لقد تسببت كلوي في إزعاج الجنود في الوحدة المجاورة لوقتٍ طويل لم تكن تبدو شخصًا مُخيفًا من أي زاوية لكنها، بوجهٍ يحمل كل مآسي العالم وهي جاثية في زاوية المعسكر، جعلت المارّين يرتجفون مرارًا.
“أوه، أفزعتني! لماذا لم ترحلي بعد؟”
“تُرى، هل ترتاح الحمائم أيضًا في الأيام الممطرة؟”
“لست متأكدًا، لكن أعتقد أن الأمر كذلك…”
“حتى الحمائم ترتاح، فلماذا لا أستطيع أنا –الإنسانة– أن أرتاح حين تمطر؟”
بعد صمت طويل أمام سؤالها الساخر العميق الفلسفي، أجاب الجندي:
“…سأنقل الرسالة إلى القاعدة عندما يصل الرد.”
بمعنى آخر: رجاءً، اذهبي إلى منزلك الآن.
تنهدت تنهيدة عميقة، وقررت أن ترسل رسالة أخرى إلى المركيز كانت تحمل نفس مضمون الرسالة السابقة، لكنها أضافت بضعة أسطر:
لا يمكن أن يحدث ذلك أبدًا، لكن إن كنت يا سيدي الماركيز ساحرًا، فكيف ستستعمل قوتك؟
أريد أن أعرف الجواب.
همست للحمامة، وهي تُطعمها الحبوب بنفسها، طالبة منها أن تعتني بالرسالة، ثم غادرت مع جنود الاستطلاع خطواتها كانت ثقيلة بلا حدود، إذ إن الحرب الشاملة التي ستحسم مصير البلدين كانت تقترب.
لكن حين عادت كلوي إلى القاعدة، كانت بانتظارها صدمة أكبر.
“…كلوي، عدتِ؟”
“نعم. لكن ما الأمر؟”
“…….”
“لماذا تنظر إليّ هكذا مجددًا؟”
كان ماثيو بوجه جامد متيبّس ولم يكن وحده؛ معظم من في القاعدة كانوا يرمقونها بنظرات خاطفة، ثم يُشِيحون بأبصارهم ما إن تلتقي عيونهم بها.
كلوي كانت معتادة على مواقف كهذه لقد اختبرتها مرارًا في طفولتها المتنقلة بين الأمكنة.
تلك كانت نظرات الحذر، والريبة، والشك… النظرات التي توجَّه عادة إلى الغرباء.
أمسك ماثيو بمعصمها النحيل، وسحبها إلى زاوية نائية لا يمر بها أحد.
“كلوي.”
“ما بك؟ ما الأمر؟”
تردد ماثيو متحيرًا، ثم قال أخيرًا:
“يقال إن ألفين… من العائلة الملكية هل كنتِ تعلمين؟”
حدّقت كلوي في ماثيو وكان بدوره يراقب رد فعلها بعناية، لكن من الصعب معرفة ما يدور في داخلها، فقد كان وجهها هادئًا إلى حد البرود في الواقع، كانت تفكر بجنون فيما ينبغي قوله.
(كيف… كيف عرف ذلك؟ كلوي، عليكِ أن تنكري لا تظهري ارتباكًا أنتِ بارعة في التمثيل، أليس كذلك؟ لقد شاهدتِ آلاف المسرحيات، ألا تستطيعين أداء واحدة بسيطة؟ بالطبع تستطيعين يجب ألا يُكشَف أمرك.)
حدّقت في ماثيو بصمت، ثم انفجرت ضاحكة بسخرية:
“ماثيو، ولماذا يكون أحد أفراد العائلة الملكية هنا؟ هذا غير منطقي.”
“…….”
“من الذي يروج لمثل هذه الأقاويل السخيفة؟”
لكن هذا التمثيل لم ينفع بشيء.
“…ألفين اعترف بذلك بنفسه.”
في تلك اللحظة، تَشقّق القناع المبتسم الذي كانت ترتديه ببراعة رغم أن ألفين أخبرهم مرارًا بأنها لا تعلم شيئًا، إلا أن ماثيو فهم بوضوح…
(كنتِ تعلمين منذ البداية، أليس كذلك؟)
قال ماثيو بمرارة:
“تم رفع تقرير إلى الوحدة بالفعل قريبًا سيأتي الجنود ليصطحبوا ألفين للتحقيق.”
اهتزت عيناها الزرقاوان بصدمة عنيفة.
دخلت كلوي في جدال طويل مع ماثيو وبقية فريق الاستطلاع دافعت عن ألفين حتى النهاية، مُصرة على أن الأمر مستحيل لكن إنكارها لم يكن له أي فائدة أمام اعتراف صاحب الشأن نفسه.
ثم قالت إنها تريد التحدث مع ألفين على انفراد لكن أفراد القاعدة بدوا مترددين، إذ راودهم شك بأنها ربما كانت تعلم بحقيقته وإن لم تكن تعلم، فعليها أن تبتعد عنه الآن على الأقل فألفين كان بانتظار نقله إلى المحكمة العسكرية، وأي علاقة به الآن لن تعود عليها بأي نفع.
لكن كلوي لم تستطع الوقوف مكتوفة الأيدي حتى إن تنازلت وتراجعت، لم يكن من المنطقي ألا تتمكن من توديعه ولو مرة تمسكت برغبتها، فقال لها ماثيو أمام باب الزنزانة:
“كلوي، اجعليها محادثة قصيرة.”
“…….”
“أقول هذا لأني قلق إن تورطتِ أكثر، فسيعود عليكِ ذلك بالضرر لا يجب أن تُشَكَّكي أنتِ أيضًا.”
لم تُجب، بل فتحت الباب.
كان ألفين جالسًا مستندًا إلى الحائط بهدوء، وعندما رأى وجهها، ارتسمت على عينيه الزرقاوين ابتسامة بطيئة.
“ألن تفي بوعدك؟”
“…….”
“لماذا تأخرتِ؟”
“…….”
“كنت خائفًا أن أرحل دون رؤيتك.”
حدّقت فيه كلوي بعينين باردتين دون أن تجيب، فحاول أن يمزح بوجه محرج:
“قلتِ إنك لن تزوريني إن احتُجزت في زنزانة… كذبتِ.”
ثم لم تَعد تحتمل، فضربت ذراعه ضربة خفيفة، فتظاهر بالمبالغة في ردة فعله، لكنه توقف فجأة… فقد بدأت دموعها تتساقط فجأة.
“هل جننت؟”
“…….”
“ما هذا، أيها الأحمق! كيف تعترف بذلك بلسانك؟”
“…كلوي.”
“كان يجب أن تُنكر! أن تنتظرني دون أن تنطق بكلمة…”
قلتَ إن بإمكانك الرحيل متى شئت كنتَ واثقًا من ذلك فلماذا تجلس هنا الآن؟
كانت تعاتبه بعنف، لكن اللوم الحقيقي كان موجّهًا إلى نفسها.
ففي الحقيقة، كان ينبغي لها أن تُبعده منذ البداية لكنها طمعت هي الأخرى ارتاحت عندما قال إنه لن يتركها، وأنه سيبقى معها فكرت: لن يحدث شيء، ربما فقط لبعض الوقت… وبهذا تمسكت به، متجاهلة الواقع.
ما كان يجب أن تفعل ذلك فهذه أرض إيدلين، وكان دائمًا معرضًا للخطر لو كانت تعلم أن النهاية ستكون هكذا، لكانت أطلقت سراحه حتمًا.
ارتفعت نبرة صوتها قليلاً، مما يعني أن من بالخارج لا بد أنهم في حالة ترقّب قلق ألفين أن يسمعهم أحد، فظل يمسح دموعها بإبهامه وهمس:
“كلوي، تذكرين ما قلته لك سابقًا؟ أنتِ لم تكوني تعلمين شيئًا.”
“…….”
“أليس كذلك؟”
لم تُجب، بل تنفّست بأنفها مرة، ثم أخرجت شيئًا من صدرها كان خنجرًا.
“خشيت أن يصادروا الذي كان بحوزتك.”
كانت تعلم أن مثل هذا النصل لن يحميه حقًا، لكن لم يكن بإمكانها تهريب بندقية وهذا هو كل ما يمكنها إعطاؤه.
قالت:
“سأضع منوّمًا في طعام الحرس هذا المساء سأفتح الباب مهما كان الثمن.”
“…….”
“ستتمكن من الهرب، صحيح؟ أجبني، أرجوك.”
فقد ألفين كلماته للحظة.
لطالما أخبرته كلوي من قبل: “لا داعي لأن تعتذر لكونك من العائلة الملكية أو لأنك من فيتسمارك أنت لم تفعل شيئًا خاطئًا.”
ربما قالت ذلك لأنها أمور لا يمكن تغييرها بالإرادة.
لكن، لأن تلك الأشياء لا يمكن تغييرها، أصبح وجوده نفسه مصدرًا للارتباك في حياتها.
حدّق ألفين في الخنجر بوجه معقّد (كلوي… ما الذي دفعكِ إلى إحضار هذا إلى هنا؟ كم كان مؤلمًا لكِ أن تعترفي بمشاعركِ وتتصالحي معها؟)
ثم دفع برفق على حافة الخنجر بأصابعه.
“لا يصح فعل هذا، كلوي إن فعلتِ، فأنتِ تخونين جانبكِ حقًا.”
ابتسم لها بلطف، محاولًا ثنيها لكن كلوي عبست وجهها فجأة، فقد كانت تلك كلمتها المألوفة التي كانت تقولها له دومًا والآن، بعد أن سمعتها منه، لم تستطع السيطرة على مشاعرها، فصاحت بنبرة مكسورة، ناسيةً أن تخفض صوتها:
“وماذا عنك أنت؟ هل يُمكنك أن تموت؟”
ألفين… أنت أيضًا في صفي.
لسنا أعداء، أليس كذلك؟
لا تزال تتذكر اليوم الذي التقت فيه به في ساحة المعركة جاء بنيّة واضحة، وكانا متوجسين من بعضهما لكن أمام خطرٍ أعظم، احتضن كلٌ منهما الآخر غريزيًا.
تحت حضنه، حاولت أن تكبت دموعها بأسنانها ومع ذلك، لا بد أن عينيها قد انهمرتا ببعض الدموع.
تلك الدموع لم تكن فقط من أجل رفاقها الذين كانوا يموتون من حولها، بل لأنها شعرت آنذاك أن كل ما يحيط بها بائسٌ ومؤلم.
لم يكن ألفين لطيفًا إلى درجة أن يمسح دموع الغُرباء، بل كان يتظاهر بعدم رؤيتها وهو يحدق بها ببرود من حين لآخر ومع ذلك، وقف طويلًا في مواجهة العواصف التي هبّت بعد القصف.
بفضله، استطاعت أن تنهض متظاهرة بالقوة، وأن تمد له يدها دون تردد، وتقول بلا خوف:
لنذهب لمعالجة جراحنا.
لكن كيف نكون أعداء؟ ها؟ لم نكن كذلك منذ البداية.
فاضت دموعها بلا توقف أطلق ألفين تنهيدة أشبه بالأنين، ثم مسح دموعها وهمس برقة، ثم احتضنها وبعدها، نظر إليها بعينين ممتلئتين بالشفقة.
ليس هناك حماقة أخطر من إفشاء خطة قبل تنفيذها وكان دائمًا يتجنب مثل هذه الأفعال لكن… هل يستطيع أن يترك حبيبته على هذا الحال؟ نظر إلى نافذة الزنزانة ذات القضبان الحديدية الثقيلة، ثم قال بصوت خافت:
“كلوي، استمعي جيدًا.”
“…نعم.”
“في فيتسمارك، سيتم أسر ولي عهد إيدلين.”
“…….”
“ما يعني أنه لا داعي للقلق عليّ هناك رهينة.”
رمشت كلوي بعينيها عدة مرات، في محاولة لفهم ما قاله كان يقصد أن فيتسمارك تمتلك أسيرًا ذا قيمة، ولن يجرؤوا على المساس به.
لكنها هزّت رأسها مرتين، فاض بها القلق والاضطراب نجاح تلك الخطة أو فشلها شيء، لكن ما كانت تعرفه هو ما تمثله شخصية مثل الأمير الثالث في البلاط الملكي.
“وإن تخلّت عنك فيتسمارك؟”
ضحك ساخرًا كأنه يمزح:
“أتقصدين أن حياتي لا تساوي حياة ولي العهد؟”
لكنها لم تستطع أن ترد على هذا السؤال الذي بدا مزاحًا ارتبك هو الآخر (ما هذا؟ أحقًا تعتقدين ذلك؟ كل الناس قد يعتقدونه… لكن أنتِ، لا يجب أن تكوني مثلهم.)
ارتبكت كلوي كثيرًا، ثم قالت بصعوبة:
“ألفين… لا يوجد فرق في قيمة الأرواح لكن…”
“…….”
“في ساحة الحرب… يوجد.”
قيمة حياة الجندي ليست كقيمة حياة القائد وكذلك، لم تكن القيمة الاستراتيجية لأمير غير لافت كأمير ثالث، مساوية لقيمة ولي العهد.
لكن…
“بالنسبة لي… حياتك أنت هي الأثمن.”
“…….”
“أرجوك اهرب فقط قل لي ماذا أفعل، وسأفعل أي شيء.”
توسّلت إليه وهي تتشبث بذراعه لكن ألفين، وقد امتلأت روحه بالتأثر، لم يستطع أن يبتسم حتى النهاية، بل انعوج وجهه.
“كلوي.”
“نعم، نعم؟”
كانت تومئ برأسها مرارًا، تنتظر أي إشارة منه فوضع يده على ظهر يدها البيضاء الممسكة به.
“في الحقيقة، أنا أيضًا…”
لكن لم يُتح لهما إكمال الحوار.
طرق ماثيو الباب من الخارج:
“كلوي، اخرجي الآن.”
نظرت كلوي بتردد إلى الباب، ثم إلى ألفين أراد أن يقول شيئًا، لكنه أغلق فمه وابتسم كأنه يقول: لا بأس لكنها لم تستطع التحرك.
انفتح الباب على قسوته رأى ماثيو وجهها المبلل بالدموع، وتنهد ثم ساعدها على النهوض، ودفعها برفق.
أُغلق الباب الحديدي بين العاشقين.
وقفت كلوي أمامه عاجزة.
نحب بعضنا إلى هذا الحد، ولا نستطيع حتى تجاوز باب؟
ظل ألفين وكلوي يحدّقان في الباب، وكلاهما قد اشتاق للآخر وهو لا يزال على بُعد خطوات قليلة فقط.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 54"