بعد بضعة أيام، استعادت كلوي لون وجهها قليلاً وأصبحت تبدو بحال أفضل وخلال تلك الفترة، لم يفارقها آلفين وبقي إلى جانبها يعتني بها طواعية.
يبدو أن سكان القاعدة باتوا يعتبرون غرفة كلوي مسكن آلفين الجديد فلم يبدُ غريبًا أنه لم يعد إلى مقر إقامته في بيت فيتسمارك حتى أنّ آنا، التي مرت يومًا للاطمئنان على كلوي، قالت:
“أين ذهب آلفين؟”
“لماذا تسألين عنه هنا؟”
“وأين أبحث عنه غير هنا؟”
“… ذهب ليجلب الطعام.”
“أرأيتِ؟ الرجل الحنون هو الأفضل دائمًا.”
“تلك مجرد ذوقك الخاص يا آنا أنا أفضل الرجال المتمردين.”
قالت كلوي ذلك لتخفي إحراجها، لكنها كانت تتحدث مع آنا، وهي أم ربت ثلاثة أبناء ولم يكن من الطبيعي أن تمدح شخصًا يعصي الأوامر، حتى لو كان على سبيل المزاح.
“أوه، حقًا؟ يبدو أن ذوقك فاسد.”
“…….”
لكن كلوي، التي لم تستطع تقبل هذا الوضع براحة تامة، قالت لآلفين عند عودته:
“أشعر وكأن حظي في الزواج قد انسد تمامًا.”
“ولم تقلقين؟ سأأخذك أنا على أية حال.”
“لا يمكنك أن تثق بالمستقبل إلى هذه الدرجة.”
نظر إليها آلفين، وهي تتحدث بكلمات مستفزة كعادتها، ورفع طرفي شفتيه بابتسامة بدت وكأنه يريد أن يضربها ضربة خفيفة على رأسها لشدة لطافتها.
ومع مرور أيام أخرى، اضطرت كلوي إلى أن تؤكد لآلفين مرارًا أنها أصبحت بخير، لأنها كانت تنوي الخروج فقد أرادت زيارة معبد إديلينا مرة أخرى كانت تنوي إرسال الكتب الموجودة تحت الأرض إلى العاصمة قبل قدوم موسم الأمطار.
رغم أنها لم تتصفح الكتب سوى تصفحًا سريعًا، إلا أن عددها كان كبيرًا طلبت كلوي المساعدة، وتبعها سكان القاعدة للمساعدة في النقل وبينما كان آلفين يسير بجوار كلوي، قال متعجبًا:
“ألم تخافي؟ لقد رأيتِ الهياكل العظمية حينها.”
حتى الجنود الذين اعتادوا رؤية الجثث سيشعرون بشيء من القشعريرة في ذلك المكان فأجابت كلوي بوجه وقور، بكلمات بعيدة عن الوقار:
“آلفين، الطمع في المال والمجد يجعل الإنسان يتجاوز الخوف أؤكد لك أن هناك كتبًا كثيرة هناك يمكن بيعها بثمن جيد.”
كلام لا يليق بأحلام الأطفال وآمالهم ، كان آلفين يثير موضوع مهنتها مرة أخرى بعد طول غياب، بدافع فضول نقي:
“… هل يمكن تأليف قصص للأطفال بهذا الطمع الدنيوي؟”
ظهرت على وجهها لمحة تأثر قصيرة، لكنها تماسكت وبدأت تشرح رؤيتها الأدبية:
“آلفين، أتظن أن القصص الخيالية دائمًا جميلة؟ آسفة، لكن في نظري، لا العالم جميل، ولا القصص الخيالية كذلك.”
حين نعيد قراءة القصص التي قرأناها في الطفولة بعد أن نكبر، نراها من منظور مختلف تمامًا كثير منها يحتوي على مضامين قاسية، وبعضها قد يبكينا لشدة حزنه.
كلوي لم تكن ترغب في إنكار قسوة العالم وقذارته فنحن جميعًا مسؤولون عن العالم الذي صنعناه، ولا أحد بريء من تلك المسؤولية.
لكن أن يُطلب من كاتبة مسرح أطفال أن ترسم عالمًا جميلاً وحدها، فهذا يعني جعلها كاذبة أمام الأطفال وهذا ما لم تكن لتقبله.
“الذكريات الجميلة عن قصص الطفولة لا تعود لجمال العالم الذي رسمه المؤلف، بل للجهد العظيم الذي بذله ليصوغ واقعًا قاسيًا بلغة لا تصدم الأطفال.”
“…….”
“لكن لا بد من وجود فكرة رئيسية، رسالة نقول للأطفال: رغم أن العالم هكذا، يمكنك التغلب عليه لديك القوة لذلك.”
“…….”
“وهذه ليست كذبة، ولا خداعًا.”
نظرت كلوي إلى آلفين بطرف عينها كأنها تسأله: “أليس هذا معقولًا؟” فابتسم هو وهز رأسه.
وبصراحة، كان آلفين بدأ يفهم سبب شعور كلوي بثقل حمل القلم كان القلم بالنسبة لها سلاحًا يشبه البندقية، وكانت تخشى أن تؤذي الآخرين إن استخدمته بطريقة خاطئة.
وعندما ربت على رأسها كما يفعل مع الأطفال، أدارت كلوي رأسها جانبًا لتتفادى يده، وأضافت:
“ثم إنني لا أريد أخذ الكتب الموجودة في المعبد لنفسي ، جدي استخدم مالًا كثيرًا بسبب الحرب، ويجب أن أساعده ولو بهذا الشكل.”
فعاد آلفين يسأل وقد بدت عليه علامات الحيرة:
“من هو جدك؟ ألم تقولي إنه لا عائلة لك؟”
فوجئت كلوي ونظرت إليه، متسائلة: أوه، هل قلتُ ذلك بصوت مرتفع مرة أخرى؟
في هذه المرحلة، من ينبغي التخلص منه ليس آلفين أو ماثيو، بل كلوي نفسها.
وبينما كانوا يتحدثون بلطف وهدوء، وصلوا إلى أحد المعسكرات القريبة. كان نفس المعسكر الذي قدم له سكان القاعدة طعامًا عند الانتقال قرر الناس، بما أنهم أخرجوا العربات، أن يملؤوها بالطعام ويعيدوا الجميل.
لكن حتى اليوم، بدا فريق الاستطلاع مترددًا وهم يراقبون كلوي وبما أن كلوي كانت تلعب دور المتحدث باسم القاعدة، تحدثت بانزعاج:
“يمكنكم قول هذه الأمور بأنفسكم نحن لا نطلب شيئًا، نحن فقط نعبر عن امتناننا.”
فالتمثيل لا يخرج بكلمة تربّت بها على ظهر أحدهم وعالم الارتجال لا يمكن دخوله من دون موهبة.
لكن كلمات الشكر، أكثر من طلبات التعاون، كانت الأصعب على أعضاء فريق الاستطلاع.
وفي النهاية، تقدمت كلوي بنفسها وابتسمت ابتسامة مشرقة وهي تخاطب جنود المعسكر:
“أضفنا ما يكفي حتى لا تشعروا بالنقص.”
وأومأ أعضاء الفريق برضا، وكأنهم موافقون على جملتها تبادل أفراد القاعدة والمعسكر كلمات طيبة لبعض الوقت وبناءً على تجاربهم السابقة، كانوا يعلمون أن بناء علاقة جيدة مع الوحدات القريبة ليس أمرًا سيئًا أبدًا.
“إن كان لديكم مصابون، أرسلوهم إلى قاعدتنا.”
“حسنًا بالمناسبة، احذروا من قطاع الطرق.”
اتسعت عينا كلوي بدهشة عند سماع شيء لم تسمع به من قبل:
“قطاع طرق؟”
“بسبب طول أمد الحرب، بدأوا بالظهور واحدًا تلو الآخر.”
شرح القائد أن أناسًا فقدوا منازلهم وانضموا إلى مجموعات وكانت الجثث تملأ الجبهات، والحصول على بندقية أو سلاح لم يكن أمرًا صعبًا هناك.
فأخذ الرفاق الأمر على محمل الجد وأومأوا برؤوسهم وربت القائد على أكتافهم كأنه يقول لهم: يمكنكم المتابعة، فعادوا بالعربات الفارغة إلى الطريق.
وكان معبد إديلينا أقرب بكثير مما ظنوا فالمرة السابقة كانت أول مرة لهم وكان الطقس سيئًا، لكن في الواقع، لم تكن الرحلة تستغرق يومًا كاملًا ذهابًا وإيابًا.
وحين نزلوا إلى الطابق السفلي، تفاجأ الجميع بوجود ذلك المكان وأطلقوا آهات إعجاب شكلية فلم يكن أحد مهتمًا بالكتب حقًا.
وبينما كان آلفين واقفًا بين الناس، ذهب يحدق في الكتب المتراكمة واحدة تلو الأخرى ثم وقعت عيناه على عنوان جذب انتباهه.
“يا للعجب، كل شيء موجود هنا…”
“ما بك؟ هل تعرف هذا الشخص؟”
لكنه لم يجب، واكتفى بابتسامة ورغم أن كلوي بدت متعجبة، إلا أنها واصلت عملها.
ومنذ تلك اللحظة، بات سكان القاعدة يعملون تحت إشراف المخرجة السابقة والكاتبة العاشقة للكتب.
“احذر! ستتلف الكتب!”
“كلوي، نحن بالفعل نحذر!”
فأخرجت كلوي قفازات جراحية حصلت عليها من آنا ووزعتها عليهم.
“وما هذه الآن؟”
“حتى لا تتركوا بصمات على الكتب.”
“… يا إلهي، هذه المرأة مزعجة للغاية!”
ورغم تذمرهم، امتثلوا لطلبها لأنهم كانوا يعلمون أن هذه الكتب ستُرسل إلى الراعي المالي.
وانتهى تحميل الكتب فقط بعد أن امتلأت ثماني عربات كبيرة.
وحين بدأ الجميع يستعد للصعود، اقتربت كلوي مجددًا من آلفين، لكنه قال وهو عاقد ذراعيه:
“اصعدي أولاً.”
“لماذا؟ لنذهب معًا.”
فاكتفى بابتسامة ساخرة فحتى لو كانت ساحة حرب، لا حاجة لإظهار العظام المتبقية لحبيبته مرة أخرى رغم أنه لم يُرها شيئًا جيدًا من قبل.
حين ترددت، دفعها آلفين بهدوء من ظهرها ، فكانت تتساءل عن سبب تصرفه هذا، لكنها أطاعته وغادرت الغرفة.
أما آلفين، فتوجه بخطوات ثابتة نحو داخل الغرفة الفارغة، وحين وصل إلى نهايتها، ركل الباب الصغير بحذائه العسكري.
“لا تستخدم القوة التي تخالف إرادة الإله!”
ما أراد آلفين التحقق منه لم يكن الهيكل العظمي، بل هذه الجملة بالضبط.
فنظر إلى الجدار بتمعن، غارقًا في التفكير.
لم يكن آلفين يعرف كل الحقيقة، لكنه كان أقرب من غيره إلى معرفة جوهر السحرة.
قبل اندلاع الحرب الثانية لإيدلين، أي قبل أن تستخدم العائلتان الملكيتان السحرة كجنود، كان معظم السحرة ينتمون إلى المعابد.
هل كان جميع السحرة يؤيدون الحرب؟ بالطبع لا.
فحتى الآن، هناك أناس في القواعد الطبية يتساءلون: لماذا نستمر في هذه الحرب؟
ولو كان الجميع يفكر بنفس الطريقة، لما وقعت حروب من الأصل.
بعض السحرة ترددوا في استخدام قوتهم لمهاجمة الناس وربما رفض البعض ذلك بشدة.
لكن التاريخ لا يدوّن أسماء هؤلاء فعصيان إرادة الملك يعني الخيانة.
آلفين أدرك الأمر بسهولة كانت تلك العبارة صوت من عارضوا الحرب.
لكن أليس هذا فكرًا مثاليًا أكثر مما ينبغي؟
ألم يقل أحد أفراد فريق الاستطلاع يوم هاجمت قوات الأمير الأول قاعدة ويلينغتون الطبية:
“يجب أن نقاتل وننتصر حتى نعيش بأمان!”
ولم يستطع آلفين دحض قوله فهو ليس رجل دين، بل جندي والجندي لا يمكنه حماية رفاقه دون قتال.
وهذه معضلة لم يستطع آلفين حلها بعد.
كلوي… هل تعرفين الإجابة؟
إن كنتِ ساحرة، حقًا، فماذا سيكون خيارك؟
هل ستغنين كما تفعلين الآن… أغنية لا تؤذي أحدًا؟
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 34"