آلفين وفابيان شقّا طريقهما عبر سهل إيدلين راكضَين نحو القاعدة في البداية، تَقدّم أحدهما وتراجع الآخر بالتناوب، لكن فابيان ما لبث أن استسلم، مكتفيًا بأن يضغط على أسنانه كي لا يتخلف تمامًا فقد كان القائد يركض كما لو كان يتحدى أقصى حدود الإنسان.
(هل القاعدة بعيدة إلى هذا الحد؟)
في الحقيقة، كان آلفين يسرع الخطى كثيرًا كان من الصعب التسلل إلى القاعدة في وضح النهار، بل يكاد يكون مستحيلًا.
فأهل القاعدة ليسوا من محبّي النوم في الصباح ومع حلول ذلك الوقت، يكثر من يراقب كانت عشيقته غالبًا ما تسهر ولا تنم جيدًا، ومع ذلك، كانت تتفقد عنابر المرضى بوجه متجهم مع بزوغ الصباح.
لكن شيئًا ما أوقف خطوات الرجلين اللذين لم يتوقفا عن الركض قرابة ثلاثين منزلًا متجمعة في قرية صغيرة، حيث دوّت طلقات نارية وصرخات حادة.
فهم آلفين الوضع على الفور كانت عصابة من اللصوص تهاجم القرية لكن اضطرابات المناطق الحدودية في زمن الحرب لم تكن حكرًا على إيدلين فقط فابيان، وقد أدرك الموقف، تحدث إلى القائد بحذر:
“جلالتك، هؤلاء من أهل إيدلين دعنا نترك لهم أمر التعامل مع ذلك بأنفسهم.”
صمت آلفين لبرهة، وذهب يراقب الموقف بعينين ضيقتين دون أن يتفوه بكلمة كان اللصوص، الذين لطخوا وجوههم بالسواد تحت ذريعة التمويه، ينهبون الطعام من البيوت ولم يكتفوا بذلك، بل جرّوا صبيًا صغيرًا ووالدته إلى الخارج وعندما دفع أحدهم المرأة بعنف وأسند يده الخشنة نحو خصره، تنهد آلفين وأمسك بسلاحه.
ضغط على الزناد وبدأ يمشي بخطى ثقيلة وبينما كان يبحث عن هدفه التالي، قال لفابيان الذي بدا عليه الذهول:
“إن لم ترق لك، يمكنك البقاء هنا لن يأخذ وقتًا طويلًا.”
على ما يبدو، لن يتمكن من العودة إلى القاعدة الليلة.
لن يستطيع الوفاء بوعده بعدم المبيت خارج القاعدة ومع ذلك، أطلق زفيرًا من بين شفتيه فقد تذكر كيف اشتكت قنفذته من ذلك الأمر بابتسامة مصطنعة أمام قائد وحدة مجاورة قائلة: “نعم، أنا شخص بهذه الحقارة.” من المشكوك فيه أن يكون أحد قد خاف من مزاجها ذاك.
في تلك الأثناء، ارتسمت على وجه فابيان ملامح معقدة إثر كلام آلفين إذ كيف يمكن للجندي التابع أن يقف متفرجًا بينما القائد يشهر سلاحه؟
في بعض الأحيان، هناك من قدامى المحاربين من يستمتعون بالقتال كما لو كان تسلية هناك مختلون يصرّون على اعتبار المعركة “صيدهم الخاص” ولا يقبلون تدخّل أحد لكن القائد لم يكن من ذلك النوع.
تردّد فابيان قليلًا، ثم اتخذ وضعية إطلاق النار مغطّيًا القائد.
“جلالتك، هل لديكم معرفة بأحد من هذه القرية؟”
“أجل.”
“من هو؟”
“مدنيّ من دولة معادية.”
ضحك آلفين ساخرًا من نفسه وهو يجيب، ثم فكّر جديًّا أن عليه أن يتقاعد بعد هذه المهمة كلوي كانت تقول أحيانًا إنه حان وقت إجراء فحص لمعتقداته والآن، بدا أن ذلك لم يكن مزاحًا على ما يبدو، سكان القاعدة قد غرسوا فيه عادات لا فكاك منها.
بدأ الجنديان فقط بتطهير القرية من المعتدين لم يكن لدى عصابة اللصوص، التي لم تتلقَ تدريبًا عسكريًا من قبل، أي فرصة ضد قوات النخبة.
لكن كان هناك عقبة بسيطة نفدت الذخيرة سريعًا.
دون تردد، وثب آلفين على إطار نافذة وصعد إلى السطح وقد أدركت العصابة وجود مهاجمين، فشرعوا في تفتيش القرية بترقّب كان آلفين ملتصقًا بالسقف، يراقبهم، ثم قفز فجأة هاجم أحد الرجال بمؤخرة بندقيته وانتزع السلاح منه كل تلك الحركات جرت بسلاسة كأنها جزء من نهر جارٍ.
وكان وضع فابيان مشابهًا لم يكن في وضعية تأهب خاصة، بل كان يضغط على الزناد بشكل آلي وخلال ذلك، سقط قرابة نصف اللصوص ومع ذلك، لم يكن المعتدون قد أدركوا حتى من هو عدوهم، ولا عددهم.
حينها، صرخ رجل كثيف اللحية بدا وكأنه زعيمهم:
“انسحبوا!”
“القائد! والغنائم؟!”
“انسحبوا الآن! لنعد ترتيب صفوفنا ونعود لاحقًا!”
ضحك آلفين ساخرًا حين سمع ذلك.
(وكيف تظن أنك ستعود؟)
ثم قفز بقوة وجلس مائلًا على سطح المنزل، فتكشفت له القرية كاملة كان الشباب القليلون المتبقون في القرية مرميين أرضًا، على الأرجح قُتلوا وهم يحاولون حماية النساء والعجزة الأطفال كانوا يتشبثون بالجثث باكين كما لو أن العالم انتهى.
هؤلاء من إيدلين ليسوا حملانًا بريئة في حضن بيتشاركه ومع ذلك، توجّه آلفين بالدعاء إلى الإله:
“حيث لا تصل يد العدالة، فلتصل مطرقتك ولمن لا تحميهم رصاصاتي، أرسل نيرانك.”
ثم تمتم وهو يحدّق في العصابة التي ابتعدت حتى باتت نقطة في الأفق:
“يا بيتشاركه، أنزل عليهم عقابك.”
ظهر في السماء رمز كنيزك، لامعًا أبيض كمذنب، كما لو أن صاعقة نزلت على قمة برج، موجهة مباشرة نحو اللصوص.
ذهب أهل القرية البسطاء يتهامسون، عاجزين عن فهم ما حدث حتى الأطفال توقفوا عن البكاء لوهلة، يحدّقون بدهشة في الأرض التي التهمتها النيران.
فابيان، الذي كان يشهد استخدام القائد للسحر لأول مرة، بلع ريقه بقلق كان يقف تحت السطح، يحدّق إلى آلفين، يتردد في الحديث.
لكن آلفين كان هادئًا كان يحدّق ببساطة في اللهب المتصاعد في السماء، متأملًا.
اشتعلت النيران طويلاً ثم خمدت تدريجيًا وما إن عادت السماء إلى عتمتها، حتى وقف آلفين ووثب من السقف.
تقدّم بخطى ثقيلة نحو أحد اللصوص الذي كان قد ضربه بمؤخرة البندقية أثناء القتال وبعد أن قيّده، بدأ سكان القرية المترددون يقتربون نظر إليهم آلفين بطرف عينه، ثم قال لفابيان:
“حين يُشرق الصباح، سلّمه إلى الوحدة القريبة وقل لهم ذلك.”
“نعم، حاضر.”
في الحقيقة، رغب آلفين في أن ينصحهم بالانتقال إلى مكان أقرب للعاصمة لكن، مثل كل من التقى بهم في الجبهة الثانية، لن يصغوا على الأرجح. تنهد وقال:
“إن لم يجدوا ما يأكلونه، فليأتوا إلى قاعدة ويلينغتون الطبية سنمنحهم بعض الطعام لبضعة أيام.”
عندها، ارتسمت على وجه فابيان، الذي كان دوماً متحفظًا، تعابير مترددة.
“…من الأفضل أن يقول جلالتك ذلك فأنا حتى لا أعرف أين تقع القاعدة بالضبط.”
“كسول. أنت قُلها.”
أبدى فابيان تعبيرًا أكثر ارتباكًا (لشخص كسول، لقد بعثر الأمور أكثر من اللازم). لكن آلفين لم يشأ متابعة الحديث، فاستدار مبتعدًا.
أخيرًا، جرّ فابيان اللص القوي وقدّمه إلى سكان القرية ولما شرح لهم عن قاعدة لا يعرف موقعها بدقة، بدا أنهم يعرفونها مسبقًا.
كل ما فعله هو تحريك عضلاته قليلًا، لكنه تلقّى عشرات الشكرات، وردّها بعشرات “لا، لا بأس” وكان وجهه عابسًا حين عاد لم يكن أحد في الكتيبة معتادًا على مثل هذه المواقف المحرجة.ج حتى القائد نفسه وجدها مزعجة، لذا فوّض الأمر إليه ورغم انزعاجه، لم يجرؤ فابيان على الاعتراض علنًا.
وبدلًا من ذلك، سأل عن أمر كان يدور في ذهنه منذ فترة:
“جلالتك، إن حصلت على موقع ولي عهد إيدلين، ما الذي تنوي فعله؟”
(هل ستحرقه بالنار؟) فالسحر الناري الذي رأه تواً كان أضيق نطاقًا من ذلك الذي استخدمه ساحر الأمير الأول، لكنه كان أكثر بروزًا وسطوعًا.
نظر إليه آلفين مطولًا ثم أجاب:
“ما زلت أفكر.”
وارتسمت على شفتيه الأرستقراطيتين ابتسامة مبهمة.
ثم واصل الاثنان السير من جديد لكن، وكما هو متوقع، لم يعودا إلى القاعدة مباشرة، إذ أن الوقت قد فات كثيرًا.
انتظرا بالقرب من القلعة، يقضيان الوقت بملل لم يتناولا شيئًا طوال اليوم، ومع ذلك، لم يهتما فالصيام لأيام أثناء تنفيذ المهام أمر معتاد بين الجنود.
ومع انقضاء الوقت، أقبل المساء وحينها، وبعد صمت طويل، تكلم آلفين:
“فابيان.”
“نعم، جلالتكم.”
“عليّ أن أعتذر لك.”
“عذرًا؟”
كانت تلك الكلمات أكثر إثارة للقلق أعاد فابيان سؤاله بقلق، فقال آلفين بهدوء:
“لقد شككت بك، هذا صحيح.”
“…أجل.”
“كنت أظن أن ديريك هو الجاسوس، لكن لم أستطع استبعاد احتمال أنه سرّب المعلومات للجنود، سواء عن قصد أو دون قصد.”
“…لا بأس.”
شعر فابيان بشيء من الألم في قلبه، لكنه تفهّم فالقائد دائمًا ما يكون حذرًا وحذقًا في كلامه.
لكن، كما يبدو، لم يكن الحديث قد انتهى بعد، إذ قال آلفين وهو يحدق به:
“وعليّ أن أعتذر مسبقًا عن أمر آخر.”
ثم غرز قبضته بلا رحمة في بطن فابيان، الذي أطلق شهقة وسقط مغمى عليه من المرجح أن تظهر كدمة زرقاء في غضون ساعة أو ساعتين.
مزّق آلفين جزءًا من ثيابه ليظهر الأثر، ثم وضعه بالقرب من القاعدة.
“هكذا، ستخفّ الشكوك هذا لأجلك نراك لاحقًا.”
حتى ديوكرين، وأليكس، بل والقائد نفسه، دخلوا القاعدة بعد إصابتهم برصاص، فبهذا المقياس، لقد كان فابيان محظوظًا.
***
كانت قاعدة ويلينغتون الطبية تنعم بالهدوء لكن قلب شخص واحد لم يكن هادئًا على مدار اليوم، وهي كلوي والسبب غياب آلفين.
في الواقع، كانت كلوي تعلم أنه خرج قبل بضعة أيام أيضًا كانت تنام نومًا خفيفًا، وغالبًا ما لا تنام جيدًا ليلًا ورغم أنها كانت نائمة حين خرج من المبنى، إلا أنها استيقظت بقدر ضئيل حين عاد من النافذة في الفجر مرّر يده على شعرها وهمس قائلاً: “لقد عدت.”
في تلك اللحظة، شعرت كلوي بشيء مريب فقد كانت متأكدة أنها أقفلت الباب والنافذة قبل النوم والباب ظلّ مغلقًا، لكنه دخل من النافذة.
(لقد خرج سرًا إلى مكان ما.)
هل كان ينبغي أن تمسك به في الحال وتسأله؟ أن تستجوبه عن ما يفعله في الليل؟
وفي صباح اليوم التالي، حين استيقظت ولم تجده إلى جانبها، ذهبت مباشرة إلى مقر بيتسمارك لكنه لم يكن هناك فتشت في أرجاء القلعة، لكنها لم تجد حتى ظله.
كانت الوحيدة التي شعرت بالقلق أما باقي أفراد القاعدة، فلم يلاحظوا حتى غيابه فقد ظنوا أنه قضى الليلة في غرفتها كالعادة.
(أين يمكن أن يكون؟)
اسودّ وجه كلوي من القلق والتوتر تدفقت الأفكار في رأسها بلا توقف.
آلفين ظلّ يطلب منها أن تبقى معه، لكنها كانت تعرف أن وضعه لا يسمح له بذلك لذا، فكرت:
(هل يمكن أن يكون قد غادر دون وداع؟)
لكنها هزت رأسها لم يكن شخصًا قاسيًا إلى هذا الحد كان يعرف ما تعنيه الثقة بين الأحبة.
(إذن… هل حصل له مكروه أثناء خروجه؟)
إن كان كذلك، فالأمر خطير لكن، حتى وإن كان، ما الذي يمكنها فعله؟ هل تذهب وتخبر الناس أنه خرج من القاعدة؟ تطلب من ماثيو أن يُرسل فريق بحث لأن آلفين لم يعد؟
(ماذا علي أن أفعل؟)
فكرت بصدق أن يكون قد غادر دون وداع سيكون أفضل من أن يكون قد أصابه مكروه لا بأس، فقط ليكن بخير.
ظلّت تبحث عنه حتى المساء، ثم غطّت وجهها بيديها وخرج صوتها مخنوقًا بالحزن والقلق والعجز:
“قال إنه لن يبيت خارجًا… يا لك من وغد…”
في تلك اللحظة، سمعت صوتًا مألوفًا عند نافذتها صوت الطرق كانت قد فتحت كل الأقفال في انتظار عودته، بل حتى لم تُغلق الباب، لكنه مع ذلك أرسل إشارة.
(حقًا… أي نوع من البشر أنت؟) فكرت كلوي، ثم رفعت رأسها وحدّقت نحو النافذة بنظرة مشحونة باللوم لكنها ما لبثت أن شحب وجهها.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 45"