كان آلفين يركض بسرعة مخيفة بعدما اجتاز السور وخرج من القاعدة كانت نقطة الالتقاء معروفة، وهي معبد “إيديلينا” المهجور، لكنه كان ينوي التوجه إلى مكان آخر أولاً لقد قصد معسكر الوحدة التي سبق أن قدمت للقاعدة يد العون في إحدى المرات.
لا يمكن أن تكون الأجواء في الوحدات الأمامية والخلفية متشابهة، وكان آلفين يعلم جيداً أن الحراسة في هذا المكان ضعيفة للغاية لم يمنح الجندي الذي تفاجأ لرؤيته أي وقت لرد الفعل؛ بل وجه له ضربة حادة بحافة كفه إلى مؤخرة رقبته، مما أفقده وعيه فوراً.
انتزع آلفين الحربة من يد الجندي الملقى أرضاً وقال:
“سأستعيرها قليلاً.”
لم يكن هناك رد، لكن يبدو أن الجندي كان على وشك تبديل المناوبة ومع ظهور جندي آخر، تحرك آلفين مجددًا بسرعة مذهلة، قبض عليه بقوة وكتم فمه قائلاً:
“لا تتحرك، إن أخطأتَ فسوف تموت.”
إن إفقاد شخص وعيه دون قتله مهارة بحد ذاتها في الحقيقة، كان كسر عنق الخصم أسهل طريقة بالنسبة له لكنه لم يشأ قتل الجندي رغم ضيق الوقت، فهز رأسه بامتعاض “ربما يجب أن أتقاعد بعد هذه الحرب.”
قال لنفسه:
“إذا لم تكن تملك المهارة، فعلى الأقل تحلّ بالحدس، كي تعيش طويلاً في ساحة المعركة. لكن العجيب أن من يفتقرون للمهارة لا يفقهون الكلام أيضاً يا لها من معجزة.”
ثم ضرب نقطة حساسة في جسد الجندي وأفقده الوعي، وتوجه سريعاً إلى خارج المعسكر بعدما أخذ الرصاص من سلاحه.
ركض آلفين بسرعة حتى بلغ منطقة قريبة من معبد “إيديلينا”، ثم تسلق شجرة وأخفى وجوده، يحدق في الفراغ كان الهلال يضيء السماء بخفوت، وصوت طائر السبد يخترق صمت الليل.
ظل ينتظر طويلاً، وفجأة ضاق بعينيه الزرقاوين وهو يراقب الجهة الأمامية لقد شعر بحركة خفيفة تقترب ظهرت من بعيد ظلال شخص قادم، إنه فابيان، أحد رجاله.
كان فابيان يتحرك بسرعة لا تقل عن قائده، بل وكان حريصاً على كتم أي صوت يصدر عنه، مما يدل على مهارته لكن يبدو أنه عانى كثيراً في طريقه، فلم يتمالك نفسه عن التذمر.
“آه، لقد استدعيتني من مكان بعيد… ألا يمكنك أن تكون أكثر اعتدالاً؟”
في العادة، كان آلفين ليبتسم بسخرية من هذا الكلام، لكنه الآن كان يراقب محيطه بعيون خالية من المشاعر، يبحث عن مرافق محتمل.
لم ينتبه فابيان إلى القائد الجالس فوق الشجرة ينظر إليه بعين باردة واصل طريقه حتى بلغ أطلال المعبد، لكن آلفين أوقفه قبل أن يدخل.
“فابيان.”
لم يكن الصوت مرتفعاً، لكنه كان كافياً ليخترق سكون الغابة تطلع فابيان حوله فوراً بعدما تعرّف على الصوت.
“سيدي القائد!”
لمع في عينيه بريق فرح للحظة، لكن وجه آلفين ظل بارداً، بل إنه كان يوجه سلاحه نحو فابيان.
“لماذا أتيت وحدك؟”
“عذرًا؟ ألم تطلب مني أن آتي وحدي لتفادي الأنظار؟”
بل لم يكن ذلك فقط، بل أمره أيضاً بعدم إبلاغ باقي الجنود بأي شيء راح فابيان يلتفت حوله، يتساءل إن كان هناك أعداء يختبئون في المكان لم يخطر بباله أن البندقية موجهة نحوه هو.
“كنت أظن أنك ستأتي مع الساحر.”
“عذرًا؟”
“أين هو؟ قل الحقيقة، لا وقت لدي.”
“… ماذا؟”
قفز آلفين من على الشجرة بخفة، وبدأ يقترب خطوة بعد خطوة، يضغط عليه بالأسئلة.
“هل قال لك ولي العهد الأول أن تأتي وحدك؟”
“أنا لا أفهم ما تقصده الآن…”
أدرك فابيان فجأة أن فوهة البندقية موجهة إلى قلبه تمامًا، وأشار إلى نفسه بدهشة قائلاً: “أنا؟!” وظل متردداً في تصرفه، لم يستوعب ما يجري.
ساد الصمت بين الاثنين، ذهب آلفين يحدق في وجه فابيان مراقباً ملامحه ثم تنهد أخيراً وألقى إليه البندقية الطويلة.
“إذًا لست أنت.”
تردد فابيان وهو يلتقط بندقية “إيديلينجه” وسأل بخجل:
“سيدي، ما هي المهمة التي أمرتموني بها؟ ولماذا تعاملونني هكذا فجأة؟ هل ارتكبت خطأ ما؟”
“هناك من يتواطأ مع ولي العهد الأول داخل وحدتنا.”
“…”
“وهدفه هو قتلي.”
لم يستوعب فابيان الأمر أولاً، لكن سرعان ما اتسعت عيناه بفزع.
حتى بين جنود فيتسمارك، كانت الخلافات بين الوحدات شائعة والتهديد بالاغتيال أمر معتاد لقد أطاحوا بعدة عائلات نبيلة، ولذلك فهم محاطون بالأعداء لكن أن يخون أحد زملائهم قائدهم، الرجل الذي أنقذ حياتهم مرارًا، فهذا ما لم يستطع تصديقه بسهولة.
“من الذي يفعل شيئًا كهذا؟”
“…”
وما إن سأل السؤال حتى انتفض فجأة مدافعًا عن براءته.
“لا تقل إنك تشتبه بي الآن؟”
“…”
“أنا لست الجاني!”
عندها فقط هدأ آلفين قليلاً وابتسم بخفة قائلاً:
“كنت فقط أتحقق عليك أن تفهم ذلك وبما أنك لست الجاني، فلا بد أنه دوكرين أو ديريك.”
“لا يمكن، سيدي…”
“هو فقط مجرد تخمين.”
لكن في الحقيقة، كان هذا التخمين قريبًا جدًا من اليقين وكان واضحًا لديه مَن يشير إليه هذا اليقين، لكنه أراد أن يمنح رفاقه، الذين خاضوا معه كل شيء، فرصة أخيرة.
“سيأتي دوكرين بعد ثلاثة أيام تعرف ما عليك فعله، صحيح؟ ابق متخفياً حتى ذلك الحين لا تظهر حتى أعطي الإشارة.”
ظل فابيان ينظر إلى قائده بوجه مندهش، ثم بدا عليه الخوف، كأن الحقيقة قد سقطت عليه فجأة.
“سيدي، نحن في وسط أراضي العدو… وأنا هنا بمفردي…”
وكأنه يريد أن يسأل: “لماذا أتيت إلى هذا المكان البعيد؟” لكنه لم يجرؤ على قولها بصوت عالٍ. أمال آلفين رأسه وسأله:
“هل هذا اعتراض على الأوامر؟”
“لا، متى فعلت شيئًا كهذا؟”
قال فابيان ذلك وهو يبتسم ابتسامة خفيفة، محاولاً الظهور كجندي مطيع نظر إليه آلفين بازدراء، حتى اضطر فابيان لخلع قناع التملق وعاد إلى شكله المتجهم، متذمرًا:
“أين سأنام إذًا؟”
ضيق آلفين جبينه وكأنه يقول لنفسه: “هل ما زلت بحاجة لأن أشرح له هذه الأمور؟”
“لقد نمت كثيرًا على الأشجار من قبل، أليس كذلك؟”
“كنت أسهر الليل، لم أنم فعليًا على عكسكم، أنا أنتقي مكان نومي.”
عندها مر في ذهن آلفين قول سمعه ذات مرة:
“ستنام، لأنك لو شعرت أنك ستموت فعلاً، ستغلق عينيك تلقائيًا.”
“من قال هذا الكلام القاسي؟”
“حلم وأمل أطفال قارتنا.”
“… من هو صاحب هذا اللقب المبالغ فيه؟”
تغيرت نظرات آلفين فجأة إلى البرود، فارتعد فابيان، وأدرك بفطرته أنه تطرق إلى أمر لا ينبغي المساس به.
استدار آلفين مبتعدًا ورفع بصره إلى السماء كان يقدر الزمن من خلال موقع القمر، ثم قرر أن يظهر لطفاً متأخراً تجاه فابيان:
“تركت لك بعض الطعام عند المعبد، تناول منه قليلاً واحتفظ بالسلاح جيداً.”
“هل ستذهب إلى مكان آخر يا سيدي؟”
“أجل وعدت ألا أبيت خارج المنزل.”
كان هذا القول من أغرب ما سمعه فابيان فجنود القوات الخاصة لا يمكنهم تنفيذ مهامهم دون مبيت خارج المنزل ولهذا، كانوا ضعفاء جداً في الحياة الأسرية رغم قوتهم في المعارك بل إن مجرد بقائهم خارج البيت كثيرًا لم يكن المشكلة، بل الخوف من أن لا يعودوا أبدًا، وهذا كان عبئًا على عائلاتهم.
لذلك، كانت هناك قاعدة غير مكتوبة بين أعضاء وحدة آلفين: إن قدم لك زميل زوجته أو حبيبته، فعليك احترامها إلى أقصى حد.
“أن تعيشي مع رجل مثلنا، يدل على أن قلبك كبير حقًا، يا زوجة أخينا.”
“إنك ملاك لأنك خلّصتِ هذا الجاهل.”
“هل رأيتِ الأجنحة لتوّك؟”
“هل هذا نور خلف رأسها؟”
لكن هذا التملق لا يدوم زوجات الزملاء كن يزدن حزمًا بمرور السنوات، حتى أصبحن يضربن رجالهن على ظهورهم.
“أتظنون أنني سأضحك لأنكم تقولون هذا، أيها الحمقى؟”
لكنهن بعد توبيخهم بحدة يقلن: “على أي حال، بما أنكم أتيتم، فلتتناولوا الطعام قبل أن تذهبوا.”
كان فابيان ينظر إلى آلفين بشكّ، غير مصدق أنه قطع وعدًا كهذا في ظل هذا الوضع فهو يعلم أن قائده لا يقول مثل هذا الكلام ما لم يكن يعنيه، رغم أنه أضاف عبارة: “ما لم تكن المهمة طارئة”.
“مع من قطعت وعداً كهذا، يصعب الوفاء به؟”
نظر آلفين إليه بطرف عينه، وكأنه يقول: “لقد قلت ذلك قبل قليل، لماذا تكرر السؤال؟” ثم ابتسم وقال ببرود:
“مع حلمي وأملي.”
ارتبك فابيان وتراجع خطوة إلى الوراء، لم يصدق أن قائده قال شيئاً كهذا.
“من هو صاحب هذا اللقب الخيالي؟”
“يبدو أنك تعرفه جيداً.”
أظهر فابيان ملامح تشير إلى أنه يريد تفسيراً، لكن آلفين لوّح بيده وكأنه يقول: “انتهى الأمر”، ثم انطلق بسرعة، يقصد العودة إلى القاعدة قبل بزوغ الفجر.
وقف فابيان في مكانه يحك رأسه، ثم نظر إلى المعبد الذي كان من المفترض أن يلتقي فيه بالقائد بدا له كمبنى ينذر بالخطر وما إن دخل حتى تجهم وجهه على الفور لم يكتفوا بجعله يتخفى في قلب العدو، بل جعلوا مأواه في بيت للأرواح الشريرة، فشعر بالغضب في هذه الحال، كان النوم على الشجرة أهون.
في الداخل، وجد بعض الطعام الذي تركه القائد قرر أن يأكل أولاً ويفكر لاحقًا في مكان للنوم، لكنه ما إن فتح القماش حتى صرخ بغضب أكبر:
“ما هذه الأطعمة البائسة التي أسوأ من حصص القتال؟!”
تلك الأطعمة البائسة كانت الغذاء الأساسي لأهالي قاعدة “ويلتينغون” الطبية.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 40"