تحرّك الجيش الإيديليني بسرعة لم يكن ثمة أحد يمكنه الاستخفاف بالتقرير الذي أفاد بوجود شخص يُشتبه بانتمائه للعائلة المالكة فيتسمارك داخل القاعدة لقد أعلنوا أنهم سيقتادون آلفين للتحقيق.
كانت كلوي تتجول في القاعدة بوجهٍ شاحب، وكأنها ستسقط أرضًا في أية لحظة كانت قد سهرت الليل بأكمله، لكنها لم تستطع دسّ أي من نبات الصخور أو المُهدّئات في طعام الحرس لم يكن ذلك لأن الخطة غير قابلة للتنفيذ منذ البداية، أو لأنها قبلت برجاء آلفين، بل لأن آنا كانت إلى جانبها طوال الليل كان ذلك من باب القلق عليها، لكنه في معنى آخر كان أيضًا مراقبة.
“آنا، سأذهب لرؤية آلفين قليلًا.”
“…كلوي.”
“تظاهري ولو مرة واحدة بأنك لا تعرفين أرجوكِ.”
“تحدثي إليه بعد شروق الشمس سيكون هناك وقت لتوديعه.”
“آنا، آلفين… هو حبيبي.”
“…هاه، كيف يمكن أن يحدث أمر كهذا.”
ولكن حتى لو تظاهرت آنا بعدم رؤيتها لها، لما كانت كلوي ستتمكن من فعل شيء إذ كان الحرس وجنود التفتيش يحيطون بغرفتها طوال الليل الجميع كان يراقبها بوجهٍ يكسوه القلق.
وعند بزوغ الفجر، اقتحم الجنود القاعدة بصرامة شديدة ترنحت كلوي من شدّة اليأس.
خرج آلفين من زنزانته المنفردة، وما إن رآها حتى ابتسم بسخرية وجهها الشاحب المرهق كان يعبّر تمامًا عن ما مرّت به في الليلة الماضية أشار لها بيده أن تقترب.
“كلوي، لم تنامي مجددًا؟”
“…وهل هذا ما يهم الآن؟”
لكن وجه كلوي لم يكن قاسيًا كما بدا في كلامها كانت تنكس رأسها وتذرف الدموع بغزارة، وكأن غددها الدمعية قد تعطلت.
كان من المفترض ألّا تفعل هذا أمام الجنود، حتى وإن لم يكن الأمر سيئًا أمام أهل القاعدة. لكن كلوي لم تستطع كبح نفسها ولم يعد يهمها أبدًا ما قد يظنه الآخرون لم يكن لديها القوة لتتظاهر، ولم تعد تجد لذلك معنى.
أمسك آلفين بخديها بكلتا يديه ونظر إلى عينيها.
“توقفي عن البكاء إن استمررتِ هكذا ستنهارين.”
لم تستطع كلوي أن ترد، واكتفت بالتحديق إليه بصمت أما الجنود الذين لم يكن بمقدورهم الانتظار أكثر، فقد همّوا بالتفريق بينهما.
من أوقفهم كان ماثيو أما أفراد القاعدة، فكانت وجوههم معقدة المشاعر لا تزال لديهم تساؤلات لم تُحل بعد، لكن كلوي، رغم كل شيء، كانت رفيقتهم التي اجتازت معهم أهوال الحياة والموت ومشاهدتها تتعذب جعلت قلوبهم تؤلمهم.
“آلفين، انتبه على نفسك.”
“سأفعل.”
“سأتحدث إلى الماركيز سأطلب مساعدته، لذا انتظر قليلًا فقط. ثم…”
“……”
“من الآن فصاعدًا، لا بأس إن لم تأتِ لرؤيتي لا حاجة لأن تُجهد نفسك فقط… عِش في أي مكان بصحة وسلام.”
أنا آسفة لأنني كنت أنانية آسفة لأنني أظهرت ضعفي ووحدتي لأبقيك بجانبي آسفة لأنني كنت أرجو عودتك في كل ليلة تغيب فيها عني.
لطالما راود كلوي سؤالٌ عند استلامها لمتعلقات الجنود الراحلين هل من الصواب إرسالها لعائلاتهم؟ أم أن عدم إرسالها هو الأفضل؟ لا تزال غير قادرة على إنكار أن مشاعر الجميع تختلف.
لكن داخل قلب كلوي في هذه اللحظة، لم تكن ترغب بسماع خبر وفاته سواء أكان ذلك صحيحًا أم كاذبًا، لم تكن لتتحمله.
آلفين، لستَ مضطرًا للمجيء إلي.
يكفيني فقط أن أكون على يقين أنك حيّ تحت هذه السماء بهذا الأمل وحده، أستطيع الاستمرار في هذه الحياة حتى نهايتها فقط…
“لكن، إن حدث وأُصبتَ، ولم تعد قادرًا على أن تكون جنديًا… فعندها عليك أن تأتيني.”
“……”
“ابحث عن ماركيز ويلينغتون في العاصمة، وستجدني دومًا.”
انخفضت رؤوس الجميع من أهل القاعدة بخشوع لقد رأوا الكثير من الجنود المصابين والمعاقين، لذا فهموا تمامًا ما كانت تقصده كلوي.
ما أرادت قوله هو: يكفيني أن تكون حيًا وسعيدًا لكن إن تعرضت لأي محنة، فأنا أعدك أن أعتني بك بنفسي، بكل ما لدي، طوال حياتي.
فهم آلفين مغزى كلامها كما فهمه الباقون، فضحك بتنهيدة، لكن ابتسامته كانت متألمة بعض الشيء قلبه كان يغلي من شدة التأثر.
حاول أن يهدئ نفسه وهي كذلك، فاستعاد حديثًا من الماضي ما قالته كلوي ذات مرة في معبد إيديلينا.
“لماذا الآن؟ ألم تقولي أن مرافقة شخص مريض مرهقة؟”
هزّت كلوي رأسها بعنف الكلمات التي نطقتها بنفسها في الماضي كانت تؤلمها حتى اليوم فزعها من أن يقضي آلفين وقته بمفرده في عذاب، ومن احتمال ألّا يعود إليها أبدًا، جعلها تقول بلهفة:
“لا، أبدًا لا يا آلفين كانت كلمات عابرة أنت تعرفني أحيانًا أقول أشياء لا أعنيها.”
“…كلوي.”
“أنا أملك المال عندي القدرة يمكنني أن أتكفل بك طوال حياتك، أرجوك… فقط إن مرضت أو تأذيت…”
“……”
“تعال إليّ… أرجوك.”
تكلمت برجاء، ثم أطرقت رأسها كان آلفين ينظر إليها بعينين مليئتين بالتعاطف.
لقد أحببتِني كثيرًا إلى هذا الحد، ومع ذلك كنتِ تتظاهرين دائمًا بأنك بخير لا بد أنه كان أمرًا شاقًا عليك.
كنت أعلم، ومع هذا، لم أستطع أن أحتويك أكثر. آسف لأنني لم أواسي قلبك المتعب.
رفع آلفين خصلات شعرها المبعثرة وأعادها خلف أذنها.
“كلوي، شعركِ قد طال كثيرًا يبدو أنه صار يُربط الآن.”
“……”
“توقفي عن الاختباء، أريني وجهكِ الجميل.”
لكنها ظلت تخفي وجهها الباكي ابتسم آلفين ابتسامة هادئة وهو ينظر إليها تتصرف كطفلة، ثم همس في أذنها:
“كلوي، ألا نلعب حجر-ورق-مقص؟”
“……”
“الخاسر يخبر سرًّا.”
“…ماذا؟”
كان صوته رقيقًا كما لو كان يهدئ طفلًا، لكن اقتراحه بدا غير مناسب للوضع استغربت كلوي، ورفعت رأسها ناسية أنها كانت تبكي.
وحينما رفعت وجهها أخيرًا، ابتسم آلفين وقال: “هممم؟” ورفع يده المغلقة بخفة مشجّعًا.
فأخرجت كلوي قبضة يدها لا إراديًا ولأن آلفين أخرج المقص، خسر اللعبة، لكنه ضحك وكأنه ربح ذهب يفتش في جيب بنطاله.
أثار تصرفه المريب قلق بعض الجنود، لكن ماثيو أوقفهم مجددًا هزّ رأسه، طالبًا منهم أن يمنحوا هذين الحبيبين المودعين بعض الوقت الإضافي.
أخرج آلفين من جيبه خاتمًا صنعه بنفسه.
كان قد بدأ صنعه في البداية من باب التسلية دائمًا ما راوده شعور برغبة في إهدائها شيئًا، رغم إدراكه أن ما صنعه ليس سوى لعبة أطفال لكنه تذكّر كيف كانت كلوي تتفحص خاتمًا مأخوذًا من أحد الجثث، فقرر أن يصنع لها واحدًا.
ومع مرور الوقت، بدأ يحمّل المعدن المذاب من فوهة بندقية معنى خاصًا لهما كانت البنادق لا تليق بها، لكنها التقت به في ساحة المعركة، وهذا هو الواقع.
كلوي، أطراف أصابعك هي سلاحك.
وهذا الخاتم يكفيك بدلًا من البندقية لذا أمسكي بالقلم الذي طالما تمنيتِه.
أدخل الخاتم في بنصرها النحيف، وظل يتأمله ثم ابتسم بأسى حاول جاهدًا، لكنه خرج غير متناسق وغير جميل.
ربّت على يدها وقال بشيء من الانكسار:
“سأشتري لكِ واحدًا جيدًا لاحقًا شيئًا يليق بيدكِ.”
“……”
“كلوي، أنا آسف لأني لم أقدّم لكِ شيئًا جميلًا وأنتِ هنا.”
لا مجوهرات، ولا حتى ملابس أو أحذية بسيطة كانا يتجولان حول القاعدة وكأنه موعد، ولم يصنع لها حتى حساءً دافئًا، ولم يقطف لها أزهارًا.
أنا آسف لأني كنت بهذا السوء لكنكِ كنتِ ممن يبتسمون حتى ببعض الحلوى أو قطع الشوكولا.
أرادت كلوي أن تقول إن ذلك غير صحيح، لكنها لم تستطع سوى هزّ رأسها باكية لقد كان آلفين رائعًا في كل شيء.
لقد حماها من الرصاص المخيف، نعم، لكنه كان يحتمي بها أيضًا حتى من قطرات المطر يخشى أن تتألم منها.
فكيف لك أن تكون أفضل من هذا؟!
أمسكت بيده بقوة وهي تهز رأسها، ولكنها فجأة شعرت بشيء غريب كانت يده دافئة للغاية ومع الوقت، ازداد دفؤها حتى باتت حارة بشكل غير طبيعي كانت طاقة سحرية.
فتحت كلوي عينيها على اتساعهما، فابتسم آلفين لها ابتسامة ذات مغزى، ثم همس لها بحيث لا يسمعه الآخرون:
“لن تقلقي بعد الآن، صحيح؟”
“……”
“تذكّري وعدك السابق.”
“……”
“قلتِ إنه إن أنهيتُ هذه الحرب، ستأتين إليّ بكل كيانك.”
كان آلفين يظن دومًا أنه لا يطمع في شيء لكن بعد أن استمع إلى كلماتها، أدرك أنه كان مخطئًا لم يكن يكفيه أن يعرف أنها على قيد الحياة في مكان ما.
كلوي، سأجدكِ مهما كان سأذهب لرؤية عرضك وسنلتقي في مكان لا حرب فيه حيث لا تضطرين للقلق، ولا يُقيّـدكِ الناس بنظراتهم.
فقط… انتظريني قليلًا.
قبّل ظهر يدها كما لو كانت أثمن كنز في العالم، ثم أشار للجنود الإيديلينيين أنه مستعد للمغادرة.
أدركت كلوي عندها سبب طلبه للعب “حجر-ورق-مقص” فجأة.
لقد أراد أن يخبرها بسرّه الأخير قبل الرحيل.
(أنت… ساحر ناري، أليس كذلك؟)
لقد كنتَ تستطيع الهرب في أي وقت، أليس كذلك؟ حتى الآن… ما زلت تستطيع، صحيح؟
ذهبت تراقبه وهو يركب العربة، ثم انهارت على الأرض ممسكة وجهها لا يزال القلق يعصف بقلبها، لكن يده التي أمسكت بها كانت لا تزال دافئة.
وهذا الدفء… اسمه الآخر، كان: الأمل.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 55"