“في الحقيقة أنا….”
“نعم.”
“لا أحب الأطفال كثيرًا.”
آه، أحلام وأماني أطفال قارتنا قد تحطّمت مرة أخرى…
أمسك آلفين جبينه كان قد استعدّ لهذا على طريقته، لكن البداية بدت صعبة للغاية عندما تصل هذه المقطوعة إلى ذروتها، تخيّل كلوي وهي تنهال ضربًا على مفاتيح البيانو ويبدو أنها راضية عن رد فعله، إذ ابتسمت ابتسامة خفيفة.
“آلفين، لم أقل سوى جملة واحدة حتى الآن.”
“آه، حسنًا تابعي.”
هزّت كلوي رأسها وأكملت حديثها.
“لقد قلت هذا من قبل العالم ليس جميلًا جدًا، لكنني كنت أرغب في أن أقول ذلك للأطفال بطريقة أكثر لطفًا لا شيء مميز، هذا كل شيء.”
كانت كلوي قد نشأت في حياة الترحال، والتقت بأناس شتى بدلًا من أن تنشأ في منزل عائلي عادي وكان بعض البالغين الذين التقتهم قد خلّفوا لها ذكريات سيئة، لكنهم في المقابل تركوا لها أيضًا ذكريات جميلة بعض تلك الذكريات ظلّت ترافقها مدى الحياة ومن هنا بدأت تفكر: على الأقل يجب أن تتحدث بلطف مع الأطفال.
“…ألم يكن بوسعك أن تقولي من البداية ببساطة إنك فقط أردتِ أن تفعلي شيئًا من موقعك وبالطريقة التي تستطيعينها؟”
“لكن إن قلت ذلك مباشرة، فلن يكون ممتعًا للمستمع.”
مسح آلفين جبينه وضحك ساخرًا وكأنه على وشك الجنون كانت الكاتبة المسرحية تراقبه برضا، ثم بدأت تتحدث عن أمر أكثر بؤسًا.
“آلفين، في الواقع مسرح الأطفال لا يدرّ المال مقارنة بالمسرح للكبار.”
“حقًا؟”
“نعم.”
كان ذلك أمرًا يمكن لأي أحد أن يتوقّعه فالأطفال لا يستطيعون الذهاب إلى المسرح من تلقاء أنفسهم ما لم يقرر الوالدان ذلك وعندما يرغب الأهل في قضاء وقت مميز مع أبنائهم، فإنهم يذهبون إلى المسرح مرة أو مرتين كجزء من طقوس سنوية وهكذا كان معظم الجمهور.
ولهذا السبب، فإن كُتّاب مسرح الأطفال عادة ما تكون لهم صلة أيضًا بمسرح الكبار أو الأدب الموجّه لهم، تمامًا كما تفعل كلوي ولم يكن قولها إنها فنانة لكسب العيش مجرد مزاح.
لكن لم يُجبرها أحد على كتابة مسرح الأطفال، أليس كذلك؟ لقد كان اختيارها بالكامل لذا كانت كلوي تعتقد: بما أن الجميع دخل هذا المجال وهم يعلمون حقيقته، فلا بد أنهم يمتلكون وعيًا بسيطًا بوظيفتهم ليس بالضرورة أن يكون ذلك حبًا للأطفال، بل ربما رغبة في الحديث بلطف معهم، أو لرد جميل الذكريات الطيبة التي تلقوها في طفولتهم.
لكن لم يستغرق الأمر سنوات حتى تدرك كلوي أن ذلك كان أملًا مبالغًا فيه.
“قبل بضع سنوات، شرحت أحد الحوارات لممثّل طفل في الواقع، هذه العملية ضرورية دائمًا.”
“لِمَ؟ هل الحوار معقّد جدًا؟”
“لا، ليس كذلك لكن الأطفال لا يملكون تلك الحيل أو الخبرات التي لدى الكبار لحفظ النصوص تلك مهارات ملوثة لا يملكها سوى البالغين.”
لكن في المقابل، كان الأطفال يملكون ذاكرة مذهلة فبمجرد تكرار القراءة مرتين أو ثلاث، قد لا ينسون النص حتى بعد سنوا أومأ آلفين برأسه وكأنه فهم مغزى كلامها، لكن كلوي قرأت له الحوار كما هو، من باب التوضيح.
“يا برعمي الصغير، أكبر بصحة جيدة سأشاركك الماء!”
ثم أدّت حركة سقي الماء بريّاشة، فضحك آلفين ضحكة عالية نظرت كلوي إليه برأس مائل قائلة:
“…هل هو سخيف إلى هذه الدرجة؟”
كانت كلوي تدرك بالطبع كم كان ذلك الحوار طفوليًا لكنها تعلم أن القصص للأطفال تُكتب بهذه الطريقة لا حاجة لاستعراض المفردات أمامهم فالحوار يجب أن يُقال بلغة يفهمها المتلقّي.
لكنها كانت تسيء الفهم هذه المرة لم يكن آلفين يضحك لأنه وجد الحوار سخيفًا بل تذكّر ذلك اليوم الذي نظرت فيه إلى نباتات حديقتها وقالت: “يا برعمي الصغير، أكبرْ بصحة جيدة وعندما تكبر، سألتهمك!”
اتضح أن ذلك لم يكن مجرد حديث عابر كانت كلوي قد أرادت قول “سألتهمك”، لكنها كتمت ذلك لأنها أمام الأطفال أحسنتِ يا صاحبة أحلام أطفال القارة.
“آسف، آسف، كلوي لم أضحك لهذا السبب فقط تذكّرت شيئًا، وبدوتِ لطيفة.”
حاول آلفين إصلاح تعابير وجهه وهو يعتذر شعرت كلوي بالحيرة لأنها لم تقل شيئًا مضحكًا، لكنها أومأت قائلة إن الأمر لا بأس به.
ثم بدت وكأنها تفكّر بشيء مهم وبينما كانت تتذكر أمرًا من الماضي، ضاق جبينها تدريجيًا ثم قالت بصوت منخفض:
“لكن، تعرّف، يبدو أن ذلك الطفل استحضر شيئًا من خلال حركتي في ذلك الوقت، لم يكن هناك أي أدوات، فاضطررت إلى التمثيل فقط ثم سألني الطفل: (هل هذه هي؟)”
ثم شبكت كلوي يديها كما لو كانت تمسك بأداة بالقرب من خصرها، وحركتها يمينًا ويسارًا ثم نظرت إلى آلفين من طرف عينها.
كانت تستطيع أن تشرح الموقف بشكل أكثر صراحة وتفصيلًا، لكنها لم تفعل كما أن من حقها أن ترى وتسمع ما هو جميل فقط، فإن لعيني وأذني آلفين أيضًا نفس القيمة.
قالت “آه، مقزّز”، ثم أنزلت يدها المضمومة.
“ذلك الطفل رأى أحدهم يقوم بتصرف مشابه هل تحتاج إلى المزيد من التوضيح؟”
“فهمت تمامًا أي نذلٍ ذلك الذي تصرّف هكذا أمام طفل… يبدو أنه يعمل نفس عملك.”
أومأت كلوي برأسها عندها أدرك آلفين لماذا بدأت كلوي كلامها بقولها إنها لا تحب الأطفال لا بد أن ذلك الوغد كان يدّعي حب الأطفال بينما يتحرش بهم من وراء الستار تلك كانت الحقيقة.
“آلفين، في الحقيقة أنا وقتها….”
“نعم؟”
“كنت أريد أن أرجمه بالحجارة حتى الموت.”
ربما بدا التعبير عنيفًا، لكنه كان ما تشعر به فعلًا لم تنفّذ ذلك طبعًا، ليس لأنها إنسانة متحضرة، بل لأنها كانت تدرك أن الفارق الجسدي بينهما يجعل الأمر مستحيلًا.
لذا ذهبت كلوي إلى والدي الطفل لأنه لتقديم بلاغ رسمي، كان لا بد من موافقة أولياء الأمر وكانت مستعدة لأن تكون شاهدة إن أرادوا.
لكن النتيجة؟ لقد رُفض طلبها.
كان الوالدان يخشيان أن يتأذى الطفل نفسيًا إن أصبحت الحادثة حديث الناس كما خافا من أن يُمنع الطفل من مواصلة العمل في المسرح.
لم تجد كلوي بدًا من العودة إلى المنزل ربما كان بوسعها أن تقنعهما لو أعطت الأمر وقتًا كافيًا، لكنها لم تكن واثقة من أي قرار سيكون الأقل ضررًا على الطفل.
كان بإمكانها دعمه ماليًا، والشهادة لصالحه، لكنها لم تكن قادرة على مواساته طوال سنوات نموّه مثلما يفعل الوالدان.
ومع ذلك، ما زال شعور بالندم يلاحقها: “هل تخلّيت عن الأمر بسهولة أكثر مما يجب؟”
“لكن، آلفين، حصل أن اضطررتُ لاحقًا لتناول الطعام مع ذلك الوغد لقد افتتح ماركيز ويلينغتون مسرحًا جديدًا، واجتمع كثير من المعنيين.”
“نعم؟”
يا لها من مصادفة مشؤومة جلس ذلك الكاتب الشهير لمسرح الأطفال قبالة كلوي ابتسمت بسخرية وقالت:
“تخيّل، لم أستطع أكل الطعام وأنا أنظر في وجهه يبدو أن معدتي ضعيفة للغاية.”
“امرأة تمسك بالجثث تقول هذا؟ بل هو المقزّز فعلًا، لا معدتك.”
“صحيح كلنا نصبح جثثًا يومًا ما، لكن ليس كلنا نقترف أفعالًا دنيئة في حياتنا المقارنة ظلم للجثث.”
أيّدها آلفين، فأومأت برأسها لكن الحقيقة أن ذلك لم يكن مجلسًا يجب أن تُحدث فيه ضجة فقد كان احتفالًا، وكان الحضور يضم شيوخًا ووجهاء.
وفجأة، وقفت كلوي من مكانها بدا أن الماركيز رأى في تصرفها نوعًا من الدلال اللطيف، ولا يُعلم إن كان ذلك من حبه لها أم من رصيده الطويل في الحياة.
سألها: “كلوي، لِمَ لا تأكلين؟ أهو الطعام لا يعجبكِ؟”
فنظرت كلوي ببرود إلى ذلك الكاتب وقالت: “لأن هناك شيئًا ليس ببشر على هذه الطاولة.”
فضحك الماركيز ضحكة مدوية وما زالت كلوي تتذكر بدقة ما قاله لها:
“كلوي، هل ترين أن هناك شيئًا واحدًا فقط غير بشري هنا؟”
وفي النهاية، لم يعد ذلك الوغد قادرًا على العمل في المسرح افتتح مسرحًا صغيرًا في العاصمة بأموال كان قد ادّخرها، لكنه لم يستطع الاستمرار لأن كلوي شرحت الأمر للماركيز لاحقًا.
“……”
“يُقال عن هذا بلغة مبسطة إنه وشاية.”
“……”
“هل أبدو حقيرة؟ لا بأس إن شعرت بذلك.”
إن لامها أحدهم لأنها لم تسلك طريقًا قانونيًا، وإن عاتبها لأنها لم تحل الأمر بنفسها، فإنها تتقبّل ذلك بمرارة لكنها، حتى إن عادت إلى تلك اللحظة، كانت لتختار أن تُصبح حقيرة ألف مرة على أن ترى ذلك القذر يتلاعب بالأطفال.
لكن آلفين لم يستطع أن يتعاطف مع تقييمها القاسي لنفسها تلك المثالية في داخلها أشبه بمرض عضال مقارنة بالمؤامرات التي تحدث في البلاط الملكي في فيتسمارك، كان هذا لا يُذكر رفع كتفيه وقال:
“ألم أقل لكِ ذات مرة إن العلاقات الاجتماعية نوع من القوة؟ هذه هي الحقيقة والقوة يجب استخدامها عند الحاجة.”
“……”
“يبدو أنك كنتِ تشعرين بالكثير من الذنب تجاه ذلك الطفل.”
“صحيح، لكن….”
كانت ترغب فقط في قول إن هناك دومًا أناسًا يُخفون تصرفاتهم القذرة خلف ستار الجمال. لذا، كلما مدحها أحدهم على عملها، كانت تسارع إلى نفيه بنفسها.
“آلفين، لست أتوقع من ذلك الطفل أن يبقى على المسرح. ما يقلقني هو إن كان بخير فعلًا.”
“نعم.”
حين يكبر ويعرف ما حصل له، كم من الخيانة سيشعر بها من قبل البالغين؟ وهل سيتمكن من الوثوق بالناس مجددًا؟
“لذا، أظن أنه يحتاج إلى استثناء بسيط شخصٌ، رغم أسلوبه الفج وغير الناضج، غَضِب لأجله واعتذر.”
“كلامك صحيح.”
أسند آلفين ذقنه على يده وأخذ يحدّق في كلوي كانت بالفعل تمثل أحلام أطفال القارة شعر ببعض الندم على أنه أمسك جبينه في البداية.
لكن أسلوب كلوي كان دائمًا كذلك تبدأ كلامها بشيء، وتنهيه بشيء مختلف تمامًا ذلك الأسلوب كان يجعلها تبدو ساخرة أحيانًا، لكن من يستمع للنهاية يفهم الصورة الكاملة.
لكن الحكاية لم تنتهِ هنا.
“لكن، آلفين، بعد تلك الحادثة بدأت تُشاع عني أقاويل سيئة.”
ردّة فعلها الحادة وقت الطعام، واختفاء ذلك الكاتب فجأة من العاصمة… خاصة أنه كان يُعدّ نجمًا صاعدًا مثلها مادة دسمة للخيال الشعبي.
لم تبرر كلوي أي شيء بالطبع، كانت ترغب في شرح الأمر للناس، وأن تلعنه مع الجميع لأيام كانت تودّ أن ترجمه بالحجارة، فهل ستمنع نفسها من شتمه؟
لكنها لم تشرح لأن البعض سيبحث عن الضحية بكل تأكيد ولم تستطع إنكار أن هناك من يملك فضولًا وضيعًا كذلك وبصراحة، لم تكن تملك طاقة التبرير.
“قالوا عني إنني جننت بسبب الغيرة.”
ضحكت كلوي، وكأنها وجدت الأمر مسليًا فحدق فيها آلفين قليلًا، ثم عضّ شفتها السفلى برفق فتحت عينيها دهشة.
“لمَ عضضتني؟”
“هل أقرصكِ بدلًا من ذلك؟”
“لا، الناس هم من قالوا ذلك أنا لم أقل شيئًا.”
“أعلم ، لكن لِمَ تسمحين لكلامهم بأن يسكن قلبك؟”
وكان محقًا لأنها فعلًا فكرت كثيرًا في تلك الأقوال، وكأنها تخضع لنوع من التأديب الذاتي.
فالإشاعات ليست دومًا كاذبة تمامًا.
وافقت كلوي على كلامه، لكنها قالت بصوت خافت كأنها تبوح بسر خطير:
“آلفين.”
“نعم؟”
“تلك الإشاعة… صحيحة أنا أغار كثيرًا من زملائي.”
فأمسك آلفين جبينه مجددًا.
“كلوي، أنا على وشك الجنون بسببك.”
ابتسمت كلوي، وقد أعجبها رد فعله.
“هل بدأت تصدق ما قلته سابقًا؟ الذين يعرفونني منذ زمن يقولون هذا تعبيرًا عن حبهم لي.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 49"