لم يكن هناك نافذة واحدة في العربة العسكرية كان آلفين يجلس داخلها، متكئًا بذقنه على يده، غارقًا في صمت وتفكير لم يقم جنود إديلين بتقييده على نحو خاص، إذ لم يكن من الممكن معاملته كغيره من أسرى الحرب بسبب مكانته كأحد أفراد العائلة المالكة.
لكنّها كانت مهمة جسيمة، وكان التوتر بادياً على وجوه الجنود كالعادة، كان آلفين هو الوحيد الذي بدا هادئًا وسط المجموعة غير أنّه، في لحظة ما، رفع حاجبًا واحدًا وأصبح أكثر تيقظًا فقد كانت طلقات الرصاص التي بدأت خارج العربة تزداد عنفًا شيئًا فشيئًا.
بدأ آلفين يقدّر اللحظة المناسبة للخروج وفي تلك الأثناء، فتح جندي من إديلين، تعرّض لهجوم، باب العربة بعنف.
لكن الجندي بدا عليه التردد، وكأنه لا يعرف ما عليه فعله كان عليه الهروب بالأَسير، لكنه لم يجد وسيلة مناسبة لذلك لم يكن بإمكانه التسبب في إصابة رهينة بهذه الأهمية، وفي الوقت ذاته لم تكن الظروف تسمح بالسيطرة عليه بهدوء.
نقر آلفين لسانه محذّرًا:
“لا تفعل شيئًا ستُصاب بأذى.”
كانت نصيحة خالصة للجندي، لكن بدا أنّ الجندي استفزّ من كلماته فقد عضّ على أسنانه محاولًا إنزال آلفين من العربة بالقوة وكان آلفين على وشك أن يشعل بينهما شرارة عندما باغت أحدهم الجندي، ضاربًا رأسه مؤخرة البندقية كان ذلك هو دوكرين، الذي كان مختبئًا بالقرب من القاعدة.
“يا صاحب السمو، لماذا استغرقت كل هذا الوقت؟ ظننت أن مكروهًا قد أصابك.”
“لحسن الحظ، منحوني وقتًا كافيًا لتجفيف دموع حبيبتي.”
لكن آلفين فكّر في نفسه أنّ بكاءها بهذا القدر كان بسببه هو تحديدًا.
الذي سرّب هوية آلفين في القاعدة كان فابيان، مما يعني أنّ كل ذلك كان ضمن خطة وُضعت مسبقًا مع أعضاء الفرقة أثناء توجههم إلى القاعدة.
لكن، هل كان فابيان أكثر كفاءة مما توقعه آلفين؟ أم أن ألسنة الناس كانت خفيفة كريش الطير؟ أم أنّ كون آلفين من العائلة المالكة كان صدمة كافية؟ وربما كان السبب مزيجًا من كل ذلك فقد انتشر الخبر في القاعدة خلال ساعات قليلة فقط.
لو أنّ كلوي عادت قبل يوم واحد فقط، لكان بإمكان آلفين أن يوضح لها الأمر بمزيد من التفاصيل بالطبع، لم يكن ليخبرها بكل شيء فقد كانت ستتظاهر ظاهريًا بالغضب والصرامة، بينما تهلع داخليًا كانت حبيبته من النوع الذي، إن ظنت أنه لم يعد حبيبها، لن تتردد حتى في التمرد على الأوامر.
ومع ذلك، أطلق آلفين زفرات متكررة كان ما يؤرقه هو أنه جعلها تبكي كثيرًا لو أنّ الوقت كان في صفه أكثر قليلاً، لكان قادرًا على طمأنتها بطريقة أفضل من هذه.
في تلك الأثناء، كانت الفرقة قد حيّدت جميع جنود إديلين نزل آلفين من العربة ونظر إلى رجاله متسائلًا:
“هل لدينا إصابات؟”
“لا إصابات خطيرة، سيدي.”
كان هناك بعض الجنود المصابين بأعيرة نارية، لكن لم تكن هناك إصابات مهددة للحياة.
ثم وجّه آلفين نظره إلى جنود إديلين الذين تم تقييدهم الوضع من جهتهم لم يكن جيدًا.
بدا أنهم أرسلوا مجموعة من الجنود عديمي الكفاءة كما أنّ عدد الجنود المرافقين كان، في نظر آلفين، قليلًا ربما كان السبب هو شعور جيش إديلين بالطمأنينة لكونهم داخل أراضيهم لكن آلفين ابتسم ساخرًا وهو يفكر: هل هذه هي قيمة حياته لديهم فحسب؟
بعدها، وبناءً على أوامره، فصل الجنود أسرى إديلين إلى مجموعات كان آلفين ينوي استجوابهم، والعزل هو الوسيلة الأبسط لضمان صدق الشهادات.
فعندما يلتزم أحدهم الصمت، يصمت الآخرون أما القلق من إفشاء رفيقهم شيئًا ما، فهو كفيل بأن يشكل ضغطًا نفسيًا شديدًا عليهم.
تقدم آلفين بخطوات واثقة، وأمسك بياقة أحد الجنود رافعًا إياه بيد واحدة حاول بعض الجنود المساعدين الإمساك بذراعي الأسير بدلًا من قائدهم، لكنه أشار إليهم بأن يتوقفوا.
“إلى أين كنتم تتوجهون؟ إلى الجبهة الثالثة؟”
“…….”
“أجب لا أريد سفك دماء عبثًا السبيل الوحيد لنجاتك هو أن تتكلم.”
“…….”
“الأمر ليس بسرّ عظيم، أليس كذلك؟”
وحين واصل الجندي عضّ شفتيه بصمت، لم يُطل آلفين الحديث رمى به أرضًا، ثم مد يده نحو رجاله أعطاه أحدهم بندقية، فوجهها نحو الجندي ثم توقف برهة يتفحصها فقد راوده فضول حول طرازها وبلد صنعها.
“دوكرين، هذه البندقية تبدو قديمة جدًا أظنها لا تطلق الرصاص أصلًا.”
“لقد جربتها، سيدي مداها قصير، لكنها تعمل بشكل جيد.”
“حقًا؟”
“نعم وإن لم تعجبك، أجهز لك واحدة أخرى.”
“لا داعي. لا داعي لكل هذا التكلّف.”
أثار حديثهما، الذي بدا باردًا بل ومستهترًا، المزيد من الرعب في نفوس الجنود فقد شعروا تمامًا بأن أمير الدولة العدوة لا يعاملهم إلا كذباب يمكن سحقه.
لكنّ هذه الطريقة كانت أسلوبًا مألوفًا في الاستجواب بين آلفين ودوكرين رفع آلفين كتفيه كما لو أنه يقول: هذا آخر وقت للتفكير ثم رفع البندقية مجددًا وتحوّلت نظرته الهادئة إلى حادة في تلك اللحظة، صرخ أحد الجنود فجأة:
“كنا نذهب إلى العاصمة! و-وقبل ذلك…”
“…….”
“كنا سنلتحق بالكتيبة الأولى من الفرقة الخامسة…!”
أنزل آلفين فوهة البندقية ببطء، ومرر يده على ذقنه متفكرًا سأل بصوت خالٍ من الانفعال:
“ولماذا؟”
“عفوًا؟”
“لماذا تذهبون إلى هناك؟”
“…….”
“هل ولي عهدكم أراد رؤيتي قبل أن يزج بي في السجن؟”
ارتعد الجنود واصفرّت وجوههم كانت تلك ردة فعل كافية للإجابة عن سؤاله جاء أحد الجنود ممن كانوا يستجوبون الآخرين، وهمس في أذن القائد:
“يا صاحب السمو، نفس الإجابة الكتيبة الأولى.”
“همم.”
لم يمض وقت طويل حتى حصل الجنود الذين كانوا يستجوبون باقي الأسرى على نفس الإجابة حينها سأل آلفين رجاله:
“هل سبق لأحدكم التسلل إلى قصر إديلين الملكي؟ أحتاج إلى جندي يعرف ملامح ولي العهد.”
كان آلفين قد رأى وجه ولي العهد من قبل، لكن منذ زمن بعيد وكلما زاد عدد الشهود الذين يعرفون وجهه، كان أفضل وكان من الممكن حتى الاستعانة ببعض أسرى إديلين.
رفع بعض الجنود أيديهم ردًا على سؤال القائد، فأومأ آلفين برأسه وأمرهم:
“أنتم ستأتون معي، والباقي يبقى هنا في حالة تأهب.”
لكنّ الجنود أظهروا رفضهم في صوت واحد:
“يا صاحب السمو، خذ معك عددًا أكبر.”
“نعم، العدد الحالي فيه مخاطرة كبيرة.”
قد يكونون محقين لكن التحرك بعدد كبير في أرض العدو كان سيجعلهم مكشوفين قبل أن يصلوا لأي مكان بالإضافة إلى ذلك، كان على آلفين أن يترك أسلحته، بما في ذلك بندقيته وسيفه، مخبأة بالقرب من القاعدة تحسبًا لأي طارئ.
“في القاعدة، هناك امرأة اسمها كلوي عيناها بلون السماء وبشرتها باهتة ستعرفونها فور رؤيتها. طولها هكذا تقريبًا، شعرها أسود وطويل إلى…”
لاحظ آلفين أنه بدأ يُكثر من وصف ملامح حبيبته، فتوقف. كان ذلك بفضل دوكرين، الذي سبق له أن قابلها، وبالتالي يكفي أن يبقى هو في القاعدة. أنزل آلفين يده التي كانت تشير إلى عنقه وقال:
“قد يقتحم المحققون القاعدة. إن حاول أحدهم أخذها بالقوة، عليكم إنقاذها. فابيان سيتولى إرسال إشارة من الداخل وقتها.”
“نعم، يا صاحب السمو.”
كان آلفين قد طلب من ماثيو شيئًا مشابهًا ليلة البارحة. وكانت وصيته بسيطة جدًا:
“يبدو أنكم تكتبون تقارير دورية في القاعدة.”
“…….”
“هل يشارك أحد غيرك، وكلوي، وآنا في كتابتها؟”
هزّ ماثيو رأسه نافيًا، وكان ذلك متوقعًا من آلفين، فأكمل:
“لا تكتب شيئًا عن علاقتي بكلوي هي لم تكن تعرف من أنا فعلًا.”
“…حتى لو لم تقل، كنت سأفهم ولم أكن لأكتب شيئًا على أي حال.”
لم يكن آلفين يعتقد أنّ خطته ستفشل فالقائد الذي يُقدم على تنفيذ مهمة برفقة جنوده مع توقع الفشل ليس إلا قائدًا عاجزًا ولم يكن يتوقع أن ينتشر خبر علاقته بكلوي في القاعدة فقد كان يعلم جيدًا أن كلوي، على الأقل، صديقتهم وزميلتهم لكن أمام سلامتها، لم يكن هناك ما يُسمى احتياطًا زائدًا.
بعد أن رتّب الأمور، اختار آلفين عددًا من جنود إديلين ليأخذهم معه لقد تبدلت الأدوار فجأة، فلم يعد آلفين أسيرًا، بل أصبح جنود إديلين هم الأسرى لكنّ وجهتهم بقيت كما هي سيصبحون أدلّاء ورسلًا.
“دلّوني على الطريق إلى ولي العهد.”
وقبل أن يغادر القائد مكانه، استوقفه دوكرين مشيرًا بيده نحو رقبته، ونظر إلى جنود إديلين وكأنه يسأل: هل نقتل من تبقّى منهم؟
هزّ آلفين رأسه نافيًا، وكأنه يقول إنّ ذلك تصرف لا جدوى منه.
“اتركهم كلٌّ منهم أنجز مهمته لا أكثر وإن كان مزاجك جيدًا، فامنحهم علاجًا.”
كان دوكرين من الجنود القدامى، وكان يفهم قائده جيدًا فعلى الرغم من أن كلماته بدت كمزحة، إلا أنها كانت أمرًا حقيقيًا بتقديم العلاج ومع ذلك، تنهد آلفين بعمق وقال وكأنه يحدث نفسه:
“حقًا، بعد هذه المهمة، لا بد أن أعتزل.”
“…عفوًا؟”
لم يفهم دوكرين ما قصده، فسأله مجددًا، لكن آلفين لوّح بيده وكأنه يقول إنّ الأمر لا يستحق الشرح.
“راقب الوضع جيدًا، وإذا فشلت الأمور، تفاوض معهم لتبادل الجنود المحتجزين بمن لدينا هذا سيكون أسهل لو تحدثت إلى رجل اسمه ماثيو.”
“أعرفه، سيدي.”
ربت آلفين على كتف دوكرين مرتين كما لو أنه يقول له: بالتوفيق، ثم بدأ بالتحرك لحق به الجنود الذين قيّدوا أسرى إديلين أما دوكرين، فقد بقي يراقبهم بصمت حتى استدرك نفسه ودفع بعض الجنود ليلحقوا بهم.
وامتدت ظلالهم طويلاً على الأرض بينما كانوا يغادرون المكان لم يلتفت آلفين إلى الوراء ولو للحظة أما من بقي، فقد أدوا جميعًا التحية العسكرية لقائدهم.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 56"