أليكس كان في كمين منذ عدة أيام كان ذلك أمرًا اعتياديًّا جدًّا لأفراد القوات الخاصة غير أن هناك أمرًا غير مألوف المكان الذي كان يختبئ فيه لم يكن سوى وحدته العسكرية نفسها.
كان أليكس واثقًا من أمرٍ واحد، أنه منذ تأسيس الوحدة، لا أحد غيره قد قام بمثل هذا الأمر في فنائه الخلفي.
كان يتثاءب فوق الشجرة عندما أشعل سيجارة باستخدام قداحة كان ذلك مخالفًا لقواعد الكمين، لكنه لم يعد قادرًا على تحمّل الملل.
لكن لم يمض وقت طويل حتى اضطر أليكس إلى إطفاء الجمر بيده ذلك لأن شخصًا ما اقترب من أسفل المكان الذي كان يختبئ فيه.
“آه، ساخن، ساخن…”
كان أليكس يئن في داخله بينما يبلّل إصبعيه بالإلعاب، ثم ذهب يحدّق نحو الأسفل كان وجهًا قد رآه في وضح النهار أيضًا ذلك الشخص أخرج سيجارة من صدره تمامًا مثل أليكس، وأشعلها بقداحته فصعد الدخان الخافت والرائحة النفاذة حتى وصلت إلى قمة الشجرة.
تساءل أليكس في نفسه عمّا كان يفكر فيه ذلك الشخص الآن زفر زفرة عميقة وهو ينظر إلى السماء الليلية، ثم داس السيجارة بحذائه العسكري.
وحين غادر الشخص المكان متجهًا نحو خارج الوحدة، أومضت عينا أليكس وهو يتبعه في الخفاء لو لم تكن هناك أوامر خاصة من القائد، لما بدا الأمر غريبًا على الإطلاق ومع أنه كان يشكّ في البداية، إلا أنه توقف فجأة مختبئًا في الظلام لم يكن بحاجة إلى المزيد من التحقق أو التتبع.
“ذلك الوغد، حقًّا…”
كان قصر فيتسمارك الملكي أمام ناظريه فعاد على الفور إلى وحدته وجمع الأفراد.
***
منذ بداية حرب إديلين الثالثة، لم يشعر الأمير الأول بالارتياح ولو ليوم واحد واليوم لم يكن استثناءً.
كان أخوه الأصغر لأمه لا يملّ من التملق والكلام المعسول كل يوم، حتى إن لسانه لا يكاد يهدأ، وكأنه يطير في الهواء من كثرة ما يتكلم، خاصة حين لا يكون الملك حاضرًا في الاجتماعات.
“هل لي أن أقدّم لك نصيحة يا أخي الكريم؟”
ومع ذلك، فقد أبعد الأمير الثاني النبلاء وقادة الجيش، وكأنه يراعي مكانة الأمير الأول ولا حاجة لذكر مدى استفزازه بتلك اللطافة الزائفة.
“جلالته، منذ البداية، لم يكن ينوي التنازل لك عن العرش ولو كان ذلك في نيته، لأعلن تنصيبك وليًّا للعهد منذ زمن طويل.”
كانت تقييمات نبلاء فيتسمارك للملك الحالي متقاربة عمومًا؛ بأنه جشع ومهووس بالنساء واحتقار آلفين لوالده الملك ينبع من هذا الجانب تحديدًا وبطبيعة الحال، فإن الأمير الثاني كان يوافق على هذا التقييم العام.
غير أن الأمير الثاني كانت لديه أيضًا رؤية مغايرة بعض الشيء فلو لم يكن لدى الملك أي بُعد نظر سياسي، لما تمكن من الحفاظ على العرش كل هذا الوقت.
الملك لا يرغب في تسليم العرش للبكر كما تقضي السنّة لعلّه لا يرى فيه أهلية ليكون ملكًا.
وفي ظل هذا الوضع، شكّلت الحرب ذريعة مناسبة وساحة مقبولة للتمويه وإن طالت تلك الساحة وأطالت فترة حكم الملك، فذلك لم يكن ضررًا عليه فبكل الأحوال، من المستحيل أن يُمحى بلد مثل إديلين أو فيتسمارك من على الخارطة بالكامل.
وقد مسّ الأمير الثاني الوتر الحساس القديم لأخيه الأكبر كان الجميع يظنّون بالأمر، لكن الأمير الثاني تعمّد قوله علنًا لخصمه كانت نيته واضحة: إثارة عقدة النقص واستفزازه بشدّة وكان ذلك أيضًا انتقامًا لما حصل في الاجتماع السابق حين انتزع منه بعضًا من صلاحياته العسكرية.
غير أن الأمير الأول، وعكس المتوقع، عاد إلى حجرته بمزاج جيد فقد جاءه مخبر من وحدة آلفين يحمل الخبر الذي كان ينتظره.
هناك تعليمات خاصة، توجّه إلى الموقع المحدد على الخريطة.
حاول أن تأتي وحدك، وإن تعذر فبأقل عدد ممكن.
عيون إديلين في كل مكان.
-A.F.F.
تجعّدت الورقة في قبضته، لكن الأمير الأول رسم ابتسامة طويلة على شفتيه.
“هرب بعيدًا كجرذ صغير.”
آلفين كان الآن في قلب أرض العدو، حيث الجنود الأعداء يملؤون المكان من حوله كان من الصعب التنبؤ بحركاته لأنه دائمًا ما يتصرف بهذه الطريقة ولو لم يكن المخبر قد انتقل إلى جانبه بشق الأنفس، لما تمكنوا من معرفة مكانه حتى الآن.
سأل الأمير الأول مساعده:
“ما حالة الساحر؟”
لم تكن جيدة، لكن تلك لم تكن الإجابة التي يرغب الأمير بسماعها فأجاب المساعد بوجه متجهم:
“…سأجهّزه.”
“أرسل فرقة خاصة أيضًا.”
وهنا فقط أبدى المساعد ترددًا فالموقع المشار إليه كان قريبًا جدًا من خط الدفاع الأخير لإديلين وكان هدف هذه الحرب هو مجرد اختراق ذلك الخط وتوسيع الأراضي حتى هناك، وهو بحد ذاته نصر كافٍ.
“مولاي، المكان بعيد جدًا من الصعب أن تتمكن فرقة خاصة من الوصول إلى هناك.”
حك الأمير ذقنه وسرح في التفكير للحظة لكنه سرعان ما ابتسم وسأل مساعده:
“آلفين نفسه في قلب إديلين، أليس كذلك؟ اختر أقل عدد ممكن، فقط بما يكفي لمرافقة الساحر.”
“…أمر مولاي.”
“يجب أن تُحسم المسألة من أول مرة إن شعر بالخطر، فلن يكون لنا أمل بالنجاح.”
“حسنًا، مولاي.”
كان الساحر الناري نادرًا وبما أن البلاد في حالة حرب، فقد كان من الطبيعي توجيه هذه القوة الهجومية النادرة نحو قوات إديلين، لا نحو آلفين حتى وإن كان آلفين شوكة في العين.
لكن السبب الذي جعل الأمير الأول يتراجع عن هذا المنطق هو أنه قد علم سرّ آلفين من خلال المخبر.
هذه الحرب كانت بمثابة امتحان للملك وإن كان العرش قد يؤول إلى الأمير الثاني، فهذا يعني أنه قد يؤول أيضًا إلى الأمير الثالث.
وكان على الأمير الأول أن يكون البطل على هذه الساحة إن أصبح الأمير الثالث هو بطل الحرب، أو ساعد الأمير الثاني ليُحلّق، فسيبتعد العرش عنه.
وما ينتظر أميرًا يُقصى من صراع الخلافة، هو الموت لا غير.
***
كان آلفين يستعد لمغادرة القاعدة كانت تلك ثالث نزهة ليلية له، بعد لقائه مؤخرًا بضابط عسكري آخر قبل عدة أيام نظر إلى وجه كلوي النائم كان وجهها الأبيض يتلألأ بضوء القمر في هدوء.
عادة ما يؤدي الجنود طقوسهم قبل التوجّه إلى المعركة ؛ فبعضهم يلمّع سلاحه ، وبعضهم يعيد ربط خيوط العسكري ، و آخرون يسترجعون صور أسرهم في أذهانهم ومنهم من يضّم يديه بالدعاء ، ومع أن لكل واحٍد منهم طريقته الخاصة ، إلا أنهم جميعًا يشتركون في أمرٍ واحد ، يعقدون العزم وتمنّون السلامة والنصر .
آلفين كان يقوم بتنظيف سلاحه بنفسه أحيانًا، لكن ذلك كان لكونه ضرورة لا أكثر، ولم يكن يشارك الجنود مشاعرهم بعمق.
لكنه الآن، بدأ يفهم تلك المشاعر نظر إلى إلهة نصره، ثم طبع قبلة على جبهتها وتحدث إليها كما كانت تفعل هي عندما تودّعه كلما خرج من القاعدة.
“نامي جيدًا، سأعود قريبًا.”
فتح آلفين النافذة، ثم استند إلى حافتها وألقى بنفسه خارج المبنى.
عبر القاعدة في لحظات، وتسلق الشجرة وتجاوز الجدار من دون أن يُسمع له صوت لم يكن هناك ما يلمع في الظلمة سوى عينَيه الزرقاوين، تتوهجان كالنار.
آلفين فلير فيتسمارك.
اسم “فلير” كان مأخوذًا من اسم عائلة والدته قبل الزواج، لكنه في الحقيقة تكريم لجدّه لأمه من جهة والدتها فعندما يسمع الرعية اسم “فلير”، فإنهم لا يتذكرون خال آلفين، الدوق الحالي، بل يتبادر إلى أذهانهم دوق “فلير” ساحر اللهب.
إلا أن قلة قليلة فقط تعرف أن حفيد بطل الحرب الذي مات ميتة شنيعة، هو أيضًا ساحر من نوع النار بل إنه، حتى وقت اندلاع الحرب الثالثة بين البلدين، لم يكن هناك من الأحياء من يعرف هذا الأمر سوى شخص واحد فقط.
قبل أن ينضم آلفين إلى الوكالة الخاصة، كان القصر الذي يسكنه يعج دائمًا بالقتلة المتسللين وفي ذلك اليوم أيضًا، زار القصر غرباء كعادتهم، ولم يكن هناك اختلاف حتى تلك اللحظة.
لكن القوة انفجرت فجأة آلفين لم يدرك حتى أنها كانت طاقة سحرية، قبل أن يحوّل القتلة إلى رماد في لحظة واحدة ووالدته لم تصدم بسبب تسلل القتلة، بل كانت مصدومة من أن ابنها قد وُلد حاملاً للسحر ربما لأنها كانت قد شهدت كيف مات والدها – دوق فلير السابق – بطريقة مروعة.
“آلفين، أبدًا… أبدًا لا تستخدم هذه القوة بتهور وإلا ستؤذي نفسك، أليس كذلك؟”
حتى لو لم تتوسّل إليه والدته بذلك، لم يكن آلفين ينوي إظهار قوته لأنه كان يعلم جيدًا أنه ما إن تنكشف هذه القوة للعالم، فسيصبح فورًا أقوى خصم للأمير الأول، ويُبتلع داخل دوامة الصراع السياسي.
كان بمقدوره تنفيذ مهامه بفضل لياقته الجسدية الفطرية وإذا اضطر إلى استخدام السحر، فلم يكن من يشهد ذلك ينجو أصلًا، أو كان بالفعل قاتلًا يستهدف حياته.
لكن كانت هناك حالة استثنائية واحدة كان ذلك يومًا وصله فيه خبر خطير عن مرض والدته، فأسرع عائدًا إلى القصر.
في ذلك اليوم، استخدم آلفين السحر رغم أن بإمكانه التغلب على اللصوص باستخدام تقنيات القتال بالبنادق وكان السبب أن امرأة عجوزًا كانت تنزف على الأرض وتصارع الموت كانت أم ديريك.
لكنها ماتت في النهاية، ووجّه آلفين تحذيرًا لديريك.
“إن تحدّثتَ يومًا عمّا رأيتَه اليوم، فلن يكون أمامي خيار سوى قتلك انسَ ما حصل وعِش حياتك.”
غير أن ديريك جاءه بعد عدة أشهر، ومنذ ذلك الحين أصبح مساعده وخدم بجانبه لسنين طويلة.
عندما وُضع أول مخطط للتسلل إلى قاعدة ويلتينغتون الطبية، كان جميع مساعدي آلفين يعارضونه بشدة فقد كان متهورًا وخطرًا جدًا إلا أن ديريك لم يكن منهم بل كان الأكثر حماسةً لهذا المخطط، لأنه الوحيد الذي يعرف عن قوة آلفين.
وبعد دخول القاعدة، رأت كلوي الوميض الذي أشعله آلفين – وهو وميض مضبوط لأدنى حد – لكن لم تكن تلك إشعالة تهديد أو إرباك داخل القاعدة بل كانت إشارة سرية بينه وبين ديريك تفيد بأن الدخول قد تم بنجاح.
ولهذا السبب، ظل آلفين يشك بديريك طوال الوقت.
لم يكن بإمكانه أن يجهل ذلك فالأمير الأول، وإن كان ضيق الأفق، لم يكن غبيًا وفي مثل هذا الوقت الحرج، لم يكن هناك إلا سبب واحد يدفعه لاستهداف آلفين لأنه عرف بأنه ساحر.
ومع ذلك، يبدو أن آلفين في قرارة نفسه لم يكن يرغب في الشك بديريك لأنه اعتبره تابعًا عزيزًا وصديقًا رجل أنقذه بقوة مزعجة وثقيلة.
آه… فهل كان صديق الأمس عدو اليوم؟
لا، هل كنتَ فعلًا صديقي يومًا ما؟
تنهد ساخرًا، ثم اندفع يركض في الظلام بسرعة أكبر.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 42"