في اليوم التالي، بدا على كلوِي وجهٌ كئيب بعض الشيء أما آلفين، الذي استيقظ معها على سرير واحد عند شروق الشمس، فقد حكّ رأسه وقال:
“أبقى هنا وأخرج ليلاً؟”
وأشار بإصبعه إلى النافذة وهو يسأل، لأنه شعر أن كلوِي متضايقة بعض الشيء وكان آلفين يدرك أن الهمسات والثرثرة من حولها لا بد أن تكون مزعجة لها.
لكن كلوِي فكّرت قليلاً ثم هزّت رأسها نافية ونهضت من مكانها فإن ظنّ أحدهم أن آلفين قد فرّ من القاعدة، سيجنّ جنون ماثيو، وهذا لن يزيد الأمور إلا تعقيداً.
خرج الاثنان معاً من الغرفة وسارا جنباً إلى جنب في الممر.
كان هذا الحصن القديم كالمتاهة في بنائه صحيح أنه أكبر حجماً وأكثر غرفاً من القاعدة السابقة، لكن ذلك كان يجعله صعباً من حيث الحراسة.
ورغم ذلك، وبينما كان آلفين وكلوِي ينزلان إلى الطابق الأول، صادفا عدداً غير قليل من الناس معظمهم لم يُعرهما اهتماماً كبيراً، لكن بعضهم نظر إليهما بنظرات ذات مغزى وكأنهم يريدون طرح سؤال ما.
غير أن أحداً لم يجرؤ على الاقتراب منهما، لأن كلوِي كانت تعقد وجهها بملامح جامدة.
نظر آلفين إلى حبيبته التي بدت وكأنها تحمل كل مآسي العالم على وجهها، فتملّكه شعورٌ معقّد وقال:
“أدركت الآن أن هذا الوجه مفيد للغاية.”
“أجل أنا أتعمد الظهور بهذا الشكل إنه فعّال جداً حين لا أريد أن يكلمني أحد.”
كانت تعلم جيداً أنها من الخارج لا تبدو صاحبة شخصية قوية، ولهذا طوّرت أساليبها الدفاعية الخاصة كان هذا الوجه الكئيب أحدها، كما كان لها نسخة أخرى منه مستوحاة من صقيع الشمال القاسي.
لكن كلوِي لم تظن أن الجميع يتجنبها فقط بسبب ملامحها فبعض الناس لا يحتاجون إلى أي وسائل كهذه أصلاً.
كان آلفين من هذا النوع حتى لو لم يعبس بوجهه، لم يكن من السهل على أحد أن يقترب منه بكلام تافه يشبه الأمر البلطجي الذي لا يجرؤ على مضايقة من هو أقوى منه واقع الحياة كان أحياناً بهذا الشكل البغيض.
وحين خرجا من المبنى بسهولة، قالت كلوِي:
“بما أن الأمور صارت هكذا، لمَ لا تستخدم الباب مثل الناس العاديين من الآن فصاعداً؟”
في الحقيقة، كان آلفين يرى أن تسلق الجدران أسهل من التنقل وسط هذا البناء المعقّد، وكان يعتبره تمريناً جيداً للذراعين أيضاً لكنه وجد كلوِي ظريفة وهي تتحدث بذلك الوجه المعبّس، فاكتفى بهزّ رأسه موافقاً:
“حسناً، شكراً على الاهتمام.”
فأومأت هي أيضاً برأسها مع تنهيدة طويلة.
تجاهلا الإفطار وذهبا يتجولان في أرجاء الحصن وبعد وقت قصير، بدأت كلوِي تراقب آلفين بطرف عينها مراراً وتكراراً فقد كانت على وشك بدء أعمالها اليومية، لكن آلفين لم يغادر بعد.
توقفت أخيراً ونظرت إليه بنظرات تعني: “ألن تذهب؟”، فوقف آلفين مائلاً قليلاً وهو يضع يديه في جيبه.
“ما خطتك لليوم؟”
فأجابت كلوِي بوجه مأساوي صادق هذه المرة:
“سأزرع الأرض.”
شعرت كلوِي أن بإمكانها الآن أن تترك مهنة كتابة المسرحيات دون قلق، فهذه القاعدة كانت حقاً مركزاً لتأهيل الشباب الذين فقدوا مصدر رزقهم، لتعليمهم مهارات جديدة تساعدهم على الوقوف على أقدامهم.
أما آلفين، الذي لطالما قال لها بثقة إنه قادر على إطعامها، فقد ضحك بصوت خافت وأشار بذقنه قائلاً:
“لنذهب.”
“…ستساعدني؟”
“لا. سأراقب فقط.”
كانت تعلم أنه مهما قال، فسينتهي به الأمر إلى مساعدتها، لذلك انطلقت تتقدمه.
كان الحصن واسعاً جداً لدرجة أن حتى المساحات المخصصة للبستنة بدت شاسعة لكن لم يكن هناك ما يحتاج فعلاً إلى مساعدة آلفين ولم يكن لدى كلوِي الكثير لتفعله أصلاً، إذ لم يمضِ سوى بضعة أيام على زرع البذور.
جلست القرفصاء تنظر إلى البراعم الخضراء الصغيرة التي بدأت تظهر هنا وهناك، فراح آلفين يراقبها بصمت ويفكر:
(دائماً تجلس هكذا منكمشة، حتى الأعمال التي تختارها تكون على هذه الشاكلة.)
كان يتخيلها بالفعل وهي تضرب على ركبتيها وخصرها أثناء نزع الأعشاب.
أما هي، المزارعة المبتدئة، فكانت تنظر إلى التربة بوجه جاد لقد زرعت وفق خطة واضحة، اختارت نباتات سريعة النمو وسهلة التكاثر.
صحيح أنها دفنت أيضاً بعض البذور الكبيرة التي استخرجتها من فواكه أكلتها، لكنها لم تكن تأمل في رؤية أشجارها تُثمر فذلك سيستغرق سنوات، وهي تأمل أن تنتهي الحرب قبل ذلك.
عندها، أحست فجأة بشعلة إبداع كانت قد نسيتها خطرت ببالها جملة تصلح أن تُدوّن كاقتباس شهير ظنّت أن كل شيء بداخلها قد احترق وترك رماداً، لكنها اكتشفت أن شرارةً ما لا تزال مشتعلة.
“حتى لو سقطت نيران السحر على هذه القاعدة غداً، فسأزرع شجرة تفاح.”
“…….”
نظرت إلى آلفين وكأنها تقول: “ما رأيك؟”، لكنه تجنّب النظر إليها وكأن الأمر محرج.
(لم تعجبه؟ غريب لا يمكن أن تكون سيئة إلى هذا الحد هل تركتُ الوسط الأدبي طويلاً؟)
حكت رأسها بضيق ثم ركضت قدمها على التراب.
“وما فائدة التربة الجيدة إن لم تمطر؟”
لم يُظهر آلفين أي رد فعل، بل غرق في التفكير لا يعلم لماذا، لكن موسم الأمطار في إديلين تأخّر هذا العام على أي حال، خلال أسبوعين إلى ثلاثة على الأكثر، ستأتي حتماً الأمطار الموسمية.
ولهذا، من المؤكد أن فيتسمارك ستشنّ هجومها الشامل قبل ذلك، بينما ستتمسك إديلين بموقف دفاعي على أمل الصمود حتى انتهاء تلك الفترة هذان الأسبوعان أو الثلاثة سيكونان الفاصل في هذه الحرب.
وهم غارقون في أفكارهم، توقف كلاهما فجأة ثم رفعا رؤوسهما نحو السماء قطرات المطر بدأت تتساقط واحدة تلو الأخرى على الأرض.
نظر آلفين إلى كلوِي بنظرات غريبة مال برأسه قليلاً، وفتح فمه مرات كأنه على وشك الحديث.
“…أأنتِ حقاً على علاقة ما بإديلينا؟”
“بهذا الحد؟ أليس من الأرجح أنها تكرهني؟”
وافقه آلفين نوعاً ما، إذ لم تمر لحظات حتى تحوّل المطر إلى سيل منهمر.
أمسك آلفين بمعصم كلوِي ونهض بها، وركضا وسط العاصفة وبسبب هدير المطر، رفع صوته أكثر من المعتاد وقال:
“هل تحبك رغم أنكِ لستِ حتى من أتباعها؟”
رفعت كلوِي صوتها أيضاً وهي ترد:
“يا لك من محترف في قتل الأمل!”
لكنها لم تلبث أن أمالت رأسها باستغراب بينما تواصل الركض.
“لكن هل تظن فعلاً… أنها تكرهني؟ هل تهتم إلهة إديلين بأمور كهذه إلى هذا الحد؟”
أنا كائن صغير، ومع ذلك أحرص على رعاية كل من أهل إديلين وفيتسمارك صحيح أنني إنسان يعيش داخل منظومة مؤسسية، لذلك أعاني وأفكر كثيراً، لكني مع ذلك أفعل ما أستطيع.
أليست السموّ الحقيقي ينبع من القدرة على احتواء من يؤمن بك ومن لا يؤمن؟
لكن كلوِي لم تنجح في ذلك جيداً، لأنها لم تكن إلهاً أو كائناً متعالياً، بل إنسانة عادية.
سقطت في بحر أفكارها فبدأت تبطئ خطاها لاحظ آلفين أن وعيها بدأ يسرح مجدداً، فقال:
“كلوِي.”
“نعم؟”
“فكري لاحقاً، الآن اركضي فقط.”
كان على البشر العاديين أولاً أن ينجوا من المطر فحملها آلفين بين ذراعيه، بينما كانت بقية الناس يفرّون مذعورين إلى داخل المبنى.
دخل الاثنان غرفة كلوِي، وجفّفا نفسيهما، ثم جلسا يحتسيان الشاي الدافئ ليبعثا الدفء في جسديهما لكن سرعان ما لاحظ آلفين شيئاً غريباً رغم أنها لم تُبتل كثيراً، بدأت كلوِي ترتجف شيئاً فشيئاً.
“كلوِي.”
“…….”
“هل تشعرين بالبرد الآن؟”
لم تستطع الرد بشكل سليم كانت يداها المتشابكتان على صدرها ترتجفان، وشفاهها بدأت تتحوّل إلى اللون الأزرق شعر آلفين بشعور غريب، لكنه لم يستطع تركها على هذه الحال.
نزل بسرعة درجتين في كل مرة وجلب الممرضة آنا من الجناح الطبي لكن كما حدث في المرة الماضية، كانت أعراضها شبيهة، لذا لم يكن التشخيص أو العلاج مختلفاً.
لم تبدُ آنا قلقة كثيراً، وقالت:
“إنها نزلة برد. هل ابتُلّت كثيراً؟”
“…….”
“أبقوها دافئة ولا تجعلوا الغرفة جافة جداً علّقي قطعة قماش مبللة أو ما شابه مفهوم؟”
أعطتها الدواء وتحدثت بسرعة كالرصاص ثم غادرت، على ما يبدو لأنها كانت مشغولة برعاية مرضى آخرين.
جلس آلفين على كرسي بجانب السرير، يحدّق في الباب الذي خرجت منه آنا.
كان وجه كلوِي أشبه بذلك الوجه الذي يراه المرء في اليوم التالي لمشيه تحت المطر بجانب النهر ناداها آلفين بصوت خافت:
“كلوِي.”
“…….”
“هل أنتِ بخير، كلوِي؟”
لم ترد ، لم يُدرِ أكانت نائمة أم أن وعيها مشوش لكنه لاحظ أن شفتيها تتحركان قليلاً وكأنها تهمس ركّز في قراءة حركة شفتيها.
(أشعر بالبرد…)
تحسس جبهتها بسرعة، ثم مدّ يده داخل الغطاء يتحسس جسدها كانت تبرد تدريجياً، وكأنها قطعة من الثلج.
كان أمراً غريباً حتى لو أصيبت بالبرد وبدأت تشعر بالبرد، فعادةً ما يلي ذلك حُمّى لكنه لم يكن متأكداً، فقد مضى وقت طويل على آخر مرة أصيب فيها هو بالزكام ولم يكن يملك ما يجعله يشكك بكلام الطبيبة.
“لا يمكن أن يكون…”
حكّ ذقنه وهو يمعن التفكير وبينما يعود بذاكرته إلى الوراء، تذكّر حادثة لم يستطع تجاوزها كان ذلك حين ذهبا معاً إلى قرية صغيرة وتعرض لهجوم من جنود الأمير الأول، وأصيب برصاصة في فخذه.
في ذلك اليوم، شعر بحرارة عالية غريبة تجتاح جسده، لم تكن ناتجة عن الإصابة كانت أشبه برد فعل غريب من جسده… أو كأن قوة ما في داخله تحاول أن تستيقظ.
“…….”
وإن كانت هذه القوى موجودة في فيتسمارك، فما الذي يمنع أن تكون في إديلين أيضاً؟ لكنه تمنى من أعماقه أن لا يكون الأمر كذلك.
لا… هذا سيصبح عبئاً عليك، كلوِي ماذا أفعل بك…
زفر آلفين تنهيدة حزينة وهو ينظر إليها بعينين متعبتين، ثم صعد إلى السرير وضمّها إليه بقوة أراد أن يدفئ جسدها البارد بجسده.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 33"