كان الأمير الثاني من فيتسمارك يفكر بعمق بينما جمع ضباطه إلى جانبه فقد لاحظ في الاجتماع قبل بضع ساعات أن سلوك الأمير الأول كان غريبًا إذ طلب الأمير الأول من الملك:
“يا صاحب الجلالة، أرجو أن تأذن بإعلان التعبئة العامة لرعايا المملكة.”
كانت زمام المبادرة في الحرب قد انتقلت بالفعل إلى إيدلين فبعد أن تسلَّم الأمير الأول السلطة العسكرية، فشل في شنّ هجوم شامل، والآن، وقد حلّ موسم الأمطار في أراضي إيدلين، أصبحت الأرض مبتلّة على نحو دائم في مثل هذا الطقس العاصف، كان من شبه المستحيل للمجموعة السحرية وجيش فيتسمارك أن يشنّا أي هجوم لم يعد أمام فيتسمارك سوى اتخاذ استراتيجية دفاعية.
ومع ذلك، لم يكن من المؤكد بعد ما إذا كان جيش إيدلين سيشنّ هجومًا مضادًا ويتقدم داخل أراضي فيتسمارك فالطقس عادة ما يكون محليًا وهذا يعني أنه لا موسم أمطار في فيتسمارك كما أن جيش إيدلين يعلم بوجود الساحر الناري، لذا فلن يكون من السهل تجاوز الحدود.
كان من المفهوم تمامًا أن الأمير الأول يريد تأمين المزيد من الإمدادات والجنود تحسّبًا لأي طارئ…
“لكنه بدا متوترًا على نحو غير عادي.”
ضيق الأمير الثاني عينيه وسأل أحد ضباطه:
“ذلك الفصيل الخاص الذي أرسله الأمير الأول قبل فترة، ألم يعود بعد؟”
كان الأمير الثاني قد زرع جواسيس في معسكر الأمير الأول أيضًا وبسبب حذر الأمير الأول الشديد، لم ينجح سوى في كسب ولاء بعض الجنود البسطاء، إلا أن غياب ذلك الفصيل لم يغب عن ناظريه وكان يعلم أن الساحر يرافق ذلك الفصيل دائمًا.
“نعم لم يعودوا بعد.”
“هل من الممكن أنه قد مات؟”
“… ماذا؟”
“أقصد الساحر نحن لا نعرف متى قد يهاجم جيش إيدلين ومن الغريب أن يكون غائبًا في مثل هذا الوقت ما رأيك؟”
لم يتمكن الضباط من تقديم أي إجابة واضحة، فحولوا أنظارهم بعيدًا في ارتباك عندها أطلق الأمير الثاني تنهيدة ممتعضة.
“أيها الحمقى عديمو الفائدة، ألا تعرفون شيئًا؟”
رغم أن كلماته كانت أقرب إلى الإهانة، إلا أن أحدًا لم يتأذَ منها، فقد اعتاد الجميع على أسلوبه هذا غرق الأمير الثاني مجددًا في التفكير.
لو أن الساحر قد مات فعلًا، لفسر ذلك كل شيء توتر الأمير الأول، وطلبه للتعبئة العامة فمع القوى الحالية، لا يملك الثقة للدفاع عن الحدود.
وفي اجتماع اليوم، أجاب الملك على طلب الأمير الأول:
“أوافق لكن أُمهلك شهرًا واحدًا فقط من السلطة العسكرية.”
كان كل من حضر الاجتماع يدرك أن هذه هي الفرصة الأخيرة التي يمنحها الملك للأمير الأول فإذا لم يحقق نتائج واضحة خلال هذه المهلة، فسوف يعرض الملك مبادرة سلام مع إيدلين، ويتحمّل تعويضات الحرب الضخمة، ما يعني سقوط الأمير الأول من منصبه.
رغم انتهاء الاجتماع، لم ينفرج عبوس الأمير الثاني بعد فهل سيبقى جيش إيدلين ساكنًا إن أعلنا التعبئة العامة نحن؟
“هل هذه دعوة للموت الجماعي؟”
التعبئة العامة تعني تجنيد كل من يقدر على حمل السلاح، سواء كان صبيًا في الثالثة عشرة أو شيخًا في السبعين كما تعني تخصيص كل موارد المملكة للحرب أولًا.
وحتى لو فازوا في المعركة، فهل ستبقى الدولة قادرة على الوقوف؟ وماذا لو غزتنا نانسي في تلك اللحظة؟ ورغم أن نانسي دولة حافظت على السلام طويلًا، فإن لا شيء في الحروب مضمون.
بدأ الأمير الثاني، متجاوزًا حساباته السياسية، يشعر بخيبة أمل حقيقية في أخيه الأكبر هل سيقضي حياته في إعادة بناء البلاد إن تولى العرش؟
“لا يمكننا ببساطة ترك الحدود بلا حماية… فلمَ يدفع الأمور إلى هذا الحد؟ في النهاية، هذا خطأ سيقع على رؤوس الجميع.”
أطلق الأمير الثاني تنهيدة عميقة تعبّر عن ضيقه وفي تلك اللحظة، دخل أحد الخدم، ليبلغ عن زيارة من أليكس.
“أنت مجددًا.”
تمتم الأمير الثاني بانزعاج من قوات النخبة الخاصة، وقد بدا الضيق واضحًا على وجهه.
في زيارته الأخيرة إلى القصر، أوضح الأمير الثاني لأليكس بما فيه الكفاية أنه سيتشارك المعلومات المفيدة عندما تصله ومع ذلك، لم يتوقف أليكس عن طلب مقابلاته مرتين أو ثلاثًا في اليوم، بعناد لا يُصدّق.
ورغم حرج أليكس، فإنه كان يؤدي مهمته كعادته فقد كانت أوامر القائد.
“أقابل سمو الأمير الثاني الأمر أن صاحب السمو…”.
“بل قل سمو الأمير الثالث، لا صاحب السمو فقط.”
قاطع الأمير الثاني كلامه، وكان ضباطه يدركون أنها مزحة لا أكثر ففي الجيش، يُخاطَب الأمير عادة بلقب “صاحب السمو” حين يكون قائدًا وكان أليكس جنديًا حتى النخاع، لا يعرف الهزل حين يؤدي مهمته.
“… بالنسبة لي، يبقى القائد الأعلى.”
“اسمعوا ما يقول! على كل حال، ما الذي أتى بك؟”
رغم امتعاضه الظاهري، فقد سأل الأمير الثاني مبتسمًا بخفة، إذ كان يكن شيئًا من الإعجاب لأليكس.
“القائد الأعلى يرى أن الاتصال بماركيز ويلنغتون في إيدلين قد يكون مفيدًا فهو على الأقل من القلة الذين يمكن الحديث إليهم…”.
لم يكمل أليكس حديثه حتى عبس الأمير الثاني فجأة وتنهد.
“أهو يظن أنني جالس هنا بلا عمل؟ ذاك العجوز لا يمكن التفاهم معه، هو فقط بارع في الكلام المعسول.”
كان الأمير الثاني يتواصل باستمرار مع النبلاء المعتدلين داخل إيدلين ومن الطبيعي أن يكون المرشحون الأوائل هم أولئك النبلاء الذين ستتضرر مصالحهم بشدة في حال ساءت العلاقات بين الدولتين وكان ماركيز ويلنغتون من أبرزهم.
لكن رد الماركيز كان دومًا هو نفسه: “لا أعلم” ومع ذلك، كان بارعًا في تلميع صورته وكان دائمًا ما يكرر أنه يقوم بأعمال إغاثية حتى لجنود فيتسمارك، مؤكدًا على تطلعه للسلام بين البلدين.
كان الأمير الثاني يدرك جيدًا أن هؤلاء النبلاء المعتدلين كانوا يفاوضونه، في الحقيقة، ليزيدوا من قيمة معلوماتهم دون أن يتكبدوا أي خسائر سياسية أو تجارية.
لكن الوقت لم يكن في صالحه فلم يكن بمقدوره الانتظار أكثر فالسلام المبرم بعد الانسحاب من الحدود لا يُعد إلا هزيمة لذا قرر تغيير أسلوبه، والبحث عن جهات اتصال جديدة.
في إيدلين، كانت هناك عائلات نبيلة ارتبطت عائليًا بعائلات فيتسمارك ورغم أن هؤلاء النبلاء لم يكن لهم نفوذ يكفي للوصول إلى الأسرار العسكرية، إلا أنهم وُجدوا وكان من النادر أن يضع إيدلين أو فيتسمارك أبناءهم بين أيدي خصومهم، لكن حتى أضعف الاحتمالات لا يمكن تجاهلها في هذا الوقت.
ففي النهاية، قد يتهاوى النبيل أمام رابطة الدم فقد يتفاوض الإنسان حين يتعلق الأمر بالمصالح، لكنه لا يساوم على حياة أولاده.
ومع ذلك، لم يكن الأمير الثاني واثقًا فالأمراء في بعض الأحيان لا يكتفون بالمساومة على دماء أقاربهم، بل قد يقتلونهم بأنفسهم.
غارقًا في همومه، أومأ الأمير الثاني لأليكس وقال:
“سأجرب الاتصال بذلك الطرف مرة أخرى أما أنت، فيمكنك الانصراف الآن.”
“……”
“قلت انصرف.”
لكن أليكس بقي واقفًا كأنه مغروز في الأرض.
“آه، تبًا لك.”
تذمّر الأمير الثاني من جديد، وفي هذه اللحظة، اضطر الخادم إلى مقاطعته للمرة الثانية هذا اليوم انحنى وقال بصوت منخفض:
“سمو الأمير، لقد وصلت رسالة من إيدلين.”
“……”
توقف الأمير الثاني لوهلة، ثم التفت إلى الحاضرين، وأسرع إلى فتح الرسالة كانت من أحد النبلاء المسنين الذي تواصل معه بتردد وكانت تحتوي على موقع ولي عهد إيدلين الحالي.
لكن من تلك اللحظة، بدأ الأمير الثاني يضحك كالمجنون لم يكن يشك في صحة المعلومة فبوسعه إعدام ابنة و صهر وحفيد هذا النبيل العجوز إن أراد.
المشكلة كانت في أمر آخر تمامًا لم يكن لديه أي وسيلة للاستفادة من هذه المعلومة.
فمنذ فشل الهجوم الشامل لفيتسمارك، استعاد جيش إيدلين الجبهة الأولى ويقف الآن كلا الجيشين عند الحدود، كلٌ على جبهته.
أما الموقع المذكور لولي العهد، فهو في خط الدفاع الأخير لإيدلين وما ورد في الرسالة لم يكن سوى اسم فرقة عسكرية حتى لو اخترقوا الجبهتين الأولى والثانية، سيتعين عليهم مواجهة أكثر من عشرة آلاف جندي الاستيلاء عليه أو حتى الاقتراب منه أمر مستحيل.
وحتى إن تمكّن أحدهم من التسلل، فإن ولي العهد سيكون قد نُقل إلى مكان آمن.
“أنت، اسمك أليكس، صحيح؟”
“نعم، سمو الأمير.”
“ما الذي يفكر فيه قائدك هذه الأيام؟ هل يظن أن بإمكانه الذهاب إلى هناك والعودة حيًا؟”
بغضب، ناول الأمير الثاني الرسالة إلى أليكس الذي أخذها وقرأها.
لم يكن أليكس يعرف أين تتمركز الفرقة الخامسة حاليًا لكن إذا كانت على خط الدفاع الأخير لإيدلين…
لم يستطع أن يقول شيئًا، فابتلع كلماته بصمت.
قائدكم… موجود بالفعل بالقرب من هناك.
***
في قاعدة ويلنغتون الطبية، وصلت بعض الأخبار الجديدة فقد أرسلت الوحدة المجاورة، التي تشاجرت كثيرًا مع العاملين في القاعدة، بأنهم تمكنوا من القضاء على عصابة من اللصوص.
لكن إن جاءت أخبار جيدة، فلا بد أن تأتي أخبار سيئة أيضًا فقد أخبرهم الجنود بأن فيتسمارك أعلنت التعبئة العامة، وربما يعني ذلك تجنيدًا إضافيًا في إيدلين أيضًا.
كانت كلوي شديدة القلق، بسبب أندريا وبنجامين.
فرغم أن أبناء العائلات الثرية غالبًا ما يجدون طريقة لتجنب الحرب، إلا أن صديقيها كانا في ريعان الشباب وحين فكرت باحتمالية أن يُرسلا إلى الجبهة، بات القلق يمنعها من النوم.
وكانت أندريا، بعاطفتها الشديدة، مصدر القلق الأكبر لها فمن الممكن أن تُلقى بها في ساحة الحرب فتندفع دون وعي.
لكنها حين أعادت التفكير، رأت أن بنجامين هو الأكثر إثارة للقلق فقد تربى مدللًا أكثر منها.
حينها، نفد صبر كلوى، ولم تنتظر عربة الإمدادات، فتوجهت إلى المعسكر لكتابة رسالة للماركيز باستخدام طائر مرسال.
سيدي الماركيز
هل ما يُشاع عن استعداد جيش إيدلين صحيح ؟
أندريا وبنجامين هل هما بخير ؟… إنهما عديمان المسؤولية .
كانت تثق أن ذلك العجوز سيفهم ما تقصده رغم الغموض فقد تجنبت التوضيح خشية أن تحذف الرقابة الرسالة كلها وترددت مرارًا، فقد كانت ترغب في طرح سؤال آخر.
سيدي الماركيز ، لو افترضنا أن لدى إيدلين ساحرًا …
هل يمكن أن يكون ذلك عونًا لإنهاء الحرب أم أنه سيدفعها نحو مزيد من التطرف
ربما يستطيع إيقاف نيران العدو في ساحة المعركة، لكن ماذا بعد؟ هل ستوجه المدافع إليه على الفور؟ بل ربما يطالبه الناس بما هو أشد سيطلبون منه طوفانًا، أو إعصارًا.
كان هناك ألف طريقة لإبادة البشر، وذاك ما أرّق كلوي بدا لها أن حماية الجميع أمر مستحيل، كما أن لا أحد يعيش حياة كاملة بلا نقص.
إيديلينا ، فماذا أفعل بهذه القوة إذا ؟ هل أكتفي بالمشاهدة بينما أصدقائي يتلقون الرصاص على الجبهة ؟
وضعت يدها على جبينها، وفكرت طويلًا لكنها في النهاية، حذفت الجزء المتعلق بالساحر، وأرسلت الحمامة.
وعندما عادت كلوى إلى القاعدة بوجه حزين، كان الجميع يهمهم مدّت عنقها لترى ما يجري، فاقترب منها ماثيو.
“كلوي.”
“ما الأمر؟ لدي أمل غير منطقي أن تكون أخبارًا جيدة.”
حك ماثيو رأسه، وقرأت كلوي في حركته الجواب أخبار سيئة، لكنها ليست كارثية لقد ساعدها مسرح أندريا الصامت كثيرًا في فهم الإشارات غير اللفظية.
قال ماثيو:
“أظن أن مخزن الإمدادات قد سُرق.”
للحظة، اختفت جميع ملامح كلوي أهذا أمر يُقابل بحكة رأس فقط؟ يا أندريا، لم يساعدني مسرحك الصامت أبدًا!
دفعت الناس جانبًا، وركضت لتفقد باب المخزن لقد اختفى القفل وأوضح ماثيو أن الأمر كان متقنًا لدرجة أن أحدًا لم يلاحظ، حتى جاءت أميليا لأخذ بطانية واكتشفت الأمر.
وعندما تفقدت كلوي الداخل، صحّحت رأيها لا، يا أندريا، لقد ساعدتني فعلًا.
فلم يكن هناك شيء ناقص بشكل واضح فقررت الاكتفاء بتفقد الأسلحة ونبات “عشب الصخر” أما البطانيات والطعام، فلم يكن الأمر بتلك الأهمية وإن سرقها أحد، فلا بد أنه جائع أو بردان، ويمكن التغاضي عن ذلك من باب الشفقة.
وكانت كلوى تملك شكًا قويًا في الفاعل فرفعت بصرها بحدة إلى نافذة غرفتها، ووجّهت نظرة باردة وفجأة، ساد القشعريرة المكان، وبدأ الناس يسعلون وينسحبون واحدًا تلو الآخر.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 51"