في ليلةٍ بزغ فيها الهلال، اجتاز آلفين أراضي العدو، وبينما يفعل ذلك، كان يفكر في شخصٍ واحد مدنيةٌ محبوبة من دولة العدو.
«أترى، ألا يكون في ذلك خطر؟»
كان ينوي زيارتها ولو لفترةٍ قصيرة بعد تقديم التقرير، إلا أن ذلك لم يكن سهلًا على ما يبدو، لأن مكان تواجد كلوي الآن، أهو في وحدةٍ عسكرية أم في مسكنٍ مدني، لم يكن واضحًا.
وعندما وصل أخيرًا إلى المعبد المهجور الذي تحول إلى كومة حجارة، تغير بريق عينيه إلى برودةٍ قاطعة لقد أدرك بحدسه الحاد أن من يكمنون هناك ليسوا مجرد عددٍ قليل من الجنود.
“جلالتك ، لقد وصلت.”
انطلق صوت أليكس من مكانٍ ما، ثم قفز ظلٌ أسود كالسهم أومأ له آلفين إيماءة خفيفة وسأله:
“هل وصل الجميع؟”
فصمت أليكس فقد حاولوا الاختباء قدر استطاعتهم، ومع ذلك، استطاع القائد أن يلاحظهم بسهولة أجاب أليكس بعد لحظةٍ من التردد:
“تركنا جزءًا من القوات في الوحدة تحسّبًا للطوارئ فقد نحتاج لتبادل الرسائل.”
“أحسنت.”
ربت آلفين على كتف أليكس بخفة، ثم بدأ يدور في المكان بخطى منظمة، وسرعان ما أشار إلى أمرٍ كعادته:
“حذاؤك العسكري ظاهر.”
“…”
“أتظن أن رفعه أكثر سيخفيه؟ ذلك المكان لا يصلح أصلًا للتخفي.”
لم يُظهر آلفين أي انزعاجٍ واضح، لكن الجنود بدأوا يعرقون بغزارة وأكثرهم وجهًا كئيبًا كان أليكس، إذ كانت مسؤولية جميع العمليات في غياب القائد تقع عليه وعلى دوكرين وبالتالي، كان انتقاد الجنود بمثابة توبيخٍ لهما معًا.
بعد أن راجع الجنود مرةً أخيرة، أومأ آلفين برأسه.
“يكفي، ارتاحوا الآن.”
وما إن أعطاهم إشارةً للاسترخاء، حتى سُمِع صوت تنفّسٍ مرتاحٍ من مكانٍ ما أخذ أليكس يحدّق بين مصدر الصوت والجندي الذي أشار إليه آلفين بنظرةٍ غاضبة.
«أنتما الاثنان، ستنالان العقوبة لاحقًا.»
في تلك الأثناء، اقترب آلفين من أليكس ودوكرين فالتقرير لا يحتاج عادةً لأكثر من شخصٍ أو اثنين أمّا أن تجتاز الفرقة بأكملها الحدود، فذلك لم يكن سوى دليلٍ على أمرٍ واحد: تحديد موقع ولي العهد.
مدّ آلفين يده وكأنه يقول هات ما عندك، فسارع أليكس إلى إخراج رسالة أرسلها المعسكر التابع للأمير الثاني من صدره وما إن فتح آلفين الورقة وقرأها، حتى ظهرت في عينيه الزرقاوين ملامح ضجرٍ خفيف.
“طلبت منهم تقديرًا تقريبيًا… فقدموا لي فعلاً شيئًا تقريبيًا للغاية.”
انحنى أليكس برأسه لو كان باستطاعتهم توسيع شبكة الأفراد لربما حصلوا على معلوماتٍ أكثر دقة من جانب الأمير الثاني غير أن دقة المعلومات لا تتناسب طردًا مع مدى سريّتها فالبحث المتشدد قد يؤدي في النهاية إلى كشف الأثر وترك مخرجٍ للعدو.
ومع ذلك، فإن تحطيم المستحيل هو جوهر روح الجندي وانطلاقًا من معلومات الأمير الثاني، انتشر جنود آلفين في ساحة المعركة لقد جابوا الجبهة الثالثة في إديلين لعدة أيام وفي النهاية، تمكنوا من جمع معلومات على مستوى الكتائب، فقلّصوا نطاق البحث لكن المشكلة كانت…
“جلالتك، لقد أسرنا عددًا من جنود إديلين واستجوبناهم…”
“نعم؟”
“ويبدو أن وجود ولي العهد في الجبهة الثالثة مؤكد إلى حدٍّ كبير.”
“ولكن؟”
“الآراء تتضارب بشأن الكتيبة التي يتمركز فيها.”
ضحك آلفين بسخرية بدا له أن ولي العهد كثير التجوال رغم كونه في الخطوط الخلفية.
ويمكن استنتاج سبب تواجد ولي العهد في خط الدفاع الأخير من احتمالين اثنين: إما أنه ينتظر انضمام قوات التعزيز من إديلين ليتقدم معهم، أو أنه بعد أن اختبر الهجوم الكاسح لقوات فيتسمارك، لم يجرؤ على التقدم إلى الجبهة الأمامية مجددًا ورغم أنها قد تكون مجرد إساءة فهم، إلا أن آلفين رجّح الاحتمال الثاني.
فالقيادة تحتاج إلى عقلٍ بارد، صحيح لكن حتى القائد، وحتى القائد الأعلى، حين يكون في ساحة المعركة، يشعر بالخوف كما يشعر به الجنود فكم هو متعجرفٌ أن تضع الخطط من وراء المكتب دون أن تقتل أو تنقذ شخصًا بيديك.
تنهد آلفين بعمق، وأغمض عينيه ثم فتحهما، ثم بادر بتعنيف أليكس:
“لا بد أنكم قبضتم عليهم في أوقاتٍ متفرقة لماذا لا تتحققون ممن بقي في الوحدة مؤخرًا من بين جنود إديلين؟”
“نعم… وبهذا استنتجنا أن الكتيبة الأولى والثالثة من الفوج الأول في الفرقة الخامسة هم الأرجح.”
“على كل حال، لا بد من التحقق المتقاطع.”
“نعم.”
هزّ آلفين رأسه وهو يلمس ذقنه، ثم أخرج ورقة مطوية من جيبه وناولها لأليكس.
“أوصل هذه إلى الأمير الثاني قل له إننا لن نطالبه بشيءٍ آخر ما دام قد نفّذ هذا فقط بعد انتهاء الحرب.”
أخذ أليكس الورقة بكلتا يديه باحترام لم يجرؤ على فتحها دون إذن القائد، لكنه، وبدافع القلق، سأل:
“جلالتك، ماذا لو تراجع الأمير الثاني عن كلامه لاحقًا؟”
كان يقصد، ماذا لو تنكر أو خان؟ لكن آلفين أجاب بلا مبالاة:
“المحتوى ليس بذلك الأهمية على أية حال إن لم يستطع الالتزام بهذا القدر، فهو لا يستحق شيئًا.”
ثم أصدر آلفين تعليماته للجنود الذين ما زالوا مختبئين دون راحة:
“البقية ستذهبون معي اليوم إلى قاعدة ويلتينغتون الطبية.”
“أمرك، جلالتك!”
وبينما كان ينظر إلى الجنود الذين بدأوا يقفزون واحدًا تلو الآخر، رفع آلفين رأسه إلى السماء متأملاً الهلال.
هل ستعود كلوي غدًا؟
لم يعد هناك وقتٌ للتأخير فعندما تبدأ المعركة، قد يفرّ ولي العهد إلى مكانٍ آخر مجددًا كان هذا التوقف القصير هو الفرصة الوحيدة، في لحظةٍ مشحونةٍ حيث يعيد كلا البلدين تنظيم صفوفهما استعدادًا للحرب.
***
عاد سكان القاعدة الطبية بعد يومٍ من الموعد المخطط له فقد طمع بعض الأطباء وأحد الناهبين كان فريق الاستكشاف مرهقين من مهنية هؤلاء الزائدة عن الحد أما الجندي الذي اقترح في البداية اصطحاب الأطباء، فبدا وكأنه جثة، بعد أيامٍ من التعنيف المتواصل.
لكن، بعض الوجوه لم تكن ضمن العائدين، وكان من بينهم كلوي كانت تنتظر رسالة من حمامة في وحدة قريبة، فقد أرسلت خطابًا إلى الماركيز تسأله عن أصدقائها، لكن المطر أو ضياع الحمامة في الطريق أدّى إلى تأخر الرد.
تحرك الأطباء بجدٍّ لتوزيع الأسرة على المرضى، في حين قام فريق الاستكشاف بتفقد أسلحتهم وساعدوا الأطباء حتى اللحظة الأخيرة.
في تلك الأثناء، اقترب بعض الحراس من ماثيو كانت وجوههم كلها جادة نظر إليهم ماثيو بتساؤل، فاقترب أحدهم وهمس في أذنه لكن ذلك الهمس لم يدم طويلًا، لأن ماثيو، بدهشة ما سمع، رفع صوته:
“من قال إنه من العائلة المالكة؟!”
“…”
“آلفين؟!”
وفي تلك اللحظة، فتح فريق الاستكشاف والأطباء أعينهم على وسعها وهم ينظرون إلى ماثيو أومأ الحراس برؤوسهم وهم يراقبون محيطهم بحذر فقد كان هذا الخبر، القادم من جانب فيتسمارك، قد انتشر بالفعل في القاعدة ومهما كان مدى صدقه، فقد كان خبرًا صادمًا.
“يبدو أن جنديًا من الطرف الآخر شهد بأنه كذلك، لكن آلفين يرفض الكلام.”
كان الحراس لا يزالون في حيرة من أمرهم، نصف مصدقين ونصف مكذبين.
أما ماثيو، فقد شعر، بشكلٍ غريب، أن الأمر قد يكون حقيقيًا فقد كانت هناك لحظاتٌ مشبوهة، لا سيما أثناء هروب الأسير وكما كان الحال مع كلوي، شعر ماثيو أحيانًا بانطباعٍ غريب تجاه آلفين.
خفض صوته وسأل:
“…هل أبلغتم الوحدة بالأمر؟”
“لا، كنا ننتظر قدومك أنت وكلوي.”
“وأين هو الآن؟”
قاد الحراس الطريق.
كان آلفين في الزنزانة الانفرادية وقف بعض الأشخاص من القاعدة أمامها، مما جعله فعليًا في حالة احتجاز.
لكن، حين فتح ماثيو الباب ودخل، كان آلفين جالسًا متكئًا على الحائط، بوجهٍ هادئ كعادته، لا يُظهر أي اضطراب مال برأسه قليلًا وسأل:
“وأين كلوي؟”
كان ماثيو متجمدًا طيلة الطريق، لكن هذا السؤال كاد يجعله يضحك هل يعقل أنه لا يعرف حتى الآن ما يحدث؟
تجاهل ماثيو سؤاله وطرح ما لديه مباشرة:
“يبدو أن هناك بلاغًا عنك وقد سمعتَ المحتوى على الأرجح، لذا أجبني فقط… هل هذا صحيح؟”
لكن آلفين تجاهله وكرّر سؤاله:
“كلوي… أريد التحدث معها أولًا.”
“…”
“لماذا؟”
“…”
“…هل حدث لها شيء؟”
حين لم يجب ماثيو، بدأت ملامح آلفين تتغير وظهر في عينيه الهادئتين بريقٌ شرس.
شعر ماثيو بشعورٍ غريب كان يعتقد دومًا أنه لا يستطيع تقدير مستوى مهارة آلفين لكن الآن، شعر بما هو أكثر من ذلك ذلك الرجل، الأعزل، يمكنه أن يُسقطه أرضًا في أي لحظة كانت تلك غريزة الحيوان، تحذّره من خطرٍ محدق.
حاول ماثيو مقاومة نظرات آلفين، لكنه لم يستطع، وأشاح بوجهه في النهاية بدا آلفين وكأنه لن ينطق بكلمةٍ قبل أن يطمئن على سلامة كلوي وفي النهاية، أجابه ماثيو بتردد:
“لا شيء حدث… ستأتي بعد الظهر.”
عندها فقط خفّت حدة آلفين قليلًا ومع ذلك، بقي جبينه معقودًا.
قالت إنها ستخبره إن خرجت، وإن تأخرت، لكنها لم تفِ بوعدها.
نظر إليه ماثيو بعينٍ مملوءة بالحذر، وسأله بحدة:
“أجب الآن هل ما قيل عنك صحيح؟”
نظر آلفين إلى الرجل أمامه بصمت كان يراه ساذجًا، بل وغبيًا ما الذي ستفعله إن عرفت؟ وإن أنكرته، هل ستصدقني؟ هل ستطلق سراحي؟ هل تملك حتى هذا الحق؟
فأمرٌ كهذا من اختصاص الجيش والعائلة المالكة لم يكن أمرًا يُناقش في قاعدةٍ طبيةٍ مدنية.
ومع ذلك، لم ينكر آلفين بل أومأ برأسه بهدوء.
رغم أنه كان يتوقع ذلك، ظل ماثيو عاجزًا عن الكلام لفترةٍ من الصدمة وحين نطق أخيرًا، قال:
“…هل كلوي تعرف؟”
“هل تخبر كل فتاة تواعدها بكل أسرارك؟”
“…”
مرةً أخرى، طال صمت ماثيو لكن هذه المرة، بدأ يده ترتجف.
وفي لحظة، نسي الشعور الذي راوده قبل قليل، وانقضّ على آلفين وكأن شيئًا داخله انفجر قبض على ياقة قميصه بخشونة.
“أيها اللعين، تلعب بمشاعر فتاة بريئة؟! هل تعرف ما فعلته بها؟!”
تفادى آلفين قبضته وهو يضحك بسخرية حتى لو كانت حبيبته، لا يمكن وصفها بالبريئة حسب تعبيرها، حتى أعظم كاتب مسرحي لن يستطيع تصويرها بهذه الطريقة.
لكن ماثيو لم يتوقف، بل أخذ يهزّه بقوة صوته كان يحمل شيئًا من الألم والرجاء:
“ما الذي تعرفه؟ ها؟ عندما جاءت لأول مرة إلى القاعدة، بالكاد كانت تتحدث مع أحد كانت… تبدو مريضة.”
“…”
“كلوي… كانت تحبك بصدق.”
توقف وجه آلفين عن الضحك تدريجيًا، وعاد إلى بروده المعتاد بردٌ شديد انعكس في عينيه الزرقاوين نظر إلى ماثيو بازدراء، ثم أمسك بيده وأبعدها بهدوء عن ياقة قميصه كانت حركته راقيةً لدرجةٍ تُثبت فعلاً أنه من سلالةٍ ملكية.
ومع ذلك، خلف تلك الأناقة، كانت قوةٌ وحشية تكمن، شعر بها ماثيو بكل وضوح أبعد آلفين يده وكأنه ينفض الغبار، ثم نظر إليه طويلًا وقال بنبرةٍ باردة:
“أنت في الحقيقة تحب كلوي ليس كزميلة، بل كامرأة.”
منذ البداية وحتى الآن.
لم يكن آلفين يرغب بمعرفة ذلك، ولم يكن يريد تأكيده لكن من يحمل المشاعر ذاتها لا يمكن أن يُخطئها من يعامل زميلًا بذلك الشكل؟ وخاصة في ساحة حرب؟
لم ينطق ماثيو بشيء، لكن صمته ووجهه المتجمد كانا بمثابة اعتراف.
ثم تمتم آلفين بشيءٍ بصوتٍ منخفض كانت شتيمة لم يتفوه بها أمام كلوي منذ أن وعدها.
لكنه مسح على شعره بضيق، وتنهد بعمق وقال:
“أريد أن أطلب منك شيئًا.”
“…”
“هل تسمح لي بذلك؟”
لن يكون أمرًا صعبًا إنه من أجل كلوي.
نظر آلفين إلى عيني ماثيو المرتبكتين بثبات.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 53"