلا عملاً يدويًا وهي الآن أكثر صفاءً من أي وقت مضى.
ضحك الماركيز ضحكة عريضة، وحينها اقترب كبير الخدم وهمس له وهو يلقي نظرة خاطفة نحو كلوي فظنت أنه يطلب منها الانصراف، فقالت:
“هل أُغادر قليلاً؟”
لكن كبير الخدم هزّ رأسه نافيًا.
“لقد جاء رسول من دوقية فلير في فيتسمارك، يسأل إن كان يمكنه لقاء الكاتبة كلوي.”
نظر الماركيز إلى كلوي بدهشة فقد كان من المعتاد أن يطرق باب القصر من يرغبون في مقابلتها، نظرًا لحياتها المنعزلة أحيانًا وكان هو يطرد غير المرغوب فيهم، ويستقبل من يستحق بل أحيانًا كان يوفر لهم مكانًا للانتظار داخل القصر، إذ كان يعلم أنها تعيش في منطقة غير آمنة.
ما أثار الاستغراب هذه المرة هو جنسية الزائر فقد كان لاسم فلير وقع ثقيل، والجميع يعرف قصة الدوق فلير، ساحر النار الشهير منذ قرن.
لكن كلوي ما إن سمعت اسم فلير حتى هبّت واقفة فلير هي عائلة آلفين من جهة والدته قد يكون هذا الشخص قد جاء بأخباره.
“أين هو الآن؟ أريد مقابلته.”
“هل أنتِ بخير؟ هل أسبقكِ وألتقيه أنا أولاً؟”
رغم أن الحرب قد انتهت، إلا أنه لم يكن من المعتاد أن يطلب أحد نبلاء فيتسمارك لقاء كاتبة أجنبية.
همّ المركيز أن يسبقها، لكنها هزّت رأسها وأسرعت بخطاها، وهو يرافقها.
وما إن وقعت عينا الماركيز على الزائر حتى أيقن بحسّه الخبير:
ليس مبعوثًا من الدوقية، بل هو نفسه أحد النبلاء.
رغم مظهره البسيط، إلا أن وقاره الأرستقراطي لا يمكن إخفاؤه وكان يفيض ثقة وهدوءًا.
وما إن وقعت عيناه على كلوي، حتى ابتسم ابتسامة هادئة ومن تلك اللحظة، بدأت عيناها بالاهتزاز بلا وعي.
كان آلفين واقفًا أمامها.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 59"