قبل بداية موسم الأمطار، حدث ما كان يتوقعه الجميع شنّت قوات فيتسمارك هجومًا شاملًا بدا أنهم يعتبرون هذه المعركة هي فرصتهم الأخيرة لتحقيق النصر.
انهار الخط الأمامي بسهولة، واضطر جنود إيدلين المرابطون في الجبهة الثانية إلى التراجع حتى الخط الدفاعي الأخير مؤقتًا حتى الوحدات القريبة من القاعدة، التي لم تكن تفعل شيئًا سوى شرب الخمر، سارعت إلى إرسال قوات دعم إلى الجبهة.
وبذلك، أصبح سكان القاعدة منشغلين للغاية لقد حان وقت العودة إلى العمل الحقيقي أما فرق البحث، فكانت تتعامل مع الأمر على أنه قدر محتوم، وأخذت تنقل الجرحى باستمرار دون انقطاع أما الأطباء، فقد غارت عيونهم من التعب، وواصلوا علاجهم للجرحى منذ أيام دون توقف.
وفي خضم حركة الناس المزدحمة داخل عنابر العلاج، قررت كلوي أن تأخذ قسطًا من الراحة فتحت باب قنّ الدجاج وأطلقت الدجاجات في الحديقة.
“البراعم لا تنبت أبدًا أيتها الدجاجة، هل يُعقل أنك أكلتِ كل البذور؟”
أمالت رأسها بشك، ثم فتحت راحتها وحدّقت فيها بصمت.
في الواقع، كانت كلوي هذه الأيام غارقة في تساؤل محيّر لقد شعرت بذلك الشعور الغامض: ما حدث لم يكن نتيجة إصابتها ببعض المطر فقط علاوة على ذلك، كانت حالتها الجسدية مختلفة بوضوح عن السابق ببساطة، بدأت تفكر في فكرة سخيفة: “هل من الممكن أنني أنا من أنزل المطر؟”
زيارتها الأخيرة لمعبد إيديلينا لم تكن فقط بدافع احترام التراث الثقافي لبلادها، بل أيضًا لأنها أرادت قراءة بعض الكتب القديمة لعلها تجد تفسيرًا لهذا الشك الغريب.
وبوجه متجهم كمن تذوق شيئًا كريهًا، تأكدت كلوي مرات عدة من خلو المكان من أي ناظر ثم تمتمت بصوت مليء بالريبة:
“أتمنى أن تمطر… إيديلينا، ألا يمكنك إنزال بعض المطر من أجل براعمنا الصغيرة؟”
كان الجو صافيًا، والسماء زرقاء والشمس مشرقة تنهدت كلوي بارتياح وابتسمت مطمئنة. “بالطبع، لا يمكن لشيء كهذا أن يحدث لشخص مدني مثلي.”
لكن لم يمضِ وقت طويل حتى حدث ذلك الشيء سقطت قطرة ماء على جبين كلوي فتحت راحتها مجددًا، وإذا بقطرة أخرى تهبط عليها كانت كمية الماء قليلة جدًا، بحجم بول نملة، لدرجة أنها نسيت دهشتها وعبست قائلة:
“يا للسخافة، ما الذي يمكن أن أفعله بهذا؟”
لكنها تذكّرت سريعًا أن هذا ليس هو المهم.
“لا يمكن… أليس كذلك؟ لا بد أنها سقطت مصادفة فقط، أليس كذلك؟”
كانت تنكر الواقع وأرادت، كما لو كانت فقدت عقلها، أن تضحك ضحكة مرحة بدا هذا وكأنه انسجام جهنمي ناتج عن جنون الحرب وخيال الفنان، لا يمكن أن يكون حقيقيًا.
“هل جننت حقًا؟”
تساءلت كلوي مع نفسها عمن تسأله إن كانت تبدو مجنونة أما التوائم الثلاثة، فسيردون عليها فقط بأنهم علموا بذلك منذ زمن.
“لا، لا يمكن لعقلي أن يتحطم أكثر من هذا…”
وبينما كانت تواصل حديثها الذاتي مثل ممثلة مسرحية شهيرة في العاصمة، اقترب منها آلفين الذي كان يتفقد القاعدة، بخطوات بطيئة.
“لماذا هذا التعبير المخيف على وجهك؟ لا أحد هنا أوه، لا تكلّميني أنا أيضًا؟”
“أ… أأه؟”
أخفت كلوي راحتها بسرعة ارتبكت كأنها ضُبطت متلبسة بشيء نظر إليها آلفين باستغراب، لكنه مع ذلك ساعدها على الوقوف وأجلسها على صخرة كبيرة جلست وهي تضم ركبتيها معًا.
عندما جلس آلفين بجانبها متكئًا بارتخاء، نظرت إليه كلوي نظرات خاطفة بدا على وجهها الأبيض الباهت لمحة من القلق، وسط ارتباكها الواضح.
“آلفين.”
“نعم؟”
لكنها، رغم مناداتها له، لم تستطع التحدث بسهولة بعد تردد، طرحت سؤالًا بدا لها آمنًا.
“لماذا لا يوجد سحرة في إيدلين؟”
“…”
نظر إليها آلفين بعينين غامضتين.
هو أيضًا لم يكن واثقًا بعد بل كان يأمل في داخله أن لا يكون الأمر كذلك لأن مصير السحرة في زمن الحرب يمكن معرفته فقط من خلال النظر إلى ساحر ولي العهد الأول كانت يدا كلوي خُلقت من أجل المسرح، لا من أجل ساحة المعركة.
“لا أدري.”
أجاب باختصار، لكنها تابعت سؤالها.
“إذًا، أين ذهب سحرة نانسي؟”
بدأ آلفين يفرك ذقنه ويدخل في تفكير عميق ثم نظر إليها بعين تحمل معانٍ كثيرة.
“كلوي، في الحقيقة أنا التقيت بهم من قبل.”
“…حقًا؟ كيف؟”
“أثناء تنفيذ مهمة.”
تألقت عينا كلوي، لكنها سرعان ما وقعت في حيرة إذ تساءلت: كيف لجندي من فيتسمارك أن يؤدي مهمة في نانسي؟ فنانسي كانت بلادًا لم تمسها نيران الحرب لفترة طويلة لم تكن خالية تمامًا من النزاعات، لكنها لم تشهد حروبًا كبيرة.
“ما نوع المهمة التي تقوم بها هناك؟”
“مراقبة تحركات الدول المجاورة مهمة في غاية الأهمية.”
“إذًا، هل زرت إيدلين من قبل أيضًا؟”
“بالطبع.”
“…أنت جاسوس بالفعل إذًا.”
نظرت إليه كلوي من الأعلى إلى الأسفل لكنه بدا غير مكترث تمامًا، وكأنه لم يرتكب أي خطأ فهو فقط قام بعمله وكلوي نفسها لم تقصد كثيرًا بكلامها، وما زالت تملؤها التساؤلات.
“لكن كيف عرفت أنهم سحرة؟”
“أي شخص كان سيشعر بذلك لو واجههم حركة الرياح كانت مصطنعة.”
في الحقيقة، كان لدى آلفين مهمة أخرى، وهي البحث عن أثر السحرة، وقد ذهب إلى نانسي لهذا السبب مع تغيّر الزمان، اختفى نسل السحرة تقريبًا لكن القوة السحرية كانت لا تزال تثير اهتمام الأسر الملكية ولو ثبت وجود عدد كبير من السحرة في نانسي، لكان ذلك تهديدًا حقيقيًا للدول المجاورة.
وما كان يدفع آلفين أكثر من كل ذلك، هو فضوله الشخصي تجاههم وعندما نظرت إليه كلوي بعيون مليئة بالفضول، ابتسم وتحدث:
“كنت أتوقع ذلك، فوجدتهم يعيشون في الجبال معًا، يحرقون الأشجار ويزرعون في الأرض نفسها.”
“حقًا؟ يبدو ذلك بسيطًا جدًا.”
“حتى في الماضي، كان سحرة نانسي يرفضون المشاركة في المعارك وهؤلاء أحفاد أولئك الناس لكن، كلوي، قالوا لي شيئًا مثيرًا للاهتمام.”
كان هذا شيئًا لا تجده في أي كتاب قديم أومأت كلوي برأسها عدة مرات تطلب منه أن يُكمل.
“قالوا شيئًا يشبه ما رأيناه معًا في المعبد المهجور.”
“……”
“إن استخدام القوة السحرية في الطريق الخاطئ لن يؤدي إلى النصر في الحرب وإن مخالفة إرادة الإله ستؤدي إلى نضوب القوة، بل وربما إلى اللعنة.”
“…أتظن أن ذلك حقيقي؟”
“لا أدري لا يمكنني الجزم.”
أجاب آلفين بغموض، لكن من المحتمل أن كل ما قيل كان صحيحًا ففي الحرب الثانية بين فيتسمارك وإيدلين، لم يكن هناك منتصر وساحر ولي العهد الأول لم يعد كما كان بل إن جده من جهة أمه لقي مصرعًا بطريقة بائسة.
لكن ما كان يدفع آلفين للتفكير العميق لم يكن الخوف من لعنة ما فالجندي لا يخشى الإصابة، واللعنات الغامضة لا تثير رعبه.
ما كان يحيره حقًا هو قولهم إنه لا يمكن النصر في الحرب باستخدام القوة السحرية إذا لم يكن بالإمكان استخدام هذه القوة في الحرب، فكيف يمكنه حماية من يحب؟ وما هو الاستخدام الصحيح إذًا؟ ولماذا منح الإله هذه القوة للبشر أصلًا؟
وبعد أيام، بدأ آلفين يرى لمحة من الإجابة عن هذه الأسئلة.
كانت القاعدة تستعد للخروج في مهمة بحث جديدة قوات فيتسمارك، التي كانت قد اقتربت ذات مرة حتى خط الدفاع الأخير، تراجعت تحت نيران مدفعية إيدلين واستعادت قوات إيدلين الجبهة الثانية لكن بين الجبهة والقاعدة، انتشرت جثث القتلى وأنين الجرحى.
في تلك الأيام التي كانت فيها فرق البحث تنقل الجرحى في العربات يومًا بعد يوم، تساءل أحدهم وقد أرهقه التدريب:
“ألا يمكن اصطحاب بعض الأطباء معنا؟”
أجابت كلوي بهدوء وهي تهز رأسها: “همم، لا يمكن ذلك.”
“لكن الأطباء متعبون هؤلاء الأساتذة هم أفضل الكفاءات في القاعدة لا يمكن استبدالهم.”
لكن أحد أفراد فريق البحث عبّر عن انزعاجه وقال:
“على أي حال، نحتاج للإسعافات الأولية كثير منهم يموتون قبل أن نصل بهم وأنا لست طبيبًا، فكيف لي أن أعرف من منهم سيعيش أو يموت؟”
كان من القسوة ترك الجندي الميت في الطريق بعد نقله بشق الأنفس لكن كلوي وجهت كلامها بحدة:
“أليس الهدف فقط أن تتعبوا الجميع معًا؟”
الشخص الذي طرح الاقتراح بدا عليه الارتباك، لكنه تظاهر بالبراءة وقال:
“كنت فقط أحاول تحسين الكفاءة.”
نظرت إليه كلوي من رأسه حتى قدميه.
“أصبحت ثرثارًا، أليس كذلك؟”
“تعلمت ذلك منك.”
“يا إلهي، ربيت أسدًا صغيرًا.”
لكن المفاجأة أن رد فعل الأطباء كان إيجابيًا في الحقيقة، كانوا قد سئموا من رائحة المطهرات في القاعدة وسئموا رؤية الجنود يتجولون في عنابر العلاج بملابسهم الداخلية دون استحمام كانوا يتمنون الخروج، حتى وهم يعلمون أن هذه ليست نزهة.
لكن عندما علم آلفين أن كلوي ستنضم إلى المهمة لجمع المتعلقات الشخصية، لم يعجبه الأمر تنهد كثيرًا لأول مرة منذ زمن ومع ذلك، لم يكن باستطاعته منع شخص تطوع من أجل القيام بهذا الدور أحيانًا، يصعب التوفيق بين مشاعر القلق على من تحب، ورغبتك في احترام قراراته.
“هناك فكرة تراودني هذه الأيام.”
“ما هي؟”
“أشعر أنني التقيت بامرأة من الصعب عليّ تحملها.”
عبست كلوي وجهها كأنها تقول “صار ينطق بأي كلام الآن.” فمن الواضح أن مواطنة بسيطة مثلها هي التي تجد صعوبة في التعامل مع أمير مثله، وليس العكس.
مرر يده في شعره وهو يتذمر وقال:
“خذيّني معك قيل إنكم قد لا تعودون اليوم، فهل تظنين أنني سأشعر بالطمأنينة؟”
“حقًا؟”
“بالطبع ثم إنني أتمنى ألا تبيتي خارجًا أنا، إن لم تكن هناك مهمة ضرورية، سأكون زوجًا يعود إلى بيته كل ليلة.”
“ما أفظعك من محافظ أليس من الطبيعي أن أخرج أحيانًا؟”
“هذا يُسمّى حب العائلة.”
ارتدى آلفين ثيابه ووقف وسط أهل القاعدة ولم يبدُ عليهم أي استغراب، كأنهم اعتادوا على مشاركته في هذه المهمات من قبل.
وما إن استعد آلفين، حتى تبعه بعض جنود فيتسمارك أيضًا كانوا يشعرون بالملل، علاوة على أن أهل القاعدة، بروحهم الإنسانية، كانوا لا يزالون يجلبون جرحى فيتسمارك من حين إلى آخر ربما إن رافقوا المهمة، سيتمكنون من إنقاذ المزيد من جنود بلادهم.
وفكّر أهل القاعدة قائلين: افعلوا ما تشاؤون، فأنتم أيضًا باتت حياتكم بلا قيمة.
وهكذا، خرج هذا الفريق الغريب المؤلف من أطباء ومرتزقة وكهنة وعمال، ومن جنسيات ومهن شتى، من القاعدة في انسجام عجيب.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 36"