جلست كلوي أمام الحديقة الصغيرة بوجه كئيب كانت الحديقة، الواقعة في مكان ناءٍ، أشبه بحديقتها الخاصة.
لكن بدا أنه لم يكن هناك داعٍ لأن تأتي إلى هذا المكان فلم يكن هناك أحد في القاعدة يرغب في الاقتراب منها الآن حتى ماثيو وآنا، اللذان اقتربا منها بقصد مواساتها، ما إن رأيا وجهها حتى استدارا عائدين الجميع كان بوسعه تخمين حالتها النفسية بعد أن انتُزع منها حبيبها، لا على يد العدو، بل على يد الحلفاء.
يا ترى كم من الوقت ظلت جالسة شاردة على هذا الحال؟ وكأن السماء كانت تشاركها حزنها، إذ بدأت قطرات المطر تهطل من جديد.
كانت كلوي تتلقى المطر بصمت، تحدق في أوراق العشب بعينين غارقتين في الحزن لم يكن المطر من صنعها على أية حال، ولم تكن قد استخدمت سحرًا فيه، لذا لن تسقط مريضة بسببه.
غير أن فكرة ما خطرت فجأة في ذهن كلوي رفعت رأسها ونظرت إلى السماء الملبدة بالغيوم وقد اعترتها الدهشة.
“…”
لم تكن تدري ما الذي يدور بالضبط في ذهن آلفين كل ما تستطيع تخمينه أنه يحاول أن يفعل شيئًا لكن هناك أمرًا واحدًا كانت متيقنة منه: قوته هي النار وإذا ما هطل المطر الآن… فماذا عساه أن يفعل؟
كانت تقلّب الأمر بقلق، حتى تذكّرت الرسالة التي بعثت بها إلى الماركيز قبل يومين فقط كانت قد سألته: لو كنت ساحرًا، كيف كنت ستستخدم قوتك؟
كانت تدرك أن الماكيز، مهما بلغت مكانته، لن يكون قادرًا على منحها إجابة واضحة.
ما الذي يجعل القوة حقًا مخيفة؟
ذلك السؤال كان يشبه إلى حد بعيد الرعب الأساسي الذي تشعر به كلوي تجاه المسرح بالنسبة إليها، القلم كان قوة رغم بساطته، وقوة كهذه قد تُنقذ إنسانًا أو تقتله أحيانًا.
أما أكثر ما يخيف، فهو حين لا يكون بمقدورك التنبؤ بنتيجة تلك القوة ومع ذلك، فإن عليك أن تتخذ القرار بنفسك.
أغمضت كلوي عينيها بإحكام، واستغرقت في التفكير.
يا ترى كم مرّ من الوقت؟
ضمّت يديها ونظرت إلى السماء بعينين صافيتين.
“إيديلينا أعلم أن ما سأقوله الآن قد يبدو وقحًا، ولكن… سأقوله رغم ذلك.”
أنت تعرفين مهنتي، أليس كذلك؟
الكتّاب لا يضعون أفكارًا عظيمة أمام الورقة، نحن لا نفكر بتلك الطريقة.
الأمر لا يتعدى خيارًا بسيطًا: إما أن نكتم ما بداخلنا أو أن نكتبه.
لكن هناك خيارًا أبسط من ذلك أيضًا.
أن نعرف متى نتوقف، ومتى نتمسك بما نؤمن به.
رغم تناقضهما، فإن سبب كلا القرارين واحد تمامًا.
أنا شخصيًا، إذا شعرت أن أفكاري قد تؤذي أحدهم، فأنا أضع قلمي جانبًا.
فلماذا أتمسك به إذا كان سيتسبب في أذى للآخرين؟
لكن، إن شعرتُ أن هناك من يحتاج حقًا لما سأقوله… فعندها، لا أتردد إطلاقًا.
نعم، قد لا تكون النتيجة كما أتمناها.
لكن تحمّل تلك النتيجة يقع على عاتقي وحدي.
ولهذا السبب، سأقول ما لدي هذه المرة.
“إيديلينا أريد أن أُوقف هذا المطر.”
إنه يشبه إلى حد كبير ذلك اليوم الذي وضع فيه أهل القاعدة أسلحتهم جانبًا لحماية آنا.
بالطبع، قد يقول البعض إن هذا تصرف أحمق.
وأنا أتفق معهم، فقد قلتها مرارًا: العالم ليس حكاية خرافية.
يومها، حتى حين ألقوا بأسلحتهم، ظل أهل القاعدة يشعرون بالخوف من احتمال تعرضهم للهجوم.
ولا أنكر أنني شعرت بنفس الشيء.
لكنني الآن… لست خائفة.
لأنني لا أؤمن بعالمٍ كالقصص الخيالية، بل أؤمن بآلفين.
ولا أخاف من سلاحه على الإطلاق.
إيديلينا، أنت كنتِ تعرفين منذ البداية.
هو كان يملك القدرة على إحراق هذه القاعدة عن بكرة أبيها.
نيرانه ربما كانت لتتجه نحو عاصمة إيديلين وأصدقائي الذين يعيشون هناك.
لو استغل تلك القوة، لكان حتمًا سيحصل على موطئ قدم أقوى في بيتسيمارك.
لكنه… لم يفعل.
وأنا أرى بوضوح السبب وراء ذلك.
بالنسبة إليه، هذه القوة لم تكن يومًا حقًا مكتسبًا، بل كانت مسؤولية.
لذا، ظل يفكر ويصارع ذاته بشأن كيفية استخدامها.
وأنا، حين أرى أشخاصًا كهؤلاء، لا أستطيع سوى أن أضع ثقتي فيهم.
فمن يخوض صراعًا داخليًا حقيقيًا، لا يستخدم قوته بتهور.
من يعرف المعنى الحقيقي لقوته، هو من سيختار الطريق الصواب.
ولذلك، أنا لن أدافع أبدًا أمام من لا يهاجم.
إيديلينا.
“رجاءً… ثقي بآلفين ولو لمرة واحدة فقط ومن أجل الناس… أوقفي هذا المطر ولو لوهلة.”
عندها، بدأت طاقة السحر داخل كلوي تتصاعد كموج عاتٍ.
وجهها بدأ يفقد لونه شيئًا فشيئًا، لكن… يبدو أن صلاتها قد وصلت.
إيديلينا استجابت.
الناس الذين كانوا يتجولون داخل القاعدة توقفوا في أماكنهم، وقد ذُهلوا مما رأوه.
المطر بدأ يرتفع إلى الأعلى، متحديًا قوانين الجاذبية.
ولم يكن هذا فقط، بل إن الأرض الرطبة بدأت تستعيد لونها الأصلي.
القطرات الشفافة التي ارتفعت نحو السماء كانت تشكّل مشهدًا ساحرًا، كأنها صورة من كتاب مقدس.
كلوي، التي أنزلت يديها أخيرًا، ابتسمت ابتسامة باهتة بشفاه باهتة.
***
الخط الدفاعي الأخير لإيديلين.
المسافة بين جيش ولي العهد وأفراد الوحدة الخاصة كانت شاسعة.
الجنود اصطفوا بصمت، وآلفين جلس على حافة الجرف وسط المطر المنهمر.
وضع الجنود عقربًا في فم أحد جنود إيديلين المقيّد، وأرسلوه إلى معسكر العدو.
وصل العقرب مباشرة إلى ولي العهد، وكان محتوى الرسالة شديد الإيجاز:
اخرج إلى طاولة المفاوضات من أجل اتفاق سلام بدون شروط أنت وحدك.
وكانت الجملة الأخيرة أكثر إيجازًا:
( نقطة )
رغم معرفتهم بطباع القائد، تنهد الجنود في سرّهم.
الرسالة مقتضبة للغاية.
ألن يدفع ذلك الطرف الآخر للتفكير أكثر؟ لكن آلفين لم يكن كاتبا مثل كلوي.
لم يكن من طبعه الشرح المطوّل.
الجندي يكتفي بذكر النقاط الرئيسية، والباقي يُظهره بالأفعال.
بينما كان يتكئ على ذقنه ويتأمل الجبهة، رأى أن الوقت الذي منحهم إياه للتفكير كان كافيًا.
وقف فجأة، وفي تلك اللحظة، شقّ وميض البرق السماء الملبدة.
نزل اللهب إلى الأرض في لحظة، وتبعته دويّة انفجار هائلة، تناثر معها الغبار من الأرض المبتلّة.
توسّعت عيون الجنود وهم يتابعون المشهد بدهشة، غير قادرين حتى على التنفس.
“إنه ساحر بحق.”
النيران، التي كانت كفيلة بتدمير قصر كامل، اشتعلت لوقت طويل قبل أن تخمد تحت وابل المطر.
ورغم ذلك، تركت أثرًا أسود قاتمًا على الأرض.
عاد آلفين ليتكئ على ذقنه بوجه خالٍ من التعابير، فيما راح الجنود يحدّقون في الطرف الآخر.
ورغم بعد المسافة، بحيث تعذر رؤية تعابير وجوه العدو، إلا أن التوتر كان واضحًا.
غير أن هذه لم تكن سوى تجربة أولى.
آلفين، الذي أعطاهم وقتًا إضافيًا للتفكير، لم يرَ أي ردّ فعل، فتمتم:
“لا يفهم الكلام، على ما يبدو.”
كانت الرسالة التي بعث بها آلفين في الحقيقة تهديدًا:
إن لم تستجب، فستموت، أنت وجنودك، هنا.
بقيت لهم فرصتان.
رفع آلفين سحره من جديد.
هذه المرة، ظهر الوميض أقرب إلى معسكر إيديلين.
وكان دويّ الانفجار أشدّ.
غطى الدخان والغبار الرؤية تمامًا، وأمام هذا المشهد المدمر، خفض الجنود رؤوسهم.
ثم رفعوها نحو قائدهم، وأعادوها إلى الأرض، تكرارًا.
القوة المستعارة من الإله كانت ساحقة.
لكن المطر اشتد أكثر فأكثر، حتى بدأ الدخان بالانقشاع.
وبدأ الجنود يرون جنود العدو يهربون، غير قادرين على مقاومة الخوف.
ومع ذلك، لم يتقدم أحد.
آلفين ابتسم بسخرية:
“هذه الأخيرة حقًا لن تخرج؟”
إذا ما استُنفدت الفرص الثلاث، فماذا سيفعل؟ هل عليه أن يُحرق العدو بأكمله؟ وماذا بعد ذلك؟ إلى أين يجب أن يتجه هذا اللهب في النهاية؟
آلفين لم يكن يعرف الجواب بعد وفي تلك اللحظة…
توقف آلفين وجنوده عن الحركة، ورفعوا رؤوسهم إلى السماء.
حتى جنود إيديلين، الذين كانوا يفرّون في ذعر، فعلوا المثل.
المطر المتساقط بدأ فجأة يخالف قوانين الطبيعة ويتجه إلى الأعلى لكن لم يكن هذا فقط، بل إن سحر كلوي كان يسحب حتى قطرات المطر التي لامست الأرض.
الأرض الطينية الجافة بدأت تعود إلى طبيعتها.
تنهد آلفين، ونادى باسم صاحبة هذه القوة:
“آه، كلوي…”
لكن الصمت المخيف ساد في الأرجاء فهذا المشهد العجيب بثّ في قلوب جنود إيديلين رعبًا جديدًا ظنوا أن إيديلينا تخلّت عنهم.
كيف يُشعل العدو النار، وتُسحب عنهم الحماية؟
وحده آلفين كان يعرف الحقيقة.
تأمّل السماء بصمت، ثم قال مخاطبًا الإله:
“بيتشاريكي هل ترى؟ ابنة إيديلينا تستخدم الآن قوتها.”
ولم تكن تسعى بهذه القوة إلى هجوم أو دفاع كانت تبتغي المصالحة.
رفع آلفين يده إلى وجهه مرارًا، وقد اجتاحته مشاعر متأججة كان لا يزال يجهل الكثير عن كلوي لطالما أراد أن يعرف المزيد.
منذ أول لقاء بينهما وحتى الآن في أيامٍ، كان يتمنى لو يسرق عينيها وأذنيها ما الذي تراه وتسمعه لتفكر بهذه الطريقة؟
وفي أيامٍ أخرى، كان يرغب في رؤية مسرحها، وسماع أغنيتها… مرارًا وتكرارًا لكن الأمر العجيب…
أنه منذ وقت ما، صار يكفيه أن تبتسم بهدوء حتى يشعر أن أغنيتها تهمس في أذنه وتزداد وضوحًا في لحظاتٍ كهذه تمامًا.
“كلوي حين أراك مجددًا، أريد أن أخبرك بهذا حياتك أيضًا هي مسرحك.”
كانت كلوي، في أحد الأيام، قد توسلت إليه من أعماق قلبها، وسألته:
لماذا علينا أن نستمر في هذه الحرب؟
ألا يمكننا التوقف؟
فماذا عسى أن يفعل إن كان من يحبّ يطلب منه ذلك بصدق؟
لا بد أن يقدّم لها عالمًا بعد انتهاء الحرب.
تطلع آلفين مجددًا نحو معسكر إيديلين بعينين ثاقبتين.
لا أحد يعرف حقًا ما هو تعليم الرب.
ولا يمكن الوثوق باللعنات، ولا تحذيرات سحرة لانشي.
ما يثق به… هو كلوي، فقط.
توجّه إلى الربّ مبتهلًا، طالبًا:
يا بيتشاريكي فتاتي تحب هؤلاء الناس بصدق أناس من إيديلين وبيتسيمارك بكت وحدها، في الخفاء، لأجل عدوّ لم يمنحها شيئًا فاستمع إلى صوتها اسمع أغنيتها، فقط لمرة واحدة من أجل بيتسيمارك وإيديلين، الذين أحبتهم بكل ما تملك…
“بيتشاريكي… أسقط النار على هذه الأرض.”
شعر آلفين بقوة سحرية تجتاحه لم يشعر بمثلها من قبل.
وكان الوميض كافيًا ليعمي العيون للحظة.
اهتزت الأرض مع دويّ الانفجار، وكان الجنود متأكدين:
ذلك الصوت، لا بد أن يُسمع حتى في عاصمتي إيديلين وبيتسيمارك.
وتلك النيران المشتعلة، لا بد أنها تُرى من هناك أيضًا الأرض اليابسة لم تُطفئ اللهب، بل أبقته مشتعلًا طويلًا.
ولو سقطت تلك النار على معسكر إيديلين، لما نجا أحد بلع الجنود ريقهم بصعوبة، وآلفين ظل يتابع المشهد بهدوء.
وحين خمدت النيران أخيرًا، خرج ثلاثة أشخاص من قلب معسكر العدو.
نظر آلفين إلى جنوده، الذين كانوا يحدقون بتركيز، ثم أومأوا له “الشخص في المنتصف هو ولي عهد إيديلين.”
سار ولي العهد ومرافقاه بوجوه جامدة فوق الأرض المحترقة.
وتقدّم آلفين من الطرف الآخر للقائهم في منتصف الوادي.
وحين التقيا وجها لوجه، قال آلفين:
“أحييك على شجاعتك.”
“…”
تلاقى الرجلان وسط ساحة المعركة للحظة، ثم سلك كلّ منهما طريق الآخر.
ولي العهد بات رمزًا للسلام عند بيتسيمارك، والأمير الثالث عند إيديلين يا ترى، هل تعرف كلوي بما جرى؟
بدأ المطر، الذي كانت قد حبسته، يتساقط من جديد، قطرة فقطرة توقف آلفين عن السير، ومد كفه كان يشعر وكأن كلوي تهطل عليه من السماء عاد إلى السير مجددًا، وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامة مطمئنة.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 57"