في أحد أيام الظهيرة الهادئة، جلس آلفين على صخرة عريضة مستندًا بذقنه إلى يده.
من محاسن القلعة الكبيرة أنها تحتوي على الكثير من الأماكن التي يمكن للمرء أن يكون فيها بمفرده ففي القاعدة السابقة، كان عليه أن يذهب إلى مستودع تغمره الأتربة ليكون مع كلوي على انفراد، أما هنا، فبإمكانه أن يحظى بوقت خاص متى شاء.
كان محيط آلفين مليئًا بكتل حديدية لا يمكن تمييز شكلها وكانت هذه القطع الحديدية مشتعلة بلون أحمر فاقع بفعل السحر حدّق آلفين بها وتمتم بنبرة هادئة:
“أمرٌ صعب.”
كان يحاول الآن صناعة شيء ما من الحديد الخام، لكن جميع هذه القطع كانت محاولات فاشلة.
لطالما اعتاد آلفين على تحطيم الأشياء بالسحر، لكنه نادرًا ما جرب أن يصنع شيئًا جديدًا في الحقيقة، لم يستخدم السحر لأغراض غير قتالية من قبل.
ربما عندما كانت كلوي مريضة وسعى لتدفئة جسدها، أو حين أعدّ لها شايًا دافئًا في معبد إديلينا، هذا كل شيء.
كانت تجارب غير مألوفة، وظل آلفين يجد نفسه غريبًا عنها، بل وأحيانًا يضحك من نفسه ومع ذلك، كان يشعر بأن هذا الإحساس، على غير المتوقع، شعورٌ لا بأس به بل وكان يشعر بنشوة غريبة وتلهّف خفيف.
لكن، ورغم قضائه اليوم بأكمله يضرب الحديد بالمطرقة والإزميل، لم يخرج بنتيجة مرضية فركل المحاولات الفاشلة بحذائه العسكري، وألقى بالمطرقة في الزاوية ثم اتجه إلى غرفة كلوي.
عندما دخل آلفين الغرفة، كانت حبيبته تمسك رأسها بيديها، ملامحها تنم عن جدية بالغة.
أول ما فعله آلفين هو خلع قميصه فمنذ بداية موسم الأمطار، لم يتوقف المطر في إديلين إلا ليعود، ومع أن الجو لم يكن ممطرًا دائمًا، إلا أن الهواء كان خانقًا ورطبًا طوى ملابسه بعناية وسأل كلوي:
“ما بال وجهك مجددًا؟”
“آلفين، أعتقد أن هناك لصًا صغيرًا في القاعدة.”
“حقًا؟”
عقد آلفين ذراعيه وأومأ لها أن تواصل كان على وشك أن يعرض عليها أن يقبض عليه إن كان ذلك ما يزعجها، فهو بارع في تعقّب الجناة.
لكن كلوي قالت وهي تعبس كأنها غير مصدّقة:
“أي ولدٍ لطيف هذا الذي يسرق مقابض الأبواب في القاعدة باستمرار؟”
ساد الصمت للحظة، ثم لمعت عيناها بنظرة حادة كانت بوضوح تشتبه به.
لكن آلفين، الذي غيّر مؤخرًا هدفه من سرقة مقابض الأبواب إلى سرقة الملاعق، ردّ بكل برود:
“من يدري ربما يخطط لفتح محل خردة بعد الحرب.”
ردّ بها على مزحة سابقة كانت قد قالتها، فرفعت عينيها نحوه باستياء.
لكن يبدو أنها لم تعتبر الأمر جديًا، إذ لم تواصل الحديث عن الموضوع.
أدرك آلفين من جديد أن حبيبته تملك حدسًا خارقًا، ثم جلس على السرير ونظر إليها، إذ كانت لا تزال جالسة على مكتبها دون أن تتحرك، وسألها:
“ألن تنامي؟”
“نم أنت أولًا عليّ أن أكتب مذكرتي قبل النوم.”
“لكن لا أشعر بالبرودة إلا إذا نمتُ وأنا أحتضنك.”
“أليس الأمر عادةً بالعكس؟”
“وماذا أفعل الآن وقد اكتشفتِ أنك تعانين من برودة الأطراف؟”
كان محقًا لذلك لم تجد ما تردّ به سوى أن تضحك بهدوء.
آلفين كان يراقب ابتسامتها وخدّيها البيضاوين، ثم أغمض عينيه.
لا يُعلم كم من الوقت مرّ، لكن آلفين استيقظ من نومه، وإن لم يفتح عينيه اكتفى بالتركيز على الأصوات من حوله.
كانت كلوي تتنفس بصعوبة مجددًا ومع ذلك، لا يزال يُسمع صوت احتكاك القلم بالورق كانت تكتب بإصرار رغم ذلك.
لكنها لم تصمد طويلًا ربما لم تعد قادرة على التنفس، فنهضت من على كرسيها فجأة.
ثم تبِع ذلك صوت نافذة تُفتح بصوت “كريك”.
آلفين كان يعلم ما سيأتي لاحقًا.
ستخرج لاستنشاق الهواء أو ستستلقي بعد أن تهدأ قليلًا.
كان ينوي أن يتظاهر بالنوم كعادته، وهو يدعو لها في نفسه، لكن في هذا اليوم لم يستطع.
فأنفاس كلوي هذه المرة كانت تحمل معها شيئًا من الألم والأسى.
نهض من مكانه، وضمّ ظهرها النحيل المرتجف بين ذراعيه.
تفاجأت وارتجف جسدها للحظة، ثم استدارت نحوه.
عيناها كانتا دامعتين.
سارعت إلى مسح دموعها بظاهر يدها وقالت:
“آسفة، أيقظتك بسببي.”
“……”
كلوي، في الحقيقة… أنا دائمًا كنت مستيقظًا.
لم أخبرك فقط.
لأنك تكرهين أن تظهري بمظهر الضعف، وتريدين أن تخفيه حتى عني.
لأنك لو عرفتِ أنني أراك، فربما لم تحاولي من الأساس.
آلفين قال متعمّدًا بنبرة عادية:
“ولمَ تعتذرين؟ إنها غرفتك.”
“معك حق.”
“تعالي، لنستلقي قليلًا.”
أمسك بمعصمها ليُنهضها، ثم قرر أن يحملها مباشرة ويضعها على السرير.
وما إن صعد إلى السرير، ابتسمت كلوي بخجل وقالت:
“أنا حقًا سيئة، أليس كذلك؟ أنا أحاول، لكن لا أعلم لماذا لا أستطيع أن أنجح لست غبية.”
كان صوتها ضعيفًا على غير العادة، وكأنها تخجل مما تقوله وربما كان فيه بعض السخرية من النفس.
آلفين لامس خدّها بصمت، ثم سأل:
“هل يعرف أصدقاؤك؟”
“التوائم ؟”
“…أصدقاؤك توائم؟”
فضحكت بخفة لم يكن يعلم لماذا، لكنه كان سعيدًا برؤية تلك الابتسامة، فشاركها الضحك.
“هذا فقط لقب أطلقه عليهم على سبيل المزاح.”
هز آلفين رأسه قائلًا: “آه، فهمت.”
ثم أجابت متأخرة عن سؤاله:
“لم أخبرهم، لذا لا يعرفون لا فائدة من قول مثل هذه الأمور لكن أظن أن واحدة منهن قد تكون خمّنت فهي تملك حاسة قوية.”
بدأ آلفين يفهم، ولو قليلًا، لماذا لم تخبرهم.
لأنه هو نفسه لم يكن يعلم ماذا يقول لها الآن.
كان يتمنى من أعماقه أن يقول لها إنها ليست مضطرة للاستمرار، وإنه يمكنه إعالتها وحده.
لكنه يعلم أن هذا ليس ما تريده.
لا يمكنه أن يقول لشخص لا يزال يقاوم أن يتوقف.
وفي المقابل، لم يجرؤ أن يقول: “أنتِ قادرة، ستتغلبين.”
فقد يخشى أن تبدو تلك الكلمات قاسية، باردة.
كانت، على الأرجح، لا تريد أن تثقل على من حولها بهذه الهموم.
وكانت تعرف أن لا أحد يستطيع حل مشكلتها.
لذلك قضت العديد من الليالي المؤلمة بمفردها.
بعد تفكير، لامس آلفين تحت عينيها وقال:
“كلوي، أنا أيضًا… أريد أن أرى مسرحك.”
“……”
“ستمنحيني هذه الفرصة، أليس كذلك؟”
تابع بنبرة حنونة:
“الجميع رأوه… ألا يُعد هذا ظلمًا لحبيبك؟”
فابتسمت كلوي ابتسامة غامضة.
الكثير من الفنانين يجدون من الصعب أن يعرضوا مسرحهم أمام من يحبون.
صحيح أنهم سيدعمونهم دائمًا، لكنهم قادرون أيضًا على أن يكتشفوا كل تفاصيلهم.
أين كذبوا، وأين لم يستطيعوا إخفاء ضعفهم.
متى بكوا، ومتى فرحوا.
ولذلك فهم، من بين الجميع، كانوا أكثر النقّاد حدة.
لكنهم لا يتصرفون بهذه القسوة، لأنهم يضعون حياتهم قبل كل شيء، حتى قبل مسرحهم.
ومع ذلك، لم تُفكّر كلوي في هذا العمق، بل اكتفت بالابتسام، لأن آلفين قال بجديّة طفولية:
“بصراحة، أشعر بالغيرة… وكأنني الوحيد الذي لم يرَ عرضك.”
“…هل أنت طفل؟”
نجح آلفين في جعلها تبتسم، لكن ذلك لم يدم طويلًا.
فقالت بفتور وهي تعض شفتيها:
“لن يكون العرض رائعًا كما تتوقع.”
لم تكن هذه تواضعًا، ولا تشاؤمًا.
بل كانت تعبيرًا صادقًا عمّا تشعر به.
وإن لم يتقبلها الآخرون كما هي، فلن تتمكن من تطوير نفسها.
لكن آلفين هز رأسه وقال:
“أنا واثق أنك قدمت عروضًا رائعة أعرف ذلك دون أن أراها.”
“……”
“لأنك شخص رائع، ومن الطبيعي أن تصنعي عروضًا رائعة.”
نظرت إليه كلوي للحظة، ثم ضحكت كما لو أنها على وشك البكاء.
لطالما شعرت أنها محظوظة بهذا الحبيب الرائع.
ورغم أنها تأثرت بصدق مشاعره، إلا أنها تمسكت بعادتها في التصحيح أولًا:
“بداية، أنا لست شخصًا رائعًا… وثانيًا، ليس كل شخص رائع يصنع عروضًا رائعة وليس كل إنسان سيئ يصنع عروضًا تشبهه أتذكر عندما تكلمنا عن لوسيَن؟ أخبرتك حينها أن الأمور لا تسير بهذه البساطة.”
“……”
“هل تظن أن عالم المسرح مثالي إلى هذه الدرجة؟”
لم يكن كذلك.
في الحقيقة، آلفين لم يهتم كثيرًا بمستقبل المسرح في إديلين.
ما كان يعنيه هو كلوي، فقط.
وكونها مهتمة بذلك، هو ما جعله يهتم أيضًا.
لكنه لم ينكر شيئًا، بل رفع كتفيه كمن يوافق على ما قيل.
نظرت إليه كلوي بتحدٍّ، وكأنها تفكر: أي كلمات يمكنها تحطيم هذه الأحلام الورديّة؟
لكنها لم تستطع أن تبدأ بالكلام بسهولة، لا لأنها تفتقر إلى الأمثلة… بل لأنها كانت كثيرة، سيئة جدًا، لدرجة يصعب معها اختيار أحدها.
فما حدث معها من سرقة مخطوطاتها، بالمقارنة، كان يُعدّ أمرًا طريفًا.
وبينما كانت لا تزال تفكر، أشار لها آلفين بإيماءة مشجعة وكأنه يقول: “قولي ما عندك، لنرَ من سيفوز الليلة.”
تراجعت كلوي قليلًا من حدة الموقف، وتساءلت: ما هذا الجديّة؟ هل استيقظ من النوم غاضبًا؟
ثم تنهدت بابتسامة صغيرة، وبدأت بالكلام.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 48"