كان آلفين وكلوي قد أمضيا عدة أيام دون أن يتبادلا الحديث في الحقيقة، القول إنهما لم يتبادلا الحديث ليس دقيقًا بقدر ما أنهما لم يتمكنا من ذلك فقد أشعل ماثيو حماسه في صيانة القاعدة، مما جعل الآخرين ينشغلون أيضًا على نحوٍ هستيري.
كلوي لم تكتفِ بتربية الدواجن، بل بدأت أيضًا في الزراعة بخلاف القاعدة السابقة، كانت التربة هنا خصبة إلى حدٍّ كبير وقد لاحظ ماثيو، لا كلوي، هذا الأمر منذ البداية، رغم أنها كانت قد أدركته مسبقًا أما العامل العام في القاعدة فقد ظل ينظر إلى ماثيو بعين باردة، بينما يواصل بعزمٍ نثر البذور.
وفي كل مرة يصادف فيها كلوي، كان آلفين يحدّق فيها طويلًا، وكأنما يسألها بعينيه إن كان يمكنه الآن أن يحدثها وفي كل مرة، كانت تعقد حاجبيها وتقطب ملامح وجهها بشدة، لا لشيء إلا لأنها كانت تحاول كبح ضحكتها.
لكن مجال الحديث بينهما لم يُفتح قط، وكان يفشل في كل مرة إذ كان مديرو القاعدة يمسكون بها فجأة كلما أرادوا مناقشة أمرٍ ما وفي تلك اللحظات، كان آلفين، على خلاف كلوي، يعبّر عن امتعاضه بصدق ويقطب حاجبيه بشدة.
وفي نهاية يومٍ آخر من الجهد المضني، جلست كلوي على الكرسي منهكة تمامًا مدت ذراعيها لتقوم بتمارين التمدد، ثم فتحت الدرج وأخرجت رسالة من جوليا وبدأت في قراءتها.
“كلوي مرحبًا
لماذا لم تردي على رسالتي السابقة ؟
ظننت أن أمرًا خطيرًا قد حدث ، فذهبت إلى السيد الماركيز لكنه لم يخبرني بشيء
هل هدي أمر ما فعلًا ؟
…
أنا حقًا أريد معرفة انطباعك بعد الاستخدام !“
عين كلوي، التي خاضت حربًا بكل ما فيها حتى وصلت إلى هنا، بدت وقد جفّ فيها البريق.
“جوليا، ليس هذا ما يهم الآن لقد كدت أموت فعلًا، أتفهمين؟! ثم إنني، حتى وإن كنا صديقتين، لا أرغب في مشاركة انطباعاتي عن شيء كهذا.”
لكن جوليا، التي كانت في قمة حماسها تجاه علاقة كلوي، لم تبخل عليها بـ”اهتمامها الزائد” مجددًا فقد أرسلت لها قطعة جديدة من الملابس الداخلية جلست كلوي على المكتب، فردّت القطعة الجديدة أمامها وأسندت ذقنها إلى كفها.
“همم.”
لم تشعر هذه المرة بأي خجل بل إن عينيها امتلأتا بروحٍ من الفضول والتأمل.
“مم تصنع هذه القطعة المعقدة؟ ومن أين أبدأ بارتدائها؟ من أين تنبع كل هذه العبقرية؟”
راودت كلوي رغبة شديدة في تأنيب نفسها التي كانت ذات يومٍ مبدعة خيالها بدا تافهًا جدًا مقارنةً بمن صنع هذا الشيء لكنها لم تفهم لماذا لا تريد أن تتجاوز هذا الحد يبدو أنها بالفعل تفتقر إلى الموهبة.
هزت رأسها مرارًا وأعادت رسالة جوليا والملابس الداخلية إلى الدرج ثم فتحت النافذة وجلست تنتظر بهدوء بدا الأمر مضحكًا، لكنه كان بالفعل الليلة الثالثة منذ قاطعته.
وحين ظهر الرجل ذو العينين الزرقاوين المألوفتين، لم تستطع إلا أن تشعر بالشفقة نحوه.
ماذا عساي أن أفعل بك، يا ماثيو؟ صيانة القاعدة لم تنجح.
وضع آلفين قدمه على زاوية المكتب وهبط بسلاسة إلى الأرض ثم ظل يحدق في كلوي دون أن ينبس بكلمة.
كانت كلوي تحاول كتم ضحكتها منذ لحظات وبعد أن راقب تعابير وجه حبيبته لبرهة، فتح فمه أخيرًا.
“يدك.”
شعرت كلوي، بعد طول غياب، وكأنها تُعامَل وكأنها كلب لكنها مدّت يدها دون اعتراض هزّ آلفين رأسه وقال:
“كلتا يديك.”
ما هذا؟ هل يريدني أن أقول “أعطني من فضلك” أو شيء من هذا القبيل؟
ومع ذلك، جمعت يديها معًا كما طلب منها فمدّ يده إلى جيب بنطاله وأفرغ حبات الحلوى في راحتيها ثم قال بوجه خالٍ من أي ابتسامة:
“هاك فلنُصلح ما بيننا الآن.”
وفي النهاية، لم تستطع كلوي أن تتحمّل، فانفجرت ضاحكة رأى آلفين ابتسامتها، فابتسم بدوره وناداها:
“كلوي.”
“ماذا الآن؟”
“كيف تُرضين بهذا القدر؟ حلوى فقط؟”
“أنا لم أكن غاضبة أصلًا، لهذا السبب.”
أسقطت كلوي الحلوى على سطح المكتب، ثم مسحت زاويتي عينيها فقد سالت منها دموع قليلة من شدّة الضحك.
“من أين حصلت على كل هذه؟”
“كسبتها في مصارعة الأذرع.”
“…وأنا كنت احذر دومًا من أن القمار يؤدي إلى الخراب.”
رمقته كلوي بنظرة عتاب، لكن آلفين ردّ ببرود شديد:
“نعم، كنت أظن أن الجنود الذين يذهبون إلى القمار لشراء أحذية لحبيباتهم مجانين لكنني الآن أفهم شعورهم.”
كلوي، التي بالكاد أوقفت ضحكتها، غطّت وجهها من شدة الضحك مجددًا بينما آلفين، الذي كان يبتسم، رفعها فجأة وأجلسها على السرير ثم طبع القبلات على وجهها في مواضع مختلفة وعندما لامست شفاهه الدافئة جفنيها، ارتعشت رموشها السوداء ارتعاشًا خفيفًا.
“هل تحسّنت حالتكِ النفسية قليلًا؟”
“نعم، قلت لكَ إنني لم أكن غاضبة كنت قلقة، ومتضايقة فحسب.”
“وأنا أعلم.”
وضعت كلوي يديها على كتفي آلفين، ونظرت في عينيه الزرقاوين العميقتين ظلّ الاثنان يتبادلان النظرات لفترة طويلة، وخلال ذلك الوقت، مرت على وجهها شتى المشاعر إذ راودها في الوقت ذاته شعور بأنها يجب أن تقول ما في قلبها، وشعور بعدم رغبتها في قول أي شيء ومع ذلك، تكلمت بهدوء:
“كان من الأفضل لو أنك خرجت بدلًا مني كان عليك أن تخرج مع أليكس عندما خرج أنت… قلت إن بإمكانك الخروج في أي وقت.”
لن تستطيع البقاء هنا إلى الأبد على أي حال، أليس كذلك؟
لو أنك فقط ألقيت عليّ التحية قبل أن تذهب، لكان ذلك كافيًا بالنسبة لي.
آلفين ابتسم ابتسامة ساخرة لم يكن يرغب في سماع هذا الكلام، لكن الحزن الذي لم تستطع إخفاءه تمامًا عن وجهها آلمه.
في الواقع، كان آلفين قد قرر بالفعل اتخاذ محيط القاعدة مركزًا له لم يكن بوسعه العودة إلى وحدته، ولا كانت لديه نية للذهاب إلى القصر الملكي وفوق كل شيء…
“لا يمكنني أن أترككِ هنا وأغادر.”
“…….”
“إذا وعدتني بأنكِ ستعودين إلى العاصمة إديلين أولًا، حينها سأفكر في الأمر.”
“…….”
“لكنكِ لا ترغبين بذلك، صحيح؟ إذًا لا تتحدثي عن هذا الأمر بعد الآن، ولنكتفِ بالبقاء معًا.”
قال آلفين “هاه؟” وكأنه يطلب منها تأكيدًا على كلامه وكانت كلوي على وشك التساؤل عمّا إن كان يجب عليه التوسل قائلًا إنه لم يعد له مكان يذهب إليه لكنها، بعد لحظة تردّد، أومأت برأسها دون كلام فابتسم آلفين براحة، وقبّلها، ثم تمدّد فوقها على السرير.
كانت كلوي محاصَرة بين ذراعيه، فتململت يمينًا ويسارًا محاوِلة تفاديه، لكن آلفين ثبّت ذقنها وأخذ يعض خدّيها وعنقها بلطف لم يكن ذلك مؤلمًا، بل كان يدغدغها وكأنه يداعبها، فضحكت ضحكة خفيفة ثم تذكّرت فجأة أمرًا ما، فنظرت نحو الحائط وخفّضت صوتها:
“لم أتحقّق بعد من إن كانت الغرفة عازلة للصوت.”
“سأتولى الأمر.”
رفع آلفين كتفيه وأراها بنفسه كيف سيتولى ذلك مرّ بلسانه الرطب على شفتيه، ورفع حاجبًا واحدًا وهو يهمس:
“بما أننا تصالحنا بالكلام، علينا أن نتصالح بالجسد أيضًا.”
“…ما هذا الكلام الذي تقوله، كأنك رجل في منتصف العمر؟”
“من الآن فصاعدًا، حتى لو كان على سبيل المزاح، إن قلتَ إنك ستقاطعني، فاعلم أن هذه الأمور ستحدث عند المصالحة.”
وكان من الطبيعي أن تكون لحظة اللقاء أكثر تأثرًا كلما طال وقت الفراق دفعت كلوي الرجل الذي اعترف بنفسه ذات مرة أنه في السابعة من عمره إلا أن ذلك الرجل كان في الحقيقة في السابعة والعشرين، ولم يتحرك من مكانه بطبيعة الحال سرعان ما تخلّت عن المقاومة وأخذت تتحسّس عضلاته الصلبة هنا وهناك.
لم يكن في أصابعها الجميلة التي تلامس جسده أي طاقة شهوانية بل بدت كطفل يكتشف جسم الإنسان المدهش مرارًا وتكرارًا أو كفنان وقع في عشق تمثال أعجبه، فراح يستغرق فيه.
آلفين اكتفى بابتسامة خفيفة وتركها تفعل ما تشاء.
حينها، وضعت يدها على صدره المشدود، ونظرت إليه بطرف عينها لم يكن يتحرك إطلاقًا، وكأنه يريد فعلًا أن يترك لها المجال ومنذ أن غادرا القاعدة، لم يتشاركا الجسد مرة واحدة.
لكن خطرت على بال كلوي فجأة فكرة غريبة بدأت تتردد، ثم ذهب نظرها إلى الدرج بطرف عينها، وكأنها ترى شيئًا ملعونًا لا ينبغي النظر إليه مباشرة تنحنحت بلا سبب، ثم فتحت فمها قائلة:
“أتعلم، يا آلفين.”
“هممم؟”
“هل يمكنك الخروج للحظة؟”
“لماذا؟ لا تريدين المتابعة؟”
هزّت كلوي رأسها نافية، لكنه حكّ رأسه بشيء من الحرج وجلس لكنها لم تكتفِ بذلك، بل مررت راحة يدها من جبينه المستوي إلى أنفه الحاد.
“أغلق عينيك.”
“لماذا؟”
“بسرعة لا تفتحهما حتى أقول لك.”
وحين رفعت حاجبيها وكأنها تسأله “ولماذا لم تفعل بعد؟”، أطاعها كما يفعل العشاق المخلصون بدأت كلوي تزحف بهدوء نحو الدرج وهي تكتم ضحكتها حتى هي نفسها شعرت أن ما تفعله الآن لا يُصدّق لكنها قررت أن تجرب على أية حال، بما أن جوليا أرسلت لها ذلك.
وفي أثناء جلوسه مغمض العينين، أخذت أطراف فمه ترتفع تدريجيًا وبدأ يسمع صوت فتح الدرج وإغلاقه، يرافقه خشخشة الأقمشة صوت خفيف يدل على خلع شيء ما وارتداء آخر أدرك فورًا ما كانت تحاول فعله آه، ذلك الشيء وقتها.
“لو سخرت… لن أرحمك.”
“حسنًا.”
“يمكنك فتح عينيك الآن.”
كانت كلوي جالسة قرفصاء على مسافة منه غير أن حالتها كانت مختلفة تمامًا عمّا كان يتوقعه بناءً على قدرته البصرية السابقة لم يكن ذلك نفس ذلك اللباس الداخلي.
فالجميع لا يندهش ما دام ما يراه ضمن توقعاته كلوي، رغم أنها كانت قد أظهرت له ذلك بشكل عابر من قبل، لم ترغب في ارتدائه مرة أخرى لتُريه ونتيجةً لذلك، بدا وكأنها أصبحت أكثر تجرّدًا مما توقع.
حدّق آلفين فيها مطولًا ثم مرّر يده في شعره، وفرك وجهه محاولًا أن يصرف نظره عنها أدرك أنه، رغم كونه حبيبها، إلا أن نظراته بدت له متوحشة أكثر من اللازم.
لكن في النهاية لم يستطع إلا أن يعيد النظر إليها كان صوته، حين خرج، أعمق من المعتاد، وكأن شيئًا يثقل صدره.
“…هل تملكين من هذه الأشياء كثيرًا؟”
“أنا شخص أبذل جهدًا في كل شيء تحضيراتي دائمًا كاملة.”
طائر البلبل الذي أنجبته إديلين أعذب صوت في هذا الزمن صديقتي، جوليا شكرًا لكِ.
وكان يعض شفتيه باستمرار، ثم حملها — وهي لا تزال جالسة قرفصاء — ووضعها فوق السرير، وجلس قبالتها.
ظن آلفين أن كلوي تشعر بشيء من الخجل فقد كانت تتفادى النظر إليه مباشرة لكن إن دقّق المرء النظر في عينيها الزرقاوين، لرأى لمعة خفيفة من المشاكسة وكان آلفين يحب ذلك كثيرًا.
هي نفسها التي تواجه الآخرين بوجه هادئ التي تنفجر ضاحكة لرؤية الحلوى والتي تجلس أمامه الآن بمكرٍ ودهاء — هي نفس الشخص وهذا بحد ذاته كان أمرًا عجيبًا بالنسبة له.
“في الحقيقة، أنا لا أعرف من تكونين حتى الآن.”
“…….”
“وأحيانًا، يجعلني هذا أشعر بالجنون… لكنني أحبك.”
قال إنه يحبها وكأنه يتحمّل أمرًا لا يستطيع احتماله وكانت عيناه الزرقاوان تزدادان توهجًا وحدة.
وحين وصلت حرارة جسده إلى جسدها الذي لم يكن يبعد عنه سوى شبر، دفعها آلفين لتستلقي، وأخذ يحدّق فيها من أعلى.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 31"