حين وصل آلفين إلى محيط معبد الآلهة المهجور في إديلينا، كان الغابة تغرق في سكون مطبق وعلى غير عادته، شق آلفين طريقه عبر وسطها بخطى ثابتة وصلبة.
عندها بدأت تتعالى أصوات من هنا وهناك، معظمها من فوق الأشجار، بنبرة تكاد تكون مفعمة بالترحيب:
“حضرت، سيدي الدوق!”
“هل عدت سالمًا؟”
قطب آلفين جبينه وقال:
“كفوا عن هذا الضجيج وخذوا مواقعكم.”
لم يكن استدعاء آلفين لقادة وحدته واحدًا تلو الآخر فقط من أجل التحقق، بل أراد منهم أن يحددوا مواضع الكمائن مسبقًا فهذه الأرض لم تكن مألوفة لعناصر وحدته.
سار آلفين ببطء على أطراف المنطقة، ثم أشار فجأة إلى نقطة محددة بعد ذلك، رفع سبابته نحو الأعلى وهو يومئ بإيماءة صغيرة.
أحد الجنود، الذي كان يختبئ بين أوراق الشجر، فهم الإشارة وارتسمت على وجهه ملامح الاستياء كانت تلك إشارة تعني: “أراك، ارتفع أكثر.” وإذ تأخر في التحرك، عبس آلفين، فارتبك الجندي وصعد الشجرة وهو يلهث.
بعد أن أنهى آلفين جولته النهائية من التفقد، قال:
“لا تبادروا بالهجوم قد يظهر ساحر ولي العهد الأول لا يجب أن نكشف مواقعنا حتى ينفد سحره.”
“أمرٌ مطاع، سيدي.”
“إشارة الهجوم ستكون عند بدءي القنص لا مجال للخطأ، واضح؟”
“نعم، سيدي!”
أومأ آلفين برأسه إيماءة قصيرة، ثم تسلل هو أيضًا إلى بين الأعشاب الكثيفة كانت الأرض رطبة بسبب بداية موسم الأمطار.
لم تغب أصوات طائر الوقواق عن سماء الليل بدا وجه آلفين هادئًا، إلا أن الأرض كانت أرض العدو، وأجساد جنوده كانت مشدودة إلى أقصى حدودها مع ذلك، ظلوا يسيطرون على أنفاسهم، ويكبتون نوايا القتل، كي لا يشعر أحد بوجودهم.
وعندما كانت عيونهم قد صارت كحد السيوف المصقولة، شعروا بحركة قادمة من بعيد.
في الظلام، تعمل الحواس السمعية أكثر من البصرية الضيوف الذين دعاهم آلفين لم يفلحوا في إخفاء وقع أقدامهم ولم يكن ذلك فقط ضعفًا في مهاراتهم، بل بدا وكأنهم لا يستطيعون التحرك بخفة فابتسم آلفين بسخرية:
(أحضر معهم عددًا لا بأس به بذلوا جهدًا كبيرًا، أرى.)
ربما هذا هو العدد الأقصى الذي استطاعوا إدخاله إلى أرض إديلينا دون اكتشاف ومع ذلك، كان هذا العدد ضئيلاً مقارنةً بالقوة التي هاجمت قاعدة ولينغتون الطبية في المرة السابقة.
لهذا السبب بالذات دعاهم آلفين إلى هذا المكان قد يبدو أن ساحة المعركة في قلب أراضي العدو تشكل خطرًا على الطرفين، لكنها في الحقيقة لم تكن كذلك فرجاله وإن كانوا قلّة، إلا أنهم لا يُهزمون في قتال فردي ناهيك عن أنهم قد نصبوا كمينًا مسبقًا.
حينها، سمع صوتًا مألوفًا، كان صوت ديريك:
“اتفقنا أن نلتقي في الطابق السفلي من ذاك المبنى.”
ارتفع طرف فم آلفين للحظة، ثم ضيّق عينيه مراقبًا القادمين، يبحث عن الساحر الناري.
وسرعان ما بدت عليه ملامح الدهشة.
آلفين، بصفته قائدًا لوحدة استخبارات سرية، كان يعرف مواصفات ساحر ولي العهد الأول لكن ما إن رآه حتى اتضح أنه قد أصبح هرمًا جدًا.
بعدها أخذ الساحر نفسًا عميقًا، ورفع يديه إلى صدره وفجأة، ظهر وميض في السماء كالعلامة، ثم سقطت ألسنة اللهب وسط معبد إديلينا المهجور.
إلا أن سحره، مثل جسده الهرِم، لم يكن كما كان في السابق اشتعل المبنى بالنيران لكنه لم ينهَر، مما دفع ديريك للقول بوجه متوتر:
“أيها الساحر، هذا لا يكفي إن كان القائد هناك، فبإمكانه النجاة بسهولة.”
وبدا أن فرقة ولي العهد الأول تشاطره الرأي، إذ رمقوا الساحر بنظراتهم أومأ الساحر برأسه مرة أخرى، ورفع يديه ثانية.
وانفجر اللهب بأشد مما سبق استجمع الساحر ما تبقى له من قوة، وأطلق تعويذة نارية أخيرة ثم سقط على ركبتيه، وكأنه استنفد كل طاقته وبدأ المبنى، الذي صمد لقرون، ينهار مع دويّ عظيم.
ورغم أن آلفين هو من استدرجهم إلى هذا المكان، لم يستطع منع نفسه من التذمر تذكّر وجه عشيقته التي لا بد أن تبدو غاضبة الآن بعد أن أُحرِق إرثٌ ثقافي لدولة أخرى لحسن الحظ أنه نقل الكتب التي كانت تعتز بها مسبقًا.
(على كل حال، لم أكن أنا من هدم المبنى بيدي ثم إن ما تحبه كلوي هو الكتب، لا البناء نفسه.)
ابتسم آلفين بصمت، ثم وجه فوهة بندقيته.
ومن تلك اللحظة، اختفت التعابير من وجهه.
طلقة!
ربما غطى صوت انهيار المبنى على صوت الرصاص، فلم يكن عاليًا كما توقع سحب آلفين الزناد مرة أخرى.
كان هدفه كتفي الساحر احتياطًا لأي احتمال فقد لاحظ أنه يرفع يديه في كل مرة يستخدم فيها السحر، سواء كان ذلك عادة أو أمرًا ذا دلالة.
وبإشارة من القائد، بدأ الجنود إطلاق النار جميعًا.
دخلت فرقة ولي العهد الأول في حالة ارتباك، لكنهم كانوا جنودًا مدرّبين احتموا خلف الصخور والأشجار وبدأوا بإطلاق النار.
لكنهم لم يعرفوا أين يصوبون فالرصاص العشوائي بلا هدف لا يحدث فرقًا كبيرًا أما جنود الوحدة الخاصة فكانوا يصوبون بدقة إلى القلب أو منتصف الجبهة، دون إطلاق رصاصة واحدة بلا جدوى.
وحين سقط أكثر من نصف قوة العدو، بدأ البقية بالفرار فنهض آلفين من بين الأعشاب وصرخ:
“لا تتركوا أحدًا حيًا سوى ديريك والساحر!”
عندها اندفع الجنود المختبئون كالصواعق أطلق آلفين بضع طلقات على ظهور الفارين، ثم نظر إلى نقطة معينة.
كان ديريك يزحف على الأرض بعدما أصيب في ساقه وبينما كان آلفين يراقبه بصمت، اقترب أليكس ووجه سلاحه إلى ذراعي ديريك بوجه بارد.
ترك آلفين ديريك مرميًا في الوحل، واتجه إلى الساحر أمسك بكتفيه النحيلتين وقلبه بعنف فتجلّت ملامح وجه شاحب مشوه جلده مليء بالبقع كجلد شيخ طاعن.
(هذا لم يكن وجهه، ولا يبدو وكأنه في سنه الحقيقي.)
قال آلفين ببرود:
“أنت… قد لُعِنت.”
“أ-أرجوك… دعني أعيش…”
لم يكن آلفين ينوي الإبقاء عليه، لكنه شعر أنه حتى لو فعل، فلن يعيش طويلًا من وجهه الذي بدأ السواد ينتشر فيه، شمّ آلفين رائحة مألوفة: رائحة الموت.
“لو لم تستخدم سحرك ضد جنودنا، لما وصلت إلى هذا الحال كان عليك أن تتوقف حين بدأت تشك.”
“صاحب السمو…”
(أها، تعلم من أنا؟ وتريد قتلي؟ مضحك.) لم يشأ آلفين أن يُطيل الحديث، فأجاب ساخرًا:
“ثم، أنت تستمد قوتك من الإله، فهل من الصواب أن تُدمّر معبدًا لإله آخر؟”
كان دوكرين وفابيان، الواقفين خلفه، يتبادلان النظرات رغم أنهما تابعان للقائد، كان عليهما الاعتراف أن من دعاهم إلى هذا المبنى هو آلفين نفسه.
أما الساحر، فقد شعر منذ انهيار المعبد بغليان دمائه كان صدمة مختلفة تمامًا عما سبق وكأن الوعاء الذي يحمل فيه المانا قد تحطم بالكامل.
“بقوة الإله، قتلت رفاقك، وقتلت من يعبد إلهًا آخر، وحتى من يعبد نفس الإله إن عارض الحرب… أي إله سيحبك؟”
آلفين، الذي فكّر ساخرًا (حتى لو كنت إلهًا، سأحب قنفذي أكثر منك)، ابتسم بلا قصد.
وهو يواصل كلامه دون نية خاصة، بدأ يدرك بشكل غامض لماذا نال جده الأكبر لعنة.
كان دوق فلير السابق هو من قاد تجمع سحرة اللهب ورغم أن التاريخ لم يسجل التفاصيل، إلا أن آلفين يستطيع أن يتخيل كم كانت الوسائل المستخدمة قاسية وما حدث تحت المعبد المنهار هنا لا بد أنه تكرر في بيتسمارك أيضًا.
ارتجّت عينا الساحر وكان يحدّق بآلفين كأنه يتمسك بآخر أمل بدا كمن يسأل: “ما الذي علي فعله إذًا؟” لكن آلفين خيّب ظنه:
“في الحقيقة، لا أعرف إن كنت على حق كيف لي أن أفهم إرادة الإله؟”
“صاحب السمو… أرجوك، ارحمني…”
لكن عيني آلفين الزرقاوين لم تكن فيهما شفقة، بل برودة قاتلة.
“من أجل الجنود الذين وثقوا بالعائلة الملكية حتى الرمق الأخير، ثم تم التخلي عنهم، لا يمكنني أن أبقيك حيًا.”
“……”
“واسترداد شرفهم يقتضي أن أحرقك حيًا لكنني لا زلت أحتاج إلى قوتي فاعتبر هذه النهاية موتًا جيدًا.”
أمسك آلفين برأسه بيد واحدة، وكسر عنقه.
وهكذا انتهى الساحر الوحيد المعروف في بيتسمارك، نهاية باهتة في أرض غريبة.
دوكرين وفابيان بقيا خلف القائد بصمت، بينما اقترب أليكس مسرعًا ليقدم تقريرًا مؤقتًا.
“سيدي، تم تطهير معظمهم بقي شخص واحد يفرّ، ولكن رجالنا في إثره، ولن يطول الأمر.”
“حسنًا أخبرهم أن ينتبهوا لا تنس أننا في أرض إديلين.”
“أمرٌ مطاع، سيدي.”
“ولو بدا الأمر خطيرًا، فليتركوا واحدًا أو اثنين لا بأس.”
فبهذا المستوى، من شبه المستحيل أن يعود إلى جيش ولي العهد الأول وحتى إن عاد، فلن يشكل خطرًا فآلفين لم يستدعِ جيش ولي العهد، بل رجاله فقط هم من جاؤوا يلاحقونه حتى هنا.
لكن بينما كان هذا ما يقصده آلفين، بدا على وجه أليكس بعض التوتر فقد كان شاهدًا على الخطة بأكملها، منذ أن بدأ القائد بترتيب المصيدة للقبض على الخائن بل ولم يعلم أن القائد وضعه هو أيضًا في دائرة الشبهات إلا لاحقًا، رغم أنه كان ملازمًا له طوال الوقت في القاعدة.
تساءل أليكس في نفسه إن كان هذا اختبارًا آخر، فوقف مستقيمًا وهتف:
“لا، سيدي! سنقتل حتى آخر واحد منهم!”
وعلى غير العادة، ابتسم آلفين وربت على كتفه ثم أدار عينيه الزرقاوين نحو المكان الذي أجّله مؤقتًا.
فقد حان وقت لقاء الخائن.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 43"