كلوي أصابها الذهول.
بالطبع، الجميع كان يعلم أن بينهما علاقة من ذلك النوع قد يكون هناك من يهمس حين يطرق الباب ويدخل، لكن في المجمل سيتظاهرون بعدم المعرفة.
غير أن ماثيو الآن كان يكاد يشتعل من الغضب فبسبب ضعف الأمن، هرب أحد الأسرى، وكان من الطبيعي أن يُعلن الاستنفار في القاعدة.
ومع ذلك، في مثل هذا اليوم، يتسلل من جديد ويتجاوز الحراسة ويقفز من النافذة لمجرد أنه يريد القدوم باكراً؟
هل هو جاد؟ يبدو أنه عازم على القضاء عليّ خنقاً هذه المرة.
آلفين، سواء كان مدركاً لما يدور في داخل كلوي أم لا، جلس على طرف السرير وأمال رأسه بكسل إلى اليمين واليسار ثم قال وهو يتأمل الغرفة الجديدة:
“بما أنها في المؤخرة، فمن السهل الوصول إليها، لكن يبدو أن الشمس لا تدخل جيداً ألا تشعرين بالبرد؟”
كانت كلوي مذهولة، لكنها أجبته طالما أنه سأل:
“أنا في الأصل أُفضّل الواجهة الشمالية على الجنوبية لكن المفضلة لدي هي الغربية، فأنا لا أستيقظ باكراً عادة.”
“لكن ألم تقولي إنك كنتِ تعيشين في قبو؟ ما نفع الاتجاهات الجنوبية أو الغربية حينها؟”
“…قلت لك إنه شبه قبو.”
ضحك آلفين بخفة وهو يطلق صوتاً خافتاً من حنجرته، وكأن شيئاً في الأمر راقه لكن نظرات كلوي، التي استنزفت كامل طاقتها اليوم في الدفاع عن آلفين أمام ماثيو، صارت أكثر بروداً.
خفضت صوتها وسألت بنبرة مظلمة:
“أنت، صحيح؟”
“ما الذي تعنينه؟”
“لا تتظاهر بالجهل أنا على وشك أن أغضب وإذا غضبت، فسيكون الأمر أكثر رعباً مما تتوقع.”
مال آلفين برأسه جانباً، وهو يحدق بها طويلاً.
كان يظن أنه يعرف سبب تصرفها الحاد اليوم، لكن كلماتها أوقعته في حيرة.
“هل هذا يعني… أنكِ لم تغضبي مني من قبل؟
“أنا متأكد أنكِ فعلتِ ذلك أكثر من مرة.”
عندها ابتسمت كلوي ابتسامة عريضة، وكأنها تقول: “حقاً؟ مستعد لتجربة حقيقية؟”
شعر آلفين بصدقها، فصرف نظره وقال:
“خرج بنفسه، فما الذي يُفترض بي أن أفعله؟”
“آلفين، أي جندي هذا الذي يتحرك منفرداً دون أوامر القائد؟”
“آسف، لكن في وحدتنا يوجد أحياناً أشخاص غريبون من هذا النوع.”
ثم أضاف باعتراف صريح، بصوت منخفض:
“كلوي، الأمر كان ضرورياً ولن يُسبب أي ضرر لا للقاعدة ولا لأدلين.”
لكن كلوي هزت رأسها وكأن ما قاله ليس المقصود، وأمسكت بمعصمه بقوة.
“أيها الأحمق، بدأ الناس في القاعدة يشكّون بك ما العمل الآن، ها؟”
حدّق آلفين بها مطولاً، ثم أطلق ضحكة تشبه التنهيدة.
أدرك حينها أنه أخطأ في فهم سبب غضبها.
لم تكن غاضبة لأنه عبث في القاعدة وكأنها ملكه، بل لأنها كانت قلقة عليه من أن يتعرض للخطر بسبب ذلك.
هل حقاً يمكنكِ رؤيتي وأنا أواصل عملي كجندي في مثل هذه الظروف؟ هل كنتِ جادة في كلامكِ ذاك؟
ربت آلفين على خدها الأبيض محاولاً تهدئتها وقال:
“لا يوجد دليل ثم يا كلوي، حتى في زمن الحرب، لا يُقتل أفراد العائلة المالكة بتلك السهولة.”
ومن هذا الجانب، قد يكون آلفين أكثر أماناً في أدلين منه في فيتسمارك.
لكن كلوي نظرت إليه نظرة حادة وقالت له بنبرة مقصودة:
“وإذا تم الإمساك بك، وتم التحقيق معي، هل من المقبول أن تُقتل مدنية بريئة مثلي؟”
“إذًا يجب أن تتخلي عني فوراً ادّعي أنكِ لا تعرفينني.”
“……”
“وإن لم تُجيدي التمثيل، قولي إنكِ كنتِ مجبرة ومهددة، واذكري كل ما تعرفينه.”
لكن لو كانت تنوي فعل ذلك، لما كانت قد قابلته من الأساس، ولما ظلت قلقة عليه طوال اليوم.
دفعت كلوي صدره بعيداً، وهي تشعر أن قلبها قد احترق تماماً من التوتر كانت تتمنى لو تصفع ذراعه مراراً.
“حتى في هذا الموقف، تظل تتصنع القوة… لا تقل كلاماً لا معنى له، اذهب الآن.”
ضحك بخفة وهو يعانقها قائلاً: “لا تفعلي هذا، أنا آسف، لذا لا تكوني قاسية.”
كان يحاول تهدئتها، لكنها دفعته بقوة أكبر.
“قلت لك إنني فهمت، لذا اخرج.”
“…هل هذا قطع للعلاقة؟”
“…هذا ليس وقت هذا النوع من المزاح.”
عضّت كلوي شفتها بقوة، وبدأت تفك أصابعه واحداً تلو الآخر من حولها.
“إن لم تخرج الآن، فأنا من ستخرج فعلاً.”
حينها، نهض آلفين فوراً.
لقد أدرك أنها قد تفعلها فعلاً هذه المرة.
ويبدو أن هذه هي الطريقة الوحيدة لإرباك آلفين، الذي بدا دائماً واثقاً وهادئاً.
تحقق أولاً من أن الباب مُغلق بإحكام، ثم فتح النافذة للخروج، وهو يحدق بها طويلاً.
“هل يناسبك أن آتي بعد ثلاثة أيام؟”
كلوي، التي كانت ترغب في صفعه، لم تستطع إيذاء جبهة ملكية، فاكتفت بالإشارة له أن يخرج فوراً دون أن يقول شيئاً.
***
في غرفة الأمير الثاني لفيتسمارك، كان الاجتماع في أوجه.
وكان جوّ الاجتماع مختلفاً تماماً عن اجتماع الأمير الأول.
الأمير الثاني، وهو يقرأ الوثيقة السرية التي وصلت إليه، بدا ممتعضاً بشكل واضح.
كانت المعلومات تشير إلى أن الوحدة الخاصة التابعة للأمير الأول هاجمت مركز إغاثة تدعمه إحدى العائلات النبيلة في أدلين، وكان ذلك مركز ولتينغتون الطبي.
“أخي تعمد هذا ليتسبب لي بالفضيحة.”
لو أنه دمّر جميع الجسور التي يمكن استخدامها دبلوماسيًّا على هذا النحو، فلن يكون من الغريب أن تبتعد نهاية الحرب أكثر فأكثر.
ألقى الورقة التي كان يحملها نحو معاونيه كانت الحركة تبدو عصبية نوعًا ما، لكن المعاونين لم يبالوا كثيرًا.
فاللقب الشائع للأمير الثاني من بيت فيتسمارك كان “الثعلب” أو “الأفعى المراوغة”، وذلك لأنه كان بارعًا في التلاعب بمشاعر الآخرين بأسلوب أنيق في المناسبات الرسمية لكن هذا الأمير كان يملك جانبًا آخر يختلف عن ألقابه فعندما يكون مع المقربين منه، لم يكن راقيًا على الإطلاق.
في الحقيقة، كان يجيد الشتم أيضًا بل إنه لم يكن يمانع إن تبادل معاونه الشتم أمامه ولعل وصف “الأفعى” كان مناسبًا من هذه الناحية، لأن باطنه لم يكن كالظاهر.
أحد المعاونين التقط الورقة دون تردد، وبعد أن قرأها تنهد وقال “هممم”، ثم نقر بذراعه ورقةً أخرى لجاره عندها نقر الأمير الثاني بلسانه، إذ إن من كان يمد يده لاستلام الورقة كان جنرالاً متقاعدًا لا يزال يحظى بالاحترام.
“رغم أنني رميتها، لكن هل يجب عليك فعل الأمر نفسه؟ خذها بيديك الاثنتين على الأقل.”
انحنى المعاون احترامًا، لكنه رد بوجه متجهم:
“نعم، حاضر يا صاحب السمو لكننا قررنا أن نتعامل كالإخوة فيما بيننا.”
“هكذا فجأة؟ ولماذا؟”
“توافقنا في الطباع والميول.”
“انظروا إلى هؤلاء المجانين.”
عندما هزّ الأمير الثاني رأسه يأسًا، صمت المعاونون ففي الحقيقة، كانت حالته المزاجية أسوأ من المعتاد، وهذا أمر مفهوم ففي اجتماع اليوم، أبدى الملك دعمه للأمير الأول، ولو جزئيًّا.
“حسب السجلات السابقة ، فإن موسم الأمطار قريبًا في إديلين وهذا لا يصب صالحنا فإذا تم تحييد السحر الناري ، فهل يمكننا التقدم داخل أراضي إديلين ؟”
“علينا أن نحسم الأمر قبل ذلك جلالة الملك سّلموا لي كامل السلطة العسكرية التابعة لبيت فيتسمارك “
لم يُفوّض الملك كامل الصلاحيات للأمير الأول، لكنه منحه قيادة بعض الفرق الإضافية، مما زاد من ثقله وبالنسبة للأمير الثاني، الذي كانت قاعدته أضعف بكثير من شقيقه، كان ذلك بمثابة ضربة قاصمة.
وبينما كان الأمير الثاني ومعاونوه شاردين في التفكير بوجوه متجهمة، أعلن أحد الخدم من الخارج عن وصول زائر.
“مولاي، هناك من يلتمس مقابلتك.”
“ألسنا في خضم اجتماع؟”
“أعتذر، لكن يجب أن تلتقيه يا مولاي.”
فالزائر لم يكن إلا رسول آلفين، الذي طالما انتظره الأمير الثاني كان أليكس وما إن شرح الخادم التفاصيل، حتى بدت الدهشة على وجه الأمير الثاني قبل أن يومئ بالموافقة.
دخل أليكس وأدى انحناءة عسكرية صارمة، ثم قدّم الرسالة المختومة التي يحملها من القائد كان محتواها مختصرًا للغاية:
” كل ما أريده هو تحديد موقع ولي عهد إديلين حتى معلومات تقريبية كافية
إن كنت قد أجريت تحركات خلف الستار ، فلا بد أن يكون هناك جسر واحد يمكن استخدامه
سأدبّر الباقي بنفسي جسمه الاتصالات ستكون من خلال معاوني الموجود هناك “
“هممم.”
فهم الأمير الثاني نوايا آلفين إلى حد ما كان لديه بعض النبلاء في إديلين يمكن التواصل معهم سرًّا، لكنهم كانوا يتحفظون على التحرك في الوقت الراهن، إذ إن العائلة المالكة في إديلين اتخذت موقفًا صارمًا.
ولكن، إن وعدهم بشيء ما بعد الحرب، أو عند اعتلائه العرش، فربما تحديد الموقع التقريبي لن يكون بالأمر الصعب فلا أحد يستطيع الجزم كيف ستنتهي هذه الحرب وهناك دائمًا من يسعى لوضع قدم في كلا المعسكرين.
لكن السؤال هو: ما الفائدة من هذا الموقع؟ فالقوات التي يقودها آلفين كانت صغيرة، وعدد من يرافق ولي العهد لا بد أنه كبير كما أن الأمير الثاني لم يكن في وضع يسمح له بدعمهم عسكريًّا.
ولو كان لدى الأمير الأول فرصة للقضاء على وحدة ولي العهد أو أسره، لفعل ذلك منذ وقت طويل.
ظل الأمير الثاني يتأمل الرسالة للحظات، ثم تمتم وكأنّه تذكّر شيئًا، ولم يعبأ بوجود الغرباء.
“لكن هذا الوغد… كم هو متغطرس.”
لقد كان متغطرسًا حتى في صغره، والآن، بعد أن صار يمتلك الكفاءة، يتصرف وكأنه يعرف كل شيء عن الوضع هنا وكان الأمير الثاني يعلم جيدًا كم يمكن لتلك الثقة المزعجة أن تستفز الآخرين.
أما أليكس، فقد ارتجف حاجباه غضبًا عندما سمع الأمير الثاني يهين قائده غير أن الأمير لم يسخر منه، بل ناوله الرسالة وكأنه يقول: “اطّلع بنفسك.”
ألقى أليكس نظرة على الرسالة، ثم ارتسمت على وجهه ملامح الحرج فهو وإن كان يعرف فحواها تقريبًا، إلا أن النبرة التي كُتبت بها كانت خالية من أي احترام فالمتلقي كان أميرًا، وكان ينبغي ألا تُكتب الرسالة بهذا الشكل إنه أمر يمكن قبوله بينهم فقط، لا عندما يكون هو حاملها.
لاحظ الأمير الثاني تغيّر ملامح أليكس، فابتسم خفيفًا ثم سأل، وقد راوده الفضول فجأة:
“هل قال آلفين لماذا قرر التعاون فجأة؟”
حسب شبكة معلومات الأمير الثاني، فإن شقيقه الأكبر سبق أن أرسل قتلة إلى آلفين أثناء تدريبه في مؤسسة خاصة وقد تلقى الأمير الثاني “هدايا مزعجة” كهذه عدة مرات هو الآخر.
إذن، من الطبيعي ألا يرغب آلفين في رؤية الأمير الأول يعتلي العرش فهذه مشاعر إنسانية، وحتى الحيوانات قد تفكر بهذه الطريقة لكن، هل يمكن للعسكريين أن يتجاوزوا ذلك؟ أيمكنهم التضحية بمشاعرهم الشخصية من أجل قضية أكبر؟ ظل الأمير الثاني يتساءل عن هذا طوال الفترة التي لم ينضم فيها أخوه غير الشقيق إليه.
وكان أليكس قادرًا على تقديم بعض الإجابات فالقائد كان مشككًا منذ البداية في انتصار بيت فيتسمارك لم يسبق أن صرّح بذلك أمام جنوده، ولا أحد يعرف السبب بدقة.
كل ما كان يقوله بين الحين والآخر هو أن الحرب يجب أن تنتهي بأسرع ما يمكن، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لتقليل الخسائر وكان هذا رأي جميع من في الجبهة.
لكن، حين كان يُطرح عليه السؤال: من يجب أن ينهي الحرب، الأمير الأول أم الثاني؟ كان وجهه يكتسي بالهم والاضطراب وعندما بدأ الأمير الأول يهاجم جنوده هو أيضًا، بدا أن القائد رأى أنه قد آن الأوان لاتخاذ القرار.
أما أن الهدف الحقيقي كان القائد نفسه، فقد علم به أليكس مؤخرًا فقط كما علم أن هناك تسريبًا للمعلومات من الوحدة لصالح الأمير الأول.
ومع ذلك، لم يكن من اللائق كمعاون أن يفشي ما لم يأمره قائده بالإفصاح عنه فضلًا عن أن أحد الأسباب على الأرجح كان يتعلق بامرأة، وهو ما لا يُمكن قوله في هذا الموقف.
“…لا أعلم، يا صاحب السمو القائد ليس ممن يكشفون عما في قلوبهم.”
ضيّق الأمير الثاني عينيه قليلًا، وكأنه كان ينوي أن يستدرج المزيد من المعلومات، لكنه عدل عن ذلك فعلى أي حال، كان من المؤكد أن ما جلبه أليكس يُعدّ خبرًا جيدًا.
“همم، حسنًا، فهمت يمكنك الذهاب الآن.”
“القائد أمرني أن أعود بأي ردٍّ كان.”
“قلت لك، اذهب الآن أولاً.”
“…”
“…ألا تسمع؟ قلت اذهب.”
كان أليكس، الذي بدا مرتبكًا عندما اطلع على رسالة آلفين، واقفًا بصمت تام، كأنه تمثال لا يتحرك وما إن رأى الأمير الثاني هذا المشهد الغريب، حتى هزّ رأسه وكأنه يقول “حسنًا، سأدعك وشأنك”، ثم أومأ برأسه.
“أحدكم، خصص له غرفة.”
انحنى أليكس بخفة بعد أن أتم مهمته، وغادر الغرفة.
وحين خرج، التفت الأمير الثاني إلى الجنرال المتقاعد وسأله:
“هل جميع أفراد القوات الخاصة لا يعرفون معنى الخوف هكذا؟”
لكن رغم كلماته، لم تكن تعابير وجهه تدل على الانزعاج، بل كانت مصحوبة بابتسامة، وكأنه لم ينزعج فعلاً.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 30"