كانت كلوي مستلقية على السرير تقرأ كتاباً لم تكن قد قرأت عملاً لكاتب آخر منذ زمن، ولم تكن تتوقع أن يكون الأمر ممتعاً إلى هذا الحد.
قد يظن المرء أن الماء قادر على إخماد النيران ، لكنه ليس كذلك دومًا فالنيران العاتية لا تُسيطر عليها حتى الأمطار .
“هل هو ممتع؟”
سألها آلفين وهو يراقبها من جانبها، مستنداً بذقنه على يده فتوقفت كلوي قليلاً ودفعته بلطف عن وجهها.
“لا تتحدث من هذا القرب.”
“لماذا؟”
“سوف يُصبح رطباً الكتاب حالته الآن غير جيدة أصلاً.”
“هل صديقك بالكاد يلتقط أنفاسه، وأنت تقلقين على كتاب؟ ألا ترين أن هذا قاسٍ بعض الشيء؟”
بعد أن خسر أمام الضمادات، ها هو يُقصى لصالح كتاب أيضاً، فرفع آلفين شفتيه بامتعاض وهو يشعر بالضيق مجدداً.
كانت كلوي لا تزال ترتدي قفازات الجراحة حبيبه تُحب الأشياء غير الحية إلى هذا الحد؟ هل لديها خلل ما؟
لكن يبدو أنها كانت تمزح، إذ سرعان ما علّقت ذراعيها حول عنقه وتدلّت عليه فردّ آلفين، رغم وجهه الخالي من التعبير، بسلسلة من القُبل.
ضحكت هي بخفة ثم أجابته بعد فوات الأوان:
“نعم، إنه ممتع.”
لم تكن كلوي تقرأ الكتب التاريخية كثيراً فهي تُشعرها أحياناً بالملل لكن بعض الوقائع في الواقع تكون أكثر درامية من الخيال.
أومأ آلفين برأسه، ثم أخذ يقرأ الصفحة التي كانت تنظر إليها، فرأى اسماً مألوفاً.
دوق لاير ، ساحر اللهب الذي تفتخر به فيتسمارك ، بثّ الرعب في صفوف جيش إديلين من الخطوط الأمامية .
مرّر آلفين يده على ذقنه، ينظر تارةً إلى الكتاب وتارةً إلى كلوي ثم ابتسم باستخفاف واقترح:
“كلوي.”
“نعم؟”
“ما رأيك أن نلعب حجر ورقة مقص، والخاسر يبوح بسرٍّ ما؟”
بدت كلوي مترددة بعض الشيء لم تكن المسألة مسألة ربح أو خسارة، فهي لم تعد تملك شيئاً تخفيه عنه.
ومع ذلك، بدا لها العرض مغرياً فآلفين لم يكن من النوع الذي يتحدث كثيراً عن نفسه وإن كان هناك من هو غامض بطبيعته، فهو آلفين، وكانت رغم كل ما بينهما لا تزال تشعر بالفضول حياله.
“أظنني لم أعد أملك ما أخبرك به…”
وفي لحظةٍ من التردد، لاح في ذهنها بصيص من الأمل لا يزال هناك اسم مستعار لم تكشفه بعد تلك الكتب ذات الغلاف الأحمر، القريبة من الأدب الإباحي.
صحيح أنه من المحرج الإفصاح عنه لحبيب، لكنها لم تكن تريد تفويت هذه الفرصة.
رفعت كلوي قبضتها بسرعة استعداداً للعب نظر آلفين إليها باهتمام، وقال بصوت منخفض:
“حجر، ورقة، مقص.”
فأظهرت كلوي تعبيراً حزيناً على الفور.
ربّت آلفين على رأسها.
“أنت لا تصلحين للمقامرة.”
ما الفائدة إن كنت دائماً تبدأين بالحجر؟ يبدو أنها لا تزال تجهل هذه العادة لكنه لم يُرد تنبيهها لأنها بدت لطيفة جداً.
ثم أشار بذقنه وكأنه يقول: حان دورك.
شعرت كلوي وكأنها أوقعت نفسها في الفخ، لكنها كانت من أنصار الوفاء بالوعد فخفضت صوتها خشية أن يسمعها أحد الطيور المارة.
“في الحقيقة… أنا أكتب روايات للكبار أيضاً لا أُحب تسميتها بالكتب الإباحية، لكن هذا أقرب وصف لا يعرف أحد تقريباً هذا الأمر، لكن بما أنك دائماً تضحك عليّ وتقول كاتبة قصص أطفال، فسأخبرك الآن.”
كان آلفين يترقّب منها شيئاً ما، لكنه لم يكن مستعداً لسماع هذا تحديداً.
“…ماذا؟”
“هل سبق لك أن قرأت شيئاً من هذا النوع؟”
آلفين، الذي بدا مرتبكاً للحظة، أنكر الأمر بشدة كانت ردة فعله فورية، لكنها فطرية أمام حبيبته.
“أنا لا أقرأ هذا النوع.”
“…حقاً؟”
“نعم.”
كلوي، رغم امتلاكها شيئاً من الحياء الاجتماعي، شعرت بالحرج من فتح هذا الموضوع، خاصة أمام شخص تُريد أن تظهر بصورة جيدة أمامه.
لكنها كانت أيضاً محترفة بل إنها بدت آسفة، وكأنها فقدت قارئاً محتملاً.
أما آلفين، الذي بدأ يشعر بالارتباك، فحاول تغيير مجرى الحديث.
“أعرف أن بعض الجنود في وحدتي كانوا يقرؤون هذا النوع سراً.”
“حقاً؟”
“هل أستطيع العثور عليه لو بحثت باسمك؟”
هزّت كلوي رأسها قائلة:
“طبعاً لا نشرته باسم مختلف من يريد أن يري أطفاله عرضاً كُتب من قِبل كاتبة كتب إباحية؟”
فحتى أكثر الآباء انفتاحاً، يتعاملون مع أبنائهم بمنطق محافظ.
لكن آلفين لم يفهم لماذا هذا مهم فهي لا تعرض تلك الأمور مباشرة على الأطفال ورغم عدم اقتناعه، أومأ برأسه.
“فهمت، تقدرين مشاعر الآباء أيضاً حسناً، بأي اسم نشرتِه إذن؟”
فرفعت كلوي قبضتها من جديد، تطلب جولة إعادة.
آلفين، رغم شعوره بالأسف لها، وافق.
“…”
“…”
بدت كلوي حزينة مجدداً هل يعقل أن تخسر في كل مرة؟
رغم إحباطها، اعترفت بصراحة:
“جوستين.”
“جوستين؟”
“نعم.”
نظر إليها آلفين دون أن يسأل مباشرة، وكأن الاسم يحمل قصة ما لكنه سرعان ما لاحظ لمعةً من المزاح في عينيها.
همست كلوي بصوت منخفض وكأنها تخشى أن يسمعها أحد:
“لأن هذا الاسم بدا لي مثيراً.”
“…”
بقي آلفين يحدّق بها عاجزاً عن الرد، ثم مرّر يده على شعره مرات عدة قبل أن ينفجر ضاحكاً فعلاً، لديها طرق طريفة وغريبة لإبهاره.
ابتسمت كلوي وهي تراقبه يضحك، ثم قالت:
“جزء من الأمر كان مزاحاً، لكنني كنت أريد أن أجرّب أن أكون شخصاً آخر وكان ذلك الاسم رمزاً لتلك الرغبة إنه في العادة اسم يُطلق على الذكور في إديلين.”
“ولماذا أردتِ أن تصبحي شخصاً آخر؟ أنا أحبك كما أنتِ الآن.”
أثنى عليها آلفين مجدداً، لكنها هزّت رأسها.
“ليس لأنني لا أحب نفسي، لكن لأن المسرح لا يُبنى من شخص واحد يحتاج لأصوات متعددة.”
الكلوي الإنسانة فردٌ واحد لكن الكاتبة المسرحية لا تستطيع أن تكون كذلك كانت تؤمن أنها يجب أن تقف دوماً على الحافة، وأن تنتقل بين مختلف الآراء بحرية.
فلو تبنّت وجهة نظر الكهنة وحدهم، لتحوّل المسرح إلى كتاب مقدس وإن استمعت فقط إلى القضاة، لصار قانوناً.
على مسرحها، لا بد أن يظهر شعب إديلين وشعب فيتسمارك ويجب أن يكون هناك دور للجندي الشجاع، لكن لا بد أيضاً من التربيت على رأس ابنة الرجل الذي مات برصاص ذلك الجندي.
لكن هل الإنسان يملك قلباً يتسع للجميع؟ نحن نُولد بقلوب صغيرة، وكلما حاولنا فهم شخص آخر، تألمنا أكثر.
ولذلك قال صديقها الرسّام قبل موته:
“هذا محق، وذاك محق، وذاك أيضاً محق… ثم أدركت أنني اختفيت.”
هي تفهم ألمه، وتشعر به حتى الآن لكنها كثيراً ما تفكر: إن لم تكن هي ترى العالم بوسعه، فلن يرى جمهورها من هذا العالم إلا ما يتسع له مسرحها.
ولهذا، فإنها مستعدة للتضحية بحياتها الذاتية من أجل مسرح أوسع.
“آلفين، حتى أبرع مؤلف موسيقي لا يستطيع تأليف لحن متناغم من مفتاح واحد.”
ولهذا تتخلّى عن تعصبها كإنسانة وتستمع حتى لمن لا تفهمهم، كي تخلق لحناً غنياً.
نظر إليها آلفين بحنان وهو يصغي، لكنها في تلك اللحظة ضيّقت عينيها وابتسمت بمكر، كأنها تقول: أعلم لماذا بدأت هذا الحديث.
“هيا، حان دورك لتتحدث.”
“عن ماذا؟”
“أنت من بدأت الكلام، لأنك كنت تريد أن تقول شيئاً منذ البداية.”
رفع آلفين كتفيه ببرود.
“أنتِ من خسرتِ لا يصح أن تتحدث الخاسرة.”
“آلفين، حتى في المقامرة، من يكسب كثيراً يُعطي جزءاً من المال كمجاملة.”
هذا يُسمّى ‘نصيب الرابح’ في لغة القمار.
بدت كلوي وكأنها لا تعرف القمار لكنها تعرف الكثير عنه ضحك آلفين بإعجاب ثم أومأ بإيجاز أخذ ينظر إلى الكتاب الذي كانت تقرأه، وأشار بإصبعه إلى موضع معين.
دوق فلاير.
“هذا الرجل، في الحقيقة، هو جدي من جهة الأم.”
“…حقاً؟”
“نعم.”
“…حقاً حقاً؟”
آلفين لم يُجب، بل اكتفى بالصمت.
كان جده لأمه أحد نبلاء فيتسمارك وساحراً للّهب وقف في الصفوف الأولى خلال الحرب الثانية بين البلدين.
شعرت كلوي مرة أخرى بالفجوة الطبقية بينهما عائلته من جهة الأب ملوك، ومن جهة الأم نبلاء مذكورون في كتب التاريخ.
وها هي تتحدث عن كتب إباحية أمام شخص كهذا.
“لكن نهايته لم تكن سعيدة.”
نظرت إليه كلوي متفحصة وسألته: “حقاً؟” فأومأ.
في الحقيقة، لم تكن فقط نهاية غير سعيدة، بل نهاية مؤلمة كثيرون كانوا يعتقدون أنه مات تحت لعنة.
حدث هذا قبل ولادة آلفين، لكن والدته كانت قد شهدت ذلك في طفولتها، وترك في نفسها أثراً عميقاً.
نظرت كلوي إليه بخجل، إذ كانت الأحاديث العائلية حساسة وكانت تعلم أن علاقته بعائلته ليست الأفضل.
شعر آلفين بترددها، فسبقها بالكلام.
“والدتي توفيت.”
“…”
“ما الأمر؟ هل ترغبين في مواساتي؟”
سألها بنظرة لا توحي بأي حاجة للعزاء، لكنها ضمّته من خصره وقبّلته على ذقنه ثم على شفتيه.
ابتسم، وكأن لمسته نالت منه.
كانت نادراً ما تُقبّله بهذه الطريقة الطفولية اللطيفة، فرغم علاقتهما الحميمة، لم تكن عادةً شديدة الحنان.
“هذا جميل.”
قال وهو يضحك، فطبعت قبلة خفيفة على خده وسألته:
“كيف كانت والدتك؟”
“كانت ضعيفة، ولم تكن تُحب أن تظهر أمام الآخرين.”
في الواقع، كانت تعاني من توتر عصبي شبه دائم وهذا مفهوم، فالعائلة المالكة كانت تحت التهديد الدائم.
عندما التحق آلفين بالمؤسسة العسكرية تحت ضغط، بكت أمه كأن العالم انتهى.
صمتت كلوي قليلاً ثم رفعت عينيها نحوه وسألت:
“تحاول التعبير عن أنها كانت طيبة، لكنك تُجيد المراوغة.”
“أفهم نيتك، لكن لا حاجة لأن تزيّني الأمور.”
هزّت رأسها قائلة إنها لا تُجمّل شيئاً لم يعارض، فقط تابع حديثه:
“أثناء التدريب، وصلتني أخبار بأنها تحتضر لم يكن الأمر مفاجئاً تماماً، فقد كانت صحتها ضعيفة.”
“أجل.”
“وأثناء عودتي، رأيت بعض اللصوص يهاجمون منازل المدنيين.”
كان هناك شاب يرتجف من الخوف، بدا أصغر من آلفين ببضع سنوات، وأمه تنزف حتى الموت بجانبه.
كل هذا من أجل بعض المال.
قال آلفين:
“اتركهم تعال إلى المعسكر وسأعطيك المال.”
رد اللص:
“أنت لا تتدخل، واذهب في طريقك.”
“أنت لا تفهم الكلام.”
وقف آلفين إلى جانب المدنيين هزم اللصوص وأحضر طبيباً لأم الشاب، لكنها لم تنجُ.
نظرت إليه كلوي بصمت، فابتسم بخفوت.
“لذلك، لم أتمكن من رؤية والدتي في لحظاتها الأخيرة.”
انحنت كلوي برأسها، شاعرة بالحزن، وبدأت تلامس ذراعه ثم قالت بلطف:
“حبيبي كان رجلاً نبيلاً ومسؤولاً حقاً.”
لكنه ضحك وكأن كلامها لم يصل إليه.
“هذا طبيعي بالنسبة لجندي لكن ذلك الشاب زارني لاحقاً في المعسكر.”
“حقاً؟”
“قال إنه يدرس العلوم العسكرية وهو الآن مساعدي الأول.”
كان ذلك هو ديريك، شريكه في التخطيط قبل التسلل إلى هذه القاعدة الطبية.
“لقد ساعدته كثيراً.”
“ربما.”
“لقد أنقذت حياته، وأعطيته فرصة.”
ابتسم آلفين ابتسامة غامضة، ثم غرق في أفكاره ولم يتكلم لفترة.
بعدها، نظر إلى صدره، وكان واضحاً أن كلوي تريد مواساته. شعرت أنه حزين أكثر من المعتاد، وبدت وكأنها تندم على فتح الموضوع.
وضعت أذنها على قلبه تستمع إلى نبضه، ثم بدأت تلاعب يده بلطف وتقرصه بخفة.
“كلوي.”
“نعم؟”
“لو كنت تفعلين هذا أحياناً، كنت سأكون سعيداً جداً.”
فعادت كلوي فوراً لتلتصق به أكثر، بينما كان آلفين يربت على رأسها بلطف.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 35"