أودّ أن أتحدث عن قصة تختلف قليلاً عما سبق.
منذ أن وصلت إلى الجبهة، كنت أدوِّن المعلومات المستندة إلى الحقائق فقط ففي ذلك الوقت، كنت أظن أنني عاجزة تماماً عن كتابة شيءٍ عاطفي.
لكنني أعترف الآن، متأخرةً، أن ذلك لم يكن السبب الوحيد كما يقول المثل، “الطبع لا يمكن تغييره”، كنت أرغب في اختبار مدى قدرتي على السرد الموضوعي.
وفي النهاية، فشلت فشلاً ذريعاً.
لقد استخدمت الكثير من الألفاظ النابية، فلو كان لديّ ذرة من الضمير، لما ادعيت أنني كنت موضوعية.
أشعر بذلك بوضوح كلما راجعت ما كتبته سابقاً، فالعواطف التي كنت أكنّها آنذاك لا تزال تتخلل كل حرف.
لهذا السبب، أنا أكنّ احتراماً عميقاً للمؤرخين لكن حتى كتاباتهم لا يمكن أن تكون موضوعية تماماً.
ليس لأنهم عاجزون، بل لأن ذلك مستحيل منذ البداية حتى الجداول الزمنية البسيطة، التي لا تحتوي سوى على أرقام وسردٍ للوقائع، لا تخلو من الذاتية.
فمن بين مئات أو آلاف الأحداث، فإن اختيار ما هو “هام” يعتمد في النهاية على حكمٍ شخصي لماذا هذه المقدمة الطويلة؟
إنها إشارة إلى أنني، من الآن فصاعداً، سأروي القصة بوجهة نظري الصريحة، من دون تكلف صديقي الأقرب، الذي أحبه أكثر من أي شخص آخر، “أيه”، كان يردد كثيراً:
«لا تستخدم تلك القوة إن كانت تخالف إرادة الإله.»
ويبدو أن هذه الجملة تركت أثراً عميقاً في نفسه أما أنا، فأرى أن معرفة إرادة الإله أمر مستحيل.
فلو كنت أعرفها، لكنتُ إلهاً بنفسي وإن استطاع فردٌ عادي إدراكها، فلا تكون تلك إرادة إلهية حقيقية لذا فأنا أيضاً أكنّ الاحترام للكهنة.
لأنني أعلم جيداً كم هي مؤلمة حياة أولئك الذين يكرّسون أنفسهم لمجالٍ لن يستطيعوا الوصول إليه أبداً ولكنني لست مؤرخة ولا كاهنة.
لا أستطيع أن أستبعد ذاتيتي، ولا أملك قلباً يتّسع لقيمٍ متجاوزة للطبيعة البشرية لذلك، ما عليّ إلا أن أعيش وفق ضميري وإرادتي،
وأن أُصغي لآراء الآخرين، وأعترف دائماً بإمكانية أن أكون مخطئة، وأجتهد قدر استطاعتي لاتخاذ قراراتٍ أفضل.
- كلوي ليبيرتا، من خلف خط الدفاع الأخير في إيديلين.
***
استيقظت كلوي مبكراً في الصباح فقد اقترب موعد وصول المؤن من العاصمة وكان هذا اليوم هو الأكثر انشغالاً بالنسبة لها، كونها المسؤولة عن مستودعات القاعدة.
كان آلفين يراقبها وهي تُعدّل ملابسها ثم تذكّر فجأة أمراً مهماً رغم أنه لم يفترق عنها سوى ليوم واحد، إلا أنه انشغل باللقاء مع حبيبته ونسي تماماً أحد جنوده الذي كان ملقى خارج القاعدة.
قال:
“آه، كلوي.”
“نعم؟”
“هل يمكنني أن أطلب منك شيئاً؟”
شكّلت شفتيها على هيئة دائرة وأطلقت صوت “أوه”، فقد بدا لها غريباً أن يطلب منها شيئاً.
“ما الأمر؟”
أمسك بيدها بصمت وقادها إلى الخارج.
عندما خرج الاثنان من القاعدة، كان الحراس وفريق البحث يتجمهرون ويتحدثون بهمس وكان فابيان في وسطهم، يرتدي قميصاً ممزقاً، يشرح شيئاً بحماسة.
كان آلفين قد ذكر ذات مرة أن أفضل جنوده هم دوكرين، أليكس، وفابيان وكان محقاً فابيان، رغم أنه فقد وعيه دون أن يعرف حتى ما الذي يجري، بدأ بالكذب فور استيقاظه.
كانت قصته أنه هرب من القاعدة بسبب سوء المعاملة وعندما ظهر الشخص الذي كان يُفترض أنه يسيء إليه، بالغ في وصف الألم الذي تعرض له.
راقبت كلوي بطنه المغطاة بالكدمات الزرقاء، ثم نظرت إلى آلفين بتوجس وسألته:
“هل… أنت من ضربه؟”
“……”
لم يُجب آلفين، واكتفى بالنظر إلى الأفق وكان ذلك جواباً كافياً دفعت كلوي جانبه بمرفقها معاتبةً وقالت:
“ما كان عليك أن تُبالغ إلى هذا الحد كان بإمكانك فقط أن تحضره معك.”
قطّب آلفين حاجبيه وسأل:
“وهل كان ذلك مسموحاً؟”
“……”
“منذ متى أصبحت القاعدة متساهلة هكذا؟”
كان سؤاله حاداً بما فيه الكفاية ليجعل كلوي تفكر بجدية لكنها لم تتذكر متى بدأ هذا التساهل، فأخذت تهز رأسها في حيرة.
نصحت كلوي ماثيو بأن يُدخله فحسب، وماثيو – الذي بدا عليه التراخي هو الآخر – أومأ موافقاً.
نظر فابيان إلى آلفين بنظرة مليئة باللوم، ثم أخذ يختلس النظر إلى كلوي وبعد تردد، انحنت له قليلاً فقد كان من الواضح أنه أحد جنود آلفين ورغم أنها كانت تتعامل مع الجنود الآخرين كأصدقاء، إلا أنها كانت تشعر ببعض الحرج مع أولئك المخلصين له كانت تخشى أن يُظنّ بها أنها تتباهى بنفوذه.
انحنى فابيان بدوره، ثم أشار إلى كلوي قائلاً وهو يلمع بعينيه:
“آه… الحلم والأمل!”
رمشت كلوي بعينيها في ذهول، ثم همست لآلفين:
“ما الذي يقوله؟”
اكتفى آلفين بالابتسام وهو يُشيح بنظره عنها.
استغرق ترتيب المؤن يوماً كاملاً صحيح أن الجنود قاموا بحمل الأشياء الثقيلة، لكن تسجيل الكميات كان من مسؤولية كلوي وحدها وعادت إلى غرفتها متعبةً، ظهرها يؤلمها، وعيناها توشك أن تنفجر من الإرهاق.
كان آلفين قد استولى على الغرفة الخالية، وكان يقرأ دفتر مذكراتها لكنه لم يكن دفتر مذكرات، بل “قاموس الشتائم”وكان يضحك بهدوء بين الحين والآخر.
جلست كلوي أمام المكتب بوجه عابس، وهي تشعر بالحرج لكشفها الجانب الأسوأ من شخصيتها أمام حبيبها ثم فتحت رسالة من أندريا، وصلتها بعد مدة طويلة.
“ما هذا؟”
“رسالة.”
بدت على آلفين علامات الفضول وفكرت في أنها لم تخبره من قبل عن التوائم الثلاثة.أمسك بمعصمها وسحبها إلى السرير.
“اقرئيها هنا.”
“…سأقرأها وحدي.”
أن يُرى دفتر مذكراتها أو قاموس الشتائم أمر محرج، لكنه يحتمل أما أن يقرأ أحدهم رسالة كتبها شخص آخر، فذلك أمر مختلف.
لكن آلفين رفع يده مشيراً إلى لعبة حجر ورقة مقص.
وبعد قليل، كانت كلوي محاصرة بين ذراعيه، تقرأ الرسالة بوجه شاحب كانت قد حذرته من الضحك، لكن الارتجاف الخفيف في ذراعه كشف عن عكس ذلك.
ومع ذلك، لم تمضِ ثوانٍ حتى اختفى كل أثر للابتسامة عن وجهه كانت الجملة الأولى في الرسالة صادمة.
انتقل آلفين بعينيه مباشرة إلى السطر الأخير… وكانت تلك الجملة أيضاً مشكلة.
ضحك للحظة من شدّة ذهوله، ثم سأل:
“هل هذا الاسم شائع لدى النساء في إيديلين؟”
“……”
بعد أن تأكد تماماً، بدأ يسأل بجدية:
“من هذا الشخص، ولماذا هذه الأوصاف كلها؟”
قالت كلوي:
“آلفين، الحب له أشكال كثيرة هناك حب بين الوالدين والأبناء، وحب بين العشّاق، وحب بين الأصدقاء لكن نظراً لمحدودية اللغة، فإننا نعبّر عن كل هذه المشاعر المختلفة بالكلمة ذاتها.”
واصلت حديثها بطلاقة، لكن آلفين هزّ رأسه ببرود.
“آسف، لكن لا أملك صديقة من الجنس الآخر تتحدث بهذه الطريقة.”
يا له من رجل تقليدي وعائلي حقاً.
لكن كلوي وافقته في سرّها فقد شعرت أنها كانت ستنزعج بدورها، لو أن إحدى صديقاته المقربات قالت له “أحبك”.
وهكذا، يبدو أنه لا يجب التوقف عن محاولة فهم الآخرين بوضع النفس مكانهم.
وبينما كانت تحكّ رأسها بتذمر، فكّرت: “أندريا لا يساعد أبداً”، ثم قالت:
“إنه مجرد صديق، حقاً إنه ممثل، لذا تعبيراته دائماً مبالغ فيها لو زعل، يعاملني وكأنني قتلت والديه! وهو يعرف أن لديّ حبيب.”
كانت تقول الحقيقة، ولم تكن تعني شيئاً خاصاً.
لكن آلفين بدا متفاجئاً خفّت حدّة مزاجه فجأة.
“…هل تحدّثتِ عني مع أصدقائك؟”
“هاه؟ آه، نعم لكن لم أذكر الكثير من التفاصيل فكل الرسائل التي تمر عبر الجبهة يتم فحصها.”
حاولت كلوي أن تشرح له خشية أن يسيء الفهم لكن آلفين لم يُظهر انزعاجاً بل على العكس، بدا سعيداً.
قال وهو يبتسم:
“المهم أنك تحدّثتِ عني لأصدقائك.”
“…وهل هذا يُسعدك؟”
لم يُجب، لكن تعبير وجهه أوصل المعنى بوضوح أخذ الرسالة من يدها ووضعها على المكتب، ثم احتضنها واستلقى بها على السرير.
وبينما هو يُبعد شعرها الذي كاد يلامس كتفها خلف أذنها، سأل:
“هل لديك الكثير من الأصدقاء؟”
“لا ، لدي فقط ثلاثة أصدقاء مقرّبين.”
عاشت حياتها في قبو، لا تخرج إلا للعمل أما الأصدقاء الذين كان لديها، فقد ابتعدوا واحداً تلو الآخر.
“عرّفيني عليهم يوماً ما.”
“همم…”
“لماذا؟ لا ترغبين بذلك؟”
عندما ترددت كلوي بصوت مبهم، مال آلفين برأسه قليلاً قالت، وكأن الموقف محرج جداً لها:
“لا، ليس لأني لا أرغب لكن حالتهم… غريبة بعض الشيء.”
“……”
“لنقل إنهم أصدقاء لا يمكنني أن أفتخر بهم أمام الآخرين.”
لم يفهم آلفين تماماً، فأوضحت له:
“فكّر فيهم كنسخٍ مطوّرة مني.”
لو سمعهم التوائم الثلاثة لثاروا غضباً من الظلم فهم دائماً ما كانوا يتشاجرون حول من الأغرب فيهم، ويقولون إنها الأغرب بينهم حتى بنجامين كان يشاركهم الجدال بجدية.
لكن من وجهة نظر من يرتاد الصالونات، كانوا يُرون دائماً كأنهم رباعيات متطابقة.
ضحك آلفين من أعماق قلبه، إذ بدا له الأمر مثيراً للاهتمام أكثر.
من الجميل والمثير للدهشة، أن يُصبح المرء مهتماً بأشخاص آخرين فقط لأنهم مقرّبون من شخص يحبه.
“لأنك إنسانة رائعة لهذه الدرجة، فحتى من تهتمين بهم يُصبحون موضع إعجاب.”
قال آلفين وهو يبتسم:
“كلوي، هل يمكنني أن أطلب منك شيئاً آخر؟”
ما هذا اليوم العجيب؟ طلبان في يوم واحد؟
“ما الأمر؟”
“هل يمكنك أن تعيريني مطرقة… وربما إزميلاً أيضاً، إن وجد؟”
نظرت كلوي إلى الباب بنظرة متحيّرة فقد سبق لآلفين أن طلب منها مطرقة حينها، فكّك مقبض باب من بيت مهجور وثبّته على باب غرفتها.
لكن القفل الحالي كان متيناً، فضلاً عن أن آلفين كان يقيم في غرفتها معظم الأيام ومن أصله، لم يكن هناك أحد يجرؤ على الدخول.
“أأنت… لا تنوي تهشيم جبهة أحدهم بهذه الأدوات، أليس كذلك؟”
“……”
“آسفة، كنت أمزح.”
رغم محاولتها تدارك الموقف، ردّ عليها آلفين قائلاً:
“كلوي.”
“نعم؟”
“لتهشيم جبهة أحدهم… لا أحتاج إلى مطرقة.”
“……”
“وأنا أيضاً كنت أمزح.”
وهكذا، ووسط هذه الدعابات التي تحمل شيئاً من القسوة الممزوجة بالحلاوة، استمر همسهما حتى غلبهما النعاس.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 47"