عضَّ آلفين شفتيه الممتلئتين مرة أخرى، وضحكت كلوي بصفاء لم تكن ترغب في أن تُفقد حبيبها الهادئ صوابه فلو أنه سئم منها وتركها، لكان ذلك مأساوياً.
لكن كلوي كانت تقول ما تشعر به حقاً كانت تغبط موهبة لوسيان، وغبطت أيضاً الفنانين في مثل سنها الذين التقتهم في قصر المركيز.
“لكنني لا أظن أن من العيب أن أغبط أحداً، آلفين تخيل لو كان في العالم أشخاص لا يشبهونني في شيء، ولا يوجد لدي ما أتعلمه منهم.”
“……”
“إذن، عندما أضل طريقي… لن أجد دليلاً أسترشد به.”
كانت كلوي منذ مراهقتها تحزن لعدم تطوّر أفكارها أليس كل تغيير يبدأ من الذات؟ لكن بعض التغييرات لا يمكن إحداثها بالقوة الذاتية وحدها أحياناً، لا بد من مواجهة من هو أفضل منا لكسر حدود الفكر.
وبالطبع، كانت تشعر بالمرارة أحياناً كم من ليلة قضتها متسائلة: “لماذا لا أستطيع أن أفعل مثلهم؟” لكنها لم تُفرغ هذا الشعور في اتجاه غير أخلاقي لذا لم تشعر بالعار من الشائعات المتداولة عنها.
لكن همسات الناس لم تتوقف عند هذا الحد.
“وماذا قالوا أيضاً؟ إنها لا تعرف الخوف من الدنيا ما دامت تستند إلى ظهر الماركيز.”
“أحضِرْهم إليّ.”
“وما عساك أن تفعل؟”
أجاب آلفين بهدوء:
“سأهشّم جبينهم بمطرقة.”
“……”
“لا، بل لا حاجة حتى إلى مطرقة فقط أحضِرهم لي.”
“……”
“في الواقع، لا حاجة لإحضارهم، فقط أخبرني من هم.”
“…أنت حقاً باعث على الطمأنينة لكنك تعلم أن أولئك الناس مدنيون، أليس كذلك؟”
الكتّاب في العادة ليسوا أقوياء بدنيّاً لو ضربتهم ضربة واحدة فقط، فقد يموتون.
ضحكت كلوي وهي تمسح دموع عينيها بطرف أصابعها، ثم واصلت الحديث:
“لكن آلفين…”
كان آلفين قد بدأ يضحك ضحكة شرسة كاشفاً عن أسنانه بدا وكأنه عقد العزم على قرصها هذه المرة، فرفع إبهامه وسبابته لكن كلوي لم تتراجع.
“نعم، لقد استفدتُ من فضل الماركيز، هذا صحيح.”
أطلقت كلماتها بسرعة، ثم عضّت شفتيها لتخفيها في فمها أمسك آلفين خديها وأدخل لسانه في فمها، ونجح في عض شفتها السفلى في تلك اللحظة ومع ذلك، كمن نسي هدفه الأساسي، ظل يجول داخل فمها فترة طويلة يلامس بطانة فمها وعندما بدأت تتحرك لتفلت منه، همس لها:
“هذه عقوبة مشددة تقبّليها بتواضع.”
“ما الذي…؟”
لم تستطع كلوي إلا أن تضحك رغم القبلة.ج وبعد أن نهل من فمها طويلاً، ظل يطبع قبلات خفيفة على شفتيها مراراً قبل أن يبتعد، ثم وضع ذقنه على راحته وقال:
“يبدو أنك كنتِ مستاءة جداً.”
“أنا؟”
“نعم أنتِ في العادة تتجاهلين الكلام الفارغ.”
“ربما لم يكن كلاماً فارغاً…”
ضحك آلفين مجدداً وهو يمرر لسانه على شفته السفلى بتصرف متعجرف، فما كان من كلوي إلا أن تلوّح بيديها معلنة استسلامها.
بالطبع، كان لدى كلوي ما ترد به على كلام الناس كم مرة طرقت أبواب قصر الماركيز وهي في العشرين من عمرها؟ آنذاك، بدا وكأن القصر مفتوح لكل الفنانين لكنه لم يكن كذلك لها كانت والدتها غجرية كثيراً ما رغبت في أن تقول:
لم تكن تلك منافسة عادلة بالنسبة لي.
لكن، ما جدوى ذلك الآن؟ هذه الأعذار لا طائل منها فهي كانت تدرك في قرارة نفسها:
إن كان هناك من يظن أن الفرصة التي اغتنمتها جاءت محض حظ، فهو بسبب تقصيري لأني لم أُثبت نفسي على المسرح، ولأني لم أظهر بعد ما أملك من موهبة.
وفي صالونات الفن، كانت تُتداول شائعات لا تُعد ولا تُحصى كلوي تقبّلت معظمها بروح التوبة، لكن من بينها ما يستحق أن يُحسم في المحكمة غير أن تلك الشائعات خمدت سريعاً بعد بضعة أشهر لم ترد أن تحكي تلك التفاصيل لآلفين، كي لا يحزن، فاكتفت بالضحك بخفة.
ثم مدّ آلفين يده يداعب شعرها ويضعه خلف أذنها وقال بصوت خافت:
“لكن يا كلوي.”
“نعم؟”
“أنا آسف، لكنني لم أكن أملك أي أوهام عن الوسط الفني منذ البداية.”
كيف يكون له أوهام؟ فهو لم يكن مهتماً بالفن أصلاً، ولم يكن له فيه علم، سوى ما تعلمه من باب الثقافة أثناء وجوده في البلاط الملكي تابع آلفين حديثه:
“في كل مكان، هناك من يُظهر خلاف ما يُبطن الفرق فقط أن من صادفتِه كان دنيئاً أكثر من غيره.”
“……”
“لذا، حتى بعد أن سمعت كل ما قلتِه، لم تتغيّر نظرتي لمجتمع الفن في إيديلين.”
لكن نظرتي لك تغيّرت للأفضل ماذا ستفعلين الآن؟ كان عليكِ اختيار مثال أفضل.
نظرت إليه كلوي من طرف عينها بكسل وقالت:
“آلفين، ألم يكن بإمكانك قول هذا الكلام في وقت أبكر؟ ما الذي كنت أفعله كل هذا الوقت إذن؟”
“أنا أحب الاستماع إلى ثرثرتك.”
“……”
“أنت تتكلمين أكثر حين تتحدثين عن عملك وتتغير تعابير وجهك أيضاً تعلمين ذلك؟”
بمعنى أنه كان يستمع بصمت ليرفع من معنوياتها شعرت كلوي بالحرج فأعرضت بنظرها وهي تزم شفتيها ثم نظرت من النافذة، فشعرت بإحراج أكبر لقد أمضت ساعة كاملة تشكو إليه وهي توقظه في عمق الليل لا بد أنه غاضب الآن.
لكن آلفين فاجأها مرة أخرى:
“كلوي.”
“نعم؟”
“هل يمكنك أن تغني لي شيئاً؟”
كان آلفين يصغي لها دائماً لكنها لم تغنِّ أمامه سوى مرة واحدة وكان ينتظر دائماً.
تفاجأت كلوي من طلبه وقالت “هم؟” وارتبكت وهي تحك رأسها.
“هكذا فجأة؟”
“ليس فجأة أريد أن أسمعك مجدداً.”
“متى غنيت أمامك…؟ بوقاحة؟ تجرأت؟”
قالتها مازحة، لكنها فعلاً لم تتذكر أنها غنّت له.
“ذلك اليوم، يبدو أنك كنتِ في مزاج جيد يوم أول قبلة لنا.”
“أهذا مزاح؟”
لم يكن مزاحاً كان بالفعل يوم أول قبلة لكنها غنّت قبلها.
تفادى آلفين الإجابة وغيّر الموضوع:
“لمَ لا تريدين الغناء؟”
“لا، ليس كذلك…”
لم تكن تجيد الغناء كما تعزف، وكانت معاييرها عالية جداً، لذا نادراً ما تغني أمام الآخرين خصوصاً حين يكون مقياسها هو والدتها وجوليا.
ومع ذلك، جلست بتردد واعتدلت في جلستها، ثم قامت بتصفية صوتها كانت تعلم أن آلفين لا يتوقع منها أداءً مسرحياً مثالياً فهو من القلائل الذين ينظرون إليها بمحبة حتى وهي حزينة خلف الكواليس لم تكن متأكدة إن كانت ستتمكن يوماً من أن تقدّم له عرضاً على المسرح، لكنها تستطيع أن تغني له، بكل سرور فقد أيقظته من نومه، فعليها أن تغني له ولو تهويدة.
“لكنني سأغني بصوت منخفض فالناس نيام.”
“حسناً.”
“لا تتوقع الكثير.”
“أعرف.”
“آه… لا بد من وجود آلة مرافقة…”
تنهّدت كلوي لعدم وجود مرافقة موسيقية، فغطى آلفين فمه ضاحكاً كانت صعبة الإرضاء حقاً وحين أومأ لها بأنه مستعد للاستماع، أومأت بدورها، وبدأ صوتها ينساب بنغمة أهدأ من حديثها.
كان ذلك أغنية عن شاعر جوال، كان فقيراً، لكنه لم يشعر أبداً بالفقر.
كان الرجل دائماً يلبس ثياباً بالية، وكل ما في جيبه بضع عملات معدنية ومع ذلك، كان متكبراً ومغروراً.
العشب على الطريق، الحجارة التي تصطدم بقدمه مع كل خطوة، الطيور التي تفرّ من رؤيته، مع أنه لا ينوِي إيذاءها — كل ذلك كان مصدر إلهام له.
كان قادراً على تحويل كل شيء في العالم إلى أغنية واستعارة فمم يخاف؟ وما الذي يفتقده؟
لكن في أحد الأيام، التقى بمخلوق لا يستطيع التعبير عنه حب يشبه اليأس الذي لم يعرفه من قبل.
لقد جعلتِني فقيراً.
أخذتِ الكلمات من فمي.
لا أستطيع تشبيهك بشيء.
وبعد أن تجردت، لم يتبقَّ لي سوى كلمات قليلة.
لذا، لا خيار أمامي سوى الركوع والقول بصدق:
أنتِ مُبهرة.
أنتِ محبوبة.
أنتِ فقط… جميلة.
بعد أن أنهت الغناء، جلست بهدوء لبعض الوقت، ثم نظرت إلى آلفين من طرف عينها وحين طال صمته وعجزه عن قول أي شيء، ضحكت.
سألها آلفين بخفة:
“ما هذه الأغنية؟”
“أتذكر أنني أخبرتك أن أبي ألّف كلماتها حين تقدم لخطبة أمي؟ على لحن شعبي من نانسي هذه هي.”
ذاك المخلوق الذي ركع له الشاعر المتكبر كان والدة كلوي.
كانت كلوي تفكر أحياناً: أبي، هل يجوز لك استخدام مهنتك بهذا الشكل العاطفي؟ أهذه هي الغاية من موهبتك؟
لكنها كانت تحب هذه الأغنية كثيراً ليس فقط لأنها تتحدث عن والديها، بل لأن فيها نضارة الشباب، وثقة، وشجاعة، وحب نقي.
“…والدك كان حقاً رجلاً رائعاً.”
قال آلفين بتأثر، فضحكت كلوي:
“لم يكن يتكلم بهذا الجمال عادة بل، حسب ما قال أصدقاؤه، كان ذا طبع شديد.”
هز آلفين رأسه بصمت وفكر:
“يبدو أنها ورثت طبع والدها.”
لكن كلوي أضافت:
“لكنه كان يسمع كلام أمي دائماً وأنا أفهمه حين كانت تقول لي باسمة ‘كلوي؟’ كنت أشعر فوراً أنني أخطأت، حتى لو لم أعرف السبب.”
فكّر آلفين في وقع ابتسامتها الساحقة عندما تغضب، وأومأ برأسه مجدداً.
“ويبدو أنها ورثت طبع والدتها أيضاً.”
بعد الغناء، شعرت كلوي بالراحة وابتسمت بطمأنينة فذهب آلفين يطبع القبلات على وجهها وقال:
“شكراً لأنك غنيتِ لي لست شاعراً مثل والدك، فلا أملك سوى أن أقول إنني… أحببتها جداً لكن هل تعلمين؟ صوتك في الغناء مختلف قليلاً عن صوتك في الحديث.”
“ليس صوتاً يجلب المال…”
وقبل أن ترفض الإطراء، سد آلفين فمها بقبلة اهتزت كتفاها من الضحك، وانساب صوته المبتلع من بين شفتيه.
دفعت صدره بلطف وقالت:
“ألا تشعر بالنعاس، آلفين؟ اذهب ونم أشعر أنني دلّلت نفسي أكثر من اللازم.”
“متى دللتِ نفسك؟ ولو فعلتِ، فلا بأس.”
حتى إن أغضبته، سيتحمّلها، فكيف لا يرحب بدلالها؟
نظرت إليه كلوي وفكرت: العطف على الآخرين ليس صفة الأطباء فقط يبدو أن العسكريين أيضاً يمتلكونه أن يُحِب أحدهم شخصاً بهذا القدر من الشفقة، يا له من أمر عظيم.
نهضت وجلست إلى مكتبها قائلة:
“سأكتب قليلاً قبل أن أنام بفضلك، أشعر الآن بشعور… رائع.”
هز آلفين رأسه موافقاً، لكنه ظل يحدق في ظهرها الصغير شعرت كلوي بنظراته، فضحكت بخفة.
“آلفين، نم الآن إن استمريتَ في النظر إليّ هكذا…”
سأرغب في الالتفات إليك، وسأبكي كالطفلة شاكِرة لك.
لكنها لم تكمل الجملة فظن آلفين أنها تعني أن وجوده يشتت تركيزها، فأغمض عينيه سريعاً وقال:
“إذن سأنام.”
لكنه ظل يستمع لصوت القلم يخط على الورق تارة يتسارع، وتارة يتوقف، وتارة يتخلله تنهيدة لكن الصوت استمر حتى طلع الفجر.
وآلفين، وقد أغمض عينيه، ابتسم بهدوء وحين عادت كلوي إلى السرير، احتضنها كما لو كان في نصف غفوة.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 50"