كلوي، ومنذ قدومها إلى الجبهة، لم تمكث في السرير طويلاً كما فعلت هذه المرة وما إن نهضت من فراشها حتى بادرت إلى أمر أول.
ذهبت كلوي وأفراد القاعدة إلى وحدة قريبة كانت زيارة من أجل تبادل المعلومات فقد ظلت صورة قطاع الطرق وهم يتخذون المدنيين رهائن عالقة في أذهانهم.
آلفين تبعها كما يفعل دوماً وها هو الآن يشيح بنظره متظاهراً بالانشغال فقد كان أحد جنود الوحدة يرمقه بنظرات جانبية متكررة.
(كأنني رأيته من قبل…)
ظل الجندي يميل برأسه حائراً. لقد كان نفس الحارس الذي فقد وعيه بضربة واحدة من آلفين حين سلبه سلاحه كانت اللحظة خاطفة والظلمة حالكة، لكن تلك الحوادث العنيفة تترك أثراً في الذاكرة، حتى لو على هيئة ظل.
مع ذلك، بدا آلفين هادئاً تماماً رغم تحاشيه النظر حتى لو أشار إليه الجندي، لم يكن ينوي الاعتراف على الإطلاق.
كان قائد فرقة فيتسمارك الخاصة يعرف جيداً طبيعة المؤسسة العسكرية فذلك الجندي لم يكن ليواصل خدمته بسلام لولا أنه لم يبلغ رؤساءه بأن نقطة الحراسة قد تم اختراقها – ولو مؤقتاً من الأرجح أنه تواطأ مع الجندي الذي تسلّم نوبة الحراسة منه.
لذا، حتى لو تعرف عليه، فلن يكون بوسعه أن يفعل شيئاً لو كان أحد أفراد وحدته قد أخطأ هكذا، لما تركه دون عقاب، لكن آلفين، المسبب الحقيقي للأمر، لم يكن موضعاً للّوم.
غير أن آلفين بدأ يشعر بالضيق فذلك الجندي كان يتلصص عليه بشكل واضح ومزعج حتى رجال القاعدة أنفسهم بدأوا يتساءلون باستغراب عن سبب تصرفه.
فأشار آلفين بذقنه إلى ماثيو، الذي كان يقف خلفه مكتوف الذراعين.
“قف أمامي وغطّني.”
“ماذا؟”
“فقط قف أمامي، لأمر يخصني.”
وقد صار ماثيو، من دون أن يدري، معتاداً على مثل هذا الأسلوب الآمري، فوقف دون أن ينبس بكلمة، ليحجب آلفين جزئياً.
وفي تلك الأثناء، كانت كلوي تروي لقائد الوحدة تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم عدد الأشخاص، حالة تسليحهم، وحتى الموقع الذي ظنّت مجموعة الاستطلاع أنه قاعدة لهم.
لكن القائد بدا بارداً ومتفرجاً إلى حد كبير.
“ألم نحذركم مسبقاً؟”
وصوت نقر لسان مستهزئ سُمع من مكان ما، ثم تابع القائد كلامه وكأنه يوبّخ حمقى:
“ما كان يجب أن تقدموا على مثل هذا العمل الخطير من البداية لماذا لا تستمعون إلى النصيحة وتأتون الآن لتشتكوا؟”
غصّ رجال القاعدة من الغيظ فهم لم يكونوا عرضة للخطر في ذلك اليوم فقط، بل في كل وقت لم يكونوا يجهلون الخطر عندما خاطروا لإنقاذ المصابين.
حتى لو اتهموا بالإهمال، فهل فعلوا ذلك طمعاً في مكافأة؟ رجال القاعدة أيضاً كانوا يتمنون قضاء وقت دافئ مع عائلاتهم وهم يحتسون حساء ساخناً في مكان آمن لم يكونوا يريدون الشكر، لكن الكلام له وزنه، وطريقة قوله تصنع فرقاً.
كانت فرقة الاستطلاع، التي كانت تغلي من الغضب، تحدّق الآن في شفتي كلوي.
(كلوي، أنت قادرة على ذلك كما كنت دائماً معنا، صُبي عليهم جام غضبك! صبّي عليهم لعنة في قلب الوحدة! علميهم حقيقة الحياة: من يتكلم بوقاحة سيجد من هو أوقح منه!)
أخفضت كلوي عينيها وغرقت في التفكير للحظة، ثم رفعت بصرها نحو القائد بعينين بلون السماء، هادئتين.
“سيدي القائد، هل تظنون أننا هنا لأننا كدنا نموت؟”
نظر إليها القائد وكأنّه يقول: إن لم يكن هذا، فماذا إذن؟ فابتسمت كلوي بهدوء وأومأت برأسها.
“نعم، تماماً نحن بالفعل أشخاص تافهون وأنانيون إلى هذه الدرجة.”
(ماذا؟ كلوي؟) ارتجفت فرقة الاستطلاع، لكن كلوي ابتسمت ابتسامة مشرقة وكأنها تمزح، ثم قالت:
“وبالطبع، أنا أتكلم بجد.”
رغم أن تعبيرها كان هادئاً، إلا أن كلوي كانت من الداخل منزعجة قليلاً من تصرف القائد، ولهذا كانت تتحدث بعكس ما تقصده تماماً.
طبعاً، في زمن الحرب، فإن الهدف الأول للوحدة العسكرية هو القتال، لكن حماية المدنيين أيضاً كانت واجباً، إن اعتُبر كذلك ولو قالوا إنهم لا يملكون القدرة الكافية للاهتمام بذلك أيضاً، لكان أمراً مؤسفاً، لكنه على الأقل قابل للتفهم غير أن…
(إذا عاملتَ الناس الذين جاؤوا للتشاور وكأنهم حمقى، فستصبح العلاقة بيننا رائعة جداً من الآن فصاعداً، أليس كذلك؟)
فرقة الاستطلاع، التي كانت تراقب الوضع بترقب، تبادلت إشارات سرية فيما بينها.
(يا رفاق، أليس السيناريو معقداً جداً الآن؟ هل تعتقدون أن هذا القائد المتحجر سيفهمه أصلاً؟)
لم يكن بالإمكان الاعتماد على النص فقط حتى لو كنت ممثلاً فهناك لحظات يصعب فيها تقبل ما كتبه المؤلف.
وفي مثل تلك الحالات، أمام الممثل عدة خيارات: إما الدخول في جدال أقرب إلى الشجار مع المؤلف من أجل تعديل النص، أو ببساطة التخلي عن العمل، أو الاستمرار والاعتماد على قوة تمثيله لجذب الجمهور.
ولهذا السبب، فإن الممثل الموهوب ثمين جداً لدى كاتب المسرحية.
أما فرقة الاستطلاع، التي كانت مكونة من جنود متقاعدين، فقد امتلكت نوعاً من الولاء الغريب ورغم أنهم لا يفقهون شيئاً عن مجال التمثيل، فقد قرروا تجاوز هذا الموقف بأداء جريء ولأنهم تجاوزوا صدمتهم السابقة من الوحدات العسكرية، فقد بدأ كل منهم يضيف كلماته في الواقع، كانوا دون أن يشعروا قد أصبحوا عبيد تمثيل كلوي.
“سيدي القائد، أترى أننا فعلنا ما فعلناه لمصلحتنا الخاصة؟”
“لا بد أن من بين الجنود الذين أنقذناهم في القاعدة جنوداً من وحدتكم أليس من الممكن أن يكون هناك المزيد في المستقبل؟”
“في ذلك اليوم… توفي طفل صغير…”
ولم يتمكن المتحدث من إتمام جملته، فخيم الصمت على الجميع في القاعدة، بوجوه يعلوها الحزن فهذا لم يكن تمثيلاً، بل كان حقيقة.
لكن كلوي ضيّقت عينيها ونظرت إلى فرد فرقة الاستطلاع الذي نطق بالكلمات الأخيرة فقد كانت تعتقد أنه لو كان القائد سيتأثر بمثل هذا الكلام، لما تصرف على هذا النحو أصلاً ربما، حتى لو بدا الأمر جباناً، كان من الأفضل استخدام اسم المركيز ويلنغتون.
(يا أحمق… ذلك اليوم أصبح ذكرى مؤلمة لنا، لكن ليس بالضرورة أن يكون حزيناً بالنسبة للآخرين إن لم يكن هذا الرجل مستعداً للبكاء، فإن بكاءنا لن يُقنعه وإذا أردنا ألا تُستهلك وفاة فتاة صغيرة كمجرد دراما عاطفية، فعلينا أن نتمالك أنفسنا ونبدو أكثر بروداً.)
حك القائد رأسه بتعب، وقد بدت عليه ملامح الإرهاق أما ماثيو فابتسم ابتسامة مريرة وحاول تهدئة الأجواء المتوترة.
“فقط، عندما تسمح الظروف، نرجو القيام بجولة استطلاع واحدة.ج يبدو أن الوضع خطير فعلاً فالنهب مستمر، لكن هناك إشارات على وجود اتجار بالبشر ونحن أيضاً سنواصل تفقد المنطقة من جهتنا هذا ما جئنا من أجله فعلاً.”
وأخيراً، أومأ القائد برأسه على مضض، وعاد الجميع إلى القاعدة وهم يحملون في نفوسهم شعوراً معقداً. فكلما طال أمد الحرب، كان المدنيون وحدهم من تزداد حياتهم بؤساً.
***
جلست كلوي على صخرة وهي تقرأ مخطوطة قديمة وكانت تركز اهتمامها على الأجزاء المتعلقة بالسحر.
هناك لهب لا يمكن السيطرة عليه حتى لو هطلت الأمطار.
لكن لا يمكن وقف الفيضان أو الجفاف بالنار أيضاً.
ما يعني أن هاتين القوتين لا يمكن الحكم بينهما بسهولة.
“أطلقوا فيضانات وجفافاً؟ يا لهم من أناس قساة! ما ذنب المزارعين؟”
كانت تلك الفتاة، التي لطالما اكتفت بالضحك والسخرية عندما تسمع كلاماً غير سار، تشعر بالصدمة لأول مرة منذ زمن طويل من كلمات كتبها شخص آخر ارتجف جسدها وأغلقت الكتاب القديم بشيء من الغضب، ثم أسندت ذقنها إلى ركبتيها وأخذت تنظر إلى البراعم الخضراء الطرية أمامها.
“لابد أن هذا الشعور يشبه تربية الأبناء أن تستثمر من حياتك عدة أشهر، أو سنة كاملة، ليس أمراً بسيطاً على الإطلاق.”
كان آلفين قد لمحها من النافذة وهو يتأمل في الخارج، فلحق بها إلى المكان وبما أنه مشى بخفة دون إصدار أي صوت، لم تشعر كلوي بوجوده، وظلت تتمتم بكلامها وهي في غاية الرضا.
“أيّتها البراعم الصغيرة، انموا جيداً، لأنني عندما تكبرون… سأأكلكم والتتبيلة… في الأيام الممطرة، لا شيء يضاهي الليمون.”
فعندما يشعر الإنسان بالإحباط، عليه أن يتناول شيئاً حامضاً.
وبينما كانت تعبر عن تفضيلها الشخصي للطعام، عبس آلفين وربّت على جبينه كان يشعر أن إطلاق فيضان سيكون أرحم من هذا كانت كلماتها، التي بدت كأنها تربيهم مثل أولادها لتأكلهم في النهاية، أشد قسوة من أي كارثة.
لكن سرعان ما ابتسم بصمت، فقد رفعت كلوي يدها في الهواء وسكبت مطراً خفيفاً على البراعم الخضراء الزاهية في حين أن شخصاً ما في التاريخ قد استخدم هذه القوة ليتسبب بكارثة عظيمة على وجه الأرض، ها هي تستخدمها ببساطة شديدة لأجل شيء صغير كهذا.
بعد ذلك، رفعت كلوي طرف فستانها لتخفي الكتاب العتيق تحته كي لا يبتل وعندما وقعت عينا آلفين على ساقيها الناصعتين، قرر هذه المرة أن يصدر صوتاً متعمداً أثناء اقترابه.
“لا تظلي تحت المطر، عودي إلى الداخل.”
توقفت كلوي للحظة، ثم حدّقت به بصمت في الحقيقة، كانت تشعر منذ فترة بإحساس غريب تجاه آلفين كان يخيل إليها أنه يعرف بأنها هي من تسببت في هطول المطر في تلك المرات القليلة الماضية.
لطالما كان آلفين يتصرف بتوتر ويضغط على آنا كلما مرضت كلوي وإذا ردّت آنا باستخفاف، كان يعقد شفتيه ويعجز عن إخفاء ملامح الغضب.
ولكن في الأيام الأخيرة، بدا عليه الهدوء الغريب رغم أن حالتها الصحية كانت أسوأ من أي وقت مضى، لم يطلب آنا على وجه الخصوص فقط، كان يحدّق فيها بعمق أحياناً وهو غارق في التفكير وهذا ما جعلها تفكر رغماً عنها:
(أنت تعرف شيئاً، أليس كذلك؟)
وبينما لم تُبدِ كلوي أي نية للنهوض، جلس آلفين بجانبها بهدوء وقد توقف المطر الخفيف الذي كان يروي البراعم كما لو أنه لم يكن.
ثم سألت كلوي، وهي تنظر أمامها بصوت هادئ:
“أنت… لاحظت، أليس كذلك؟”
“لا.”
أجاب بجفاء، فضحكت كلوي بسخرية خفيفة.
“بل لاحظت، لا داعي للإنكار.”
“قلت لك لا.”
لكن كلوي، في نفيه ذاك، قرأت نبرة تأكيد أقوى من أي اعتراف مباشر لو أنه لم يلاحظ فعلاً، لكان قد سأل: “ماذا؟” لكن رده بذلك الشكل يعني أنه يعلم تماماً ما تعنيه، إلا أنه يرفض الخوض فيه.
“أحمق هل تظن حقاً أنني لا أزال عاجزة عن فهم السياق؟”
ابتسمت كلوي بخفة، لكن ابتسامتها كانت تحمل في نهايتها شيئاً من المرارة، ونظرتها المنخفضة كانت مشوبة بالحيرة. أمسك آلفين بيدها بهدوء.
“كلوي، لا تخبري أحداً.”
“…….”
لو كُشف هذا الأمر، فستخوضين الخطوط الأمامية بنفسك، وتُستخدمين كبديل عن مدافع الملكة إديلين.
ما الذي ستدفعينه ثمناً لذلك؟ لا أحد يعلم بالضبط فهو نفسه لم يستخدم قوته حتى أقصى حدودها من قبل ما يقلقه الآن هو أن يتحطم قلبها قبل أن ينهار جسدها فلا يمكن لإنسان أن يؤذي الآخرين ويبقى بعقله سليماً.
“الملوك قوم أنانيون جداً أولئك الناس لا يهتمون بكِ، ولا بالجنود من أمثالي هل تفهمين ما أقول؟”
لكن كلوي بدا وكأنها التقطت شيئاً طريفاً في حديثه، إذ أطلقت ضحكة صغيرة نظر إليها آلفين بوجه يملؤه الاستغراب، فقالت:
“ألستَ بهذا الكلام تبصق على وجهك أنت أيضاً؟”
وكانت تقصد: “ألست واحداً من أولئك القوم الأنانيين؟”
وبعد أن أدرك آلفين متأخراً سبب ضحكتها وسط هذا الحديث الجاد، قطّب حاجبيه قليلاً ثم قال ببرود:
“ما فائدة هذا الكلام الآن؟ لم تعامليْني يوماً كواحد من أفراد العائلة الملكية على أية حال.”
فتحت كلوي عينيها بدهشة ونظرت إليه، فقد ظنت سابقاً أن ما قاله لها في السرير كان مجرد مزحة لحظية لكنها بدأت تتساءل: هل كان حقاً يرغب بسماع ألقاب مثل “سموك” أو “جلالتك”؟ وإن كان الأمر كذلك، فلماذا أخفى هويته من الأساس؟ هو الآن يحصد ما زرعه بيديه.
“إذًا… أنت غاضب الآن؟”
سألت كلوي، فظل آلفين يعبث بمفاصل يدها بصمت وبعد وقت طويل، أجاب:
“لا كنت سعيداً لأنني استطعت أن أكون مجرد إنسان في عينيك.”
“…….”
“لذا، افعلي ما تشائين… غنّي الأغنية التي ترغبين بها هكذا كنتِ دائماً.”
أخفضت كلوي عينيها وابتسمت بصمت، بينما ظل آلفين يتأملها بهدوء ظلّ الاثنان متشابكي الأيدي، ثم اقتربا ببطء وتلامست شفاههما في قبلة هادئة.
لم تكن قبلة نارية كما اعتادا، ولا مليئة بالشوق والجنون، بل كانت هادئة، كأنها شعيرة مقدسة، كأنها مجرى ماء رقراق.
وكان الإحساس الذي تركته تلك القبلة على الشفاه يشبه تماماً المطر الخفيف الذي تساقط قبل قليل.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 41"