ليس هناك الكثير من السجلات عن السحرة.
وليس السبب فقط لأنهم أُبيدوا أو اختفوا.
بل لأن غالبيتهم كانوا كهنة من العامة.
والتاريخ لا يسجّل حياة أمثالهم بتفصيل.
وإن وُجد أحدٌ تزيّن صفحاته القليلة في كتب التاريخ،
فربما هو دوق فليير من فيتسمارك، قائد فيلق سحرة اللهب.
كلوي ليبيرتا، من خلف آخر خطوط الدفاع في إيدلين.
***
بعد انتقالهم إلى المسكن الجديد، أصبحت كلوي مشغولة للغاية فالقلعة، التي لم تطأها يد بشر منذ زمن، كانت متسخة، ولا تزال هي المسؤولة عن التنظيف في هذه القاعدة.
“أليكس.”
“نعم، سموّك.”
كانت عينا آلفين تتبعان كلوي وهي تقوم بالأعمال اليدوية.
وأثناء تثبيت نظره على يديها، أخرج شيئًا من جيبه، ثم سلّمه إلى أليكس، وكان رسالة.
“أوصلها إلى الأمير الثاني.”
“…أتأمرني بمغادرة هذا المكان؟”
هزّ آلفين رأسه نافيًا.
القاعدة في غاية الفوضى الآن، وربما كان هذا هو الوقت الأنسب لتفادي الأنظار،
لكن لم يكن لديهم بعدُ فهمٌ كافٍ لتحركات الحرس.
ولأنه لم يرغب في إثارة ضجة لا داعي لها، أجاب بإيجاز:
“ليس الآن، حين تستقر الأمور قليلاً.”
“هل قررت الانضمام إلى صف الأمير الثاني؟”
“إذًا، بعد كل ما رأيته سابقًا، كيف لي أن أقف مع الأمير الأول؟”
كان آلفين يملك فكرة عن سبب عدم قدرة ساحر اللهب على استخدام قوته كاملة.
هذه الحرب فقدت مشروعيتها من عدة جوانب والحرب التي تفتقر إلى المشروعية يصعب الانتصار فيها.
أما السبب الجوهري، فهو أن الساحر والأمير الأول قد استخدما قوتهما في الاتجاه الخاطئ.
أليكس عرض رأيًا بحذر:
“أليس من الأفضل أن تعود إلى وحدتك، سموّك؟”
“لا أستطيع.”
لأن هناك خائنًا في الوحدة.
وإن عاد الآن، فلن يتلقى سوى نيران اللهب فوق رأسه ورؤوس جنوده.
لكن من يكون؟ من ذلك الذي يحاول بيعي؟
“ويجب أن تسلّم الرسالة بنفسك، لا تدعها تمر عبر أيدي الآخرين وسأوافيك بتعليمات المتابعة في اليومين القادمين.”
ثم ربت على كتف أليكس، الذي استُبعد تمامًا من دائرة الشك.
***
كانت كلوي تتناول الغداء مع آلفين.
ولم يتسنَّ لهما تناول الطعام معًا منذ استقرّا هنا، فلا تزال هناك الكثير من الأمور التي يجب أن تتشاور بها مع مديري القاعدة.
ولهذا كانت تستخدم كل لحظة من وقتها بذكاء، باستثناء وقت النوم وبينما كانا أخيرًا يتناولان وجبة بمفردهما بعد طول غياب،
ظهر ضيف غير مدعو فجأة — أليكس.
“أيمكنني الجلوس معكما؟”
ضاقت عينا آلفين من الانزعاج، لكن كلوي أومأت برأسها مرحّبة به.
كانت الطاولة المستطيلة تحتل مساحة كبيرة من قاعة الطعام، ولم تكن هناك أماكن مخصصة لأحد.
فتحدث أليكس بتصنّع وهو يراقب تعبيرات قائده، ثم جلس سريعًا.
آلفين وكلوي واصلا مضغ الخبز بهدوء كما اعتادا.
لكن أليكس، الجندي بكل معنى الكلمة، أنهى طعامه بسرعة،
وبدأ ينظر إلى كلوي بين الحين والآخر.
لاحظت نظرته، فابتلعت لقمتها وسألته:
“هل هناك ما تود قوله…؟”
عندها هزّ رأسه بسرعة وكأنه كان ينتظر هذا السؤال.
“زوجة قائد، أرجو أن تعتني بسموّنا دائمًا!”
تفاجأت كلوي بشدة، وأخذت تتلفت حولها لتتحقق إن كان أحد قد سمع.
لم يبدو أن أحدًا سمع، لكنها نظرت إليه بعبوس كما لو أن الطعام توقف في حلقها.
لم تعرف من أين تبدأ في تصحيح عبارته، فما قاله كان خاطئًا من بدايته إلى نهايته، حتى علامة التعجب في نبرته كانت في غير محلها.
“أولاً، اخفض صوتك… أو حسنًا، لنقل اخفضه رجاءً ولماذا أكون أنا زوجة قائد…؟”
كان آلفين يضحك بخفّة وهو يشاهد الموقف، ولا يبدو عليه أي نية للتدخل.
لاحظ أليكس ذلك وفكر في نفسه:
(آه، يبدو أن ذلك يعجبه).
مناداة محبوبه الضابط بـ”زوجة القائد”
ليست عادة مقتصرة على جيش فيتسمارك.
هي كلمة تقال بلا قصد جدي، ولا يُفترض أخذها حرفيًا.
لكن كلوي لم تكن جندية، ولم تكن ترغب بقبول هذه التسمية الغريبة المزعجة.
“أنا ما زلت عزباء، وعلى ماذا بالضبط تحاول أن تضع حاجز الزواج؟…”
وقبل أن تُتم كلامها، أزال آلفين الابتسامة عن وجهه ونظر إليها بثبات.
كان نظره حادًّا إلى درجة جعلت كلوي تشعر بعدم الارتياح وسألت ببرود:
“لماذا تنظر إلي هكذا؟”
“إذًا، مع من بالضبط تنوين الزواج غيري؟”
لم يكن لدى كلوي ما ترد به مباشرة.
أليس من المبكر الحكم على شيء لم يحدث بعد؟
الكلمات ينبغي اختيارها بعناية.
فلو لم يكن للكلمات أثر على الأفكار والواقع، لما حاولنا تهذيبها أصلاً لكنها صمتت للحظة لأنها تذكرت حين سألها آلفين إن كانت تنوي التخلي عنه بعد أن تحصل على ما تريد.
وكان من المحرج حقًا مناقشة هذا أمام الآخرين لكن آلفين لم يبدُ مهتمًا كثيرًا بوجود أليكس
وقال ببرود:
“ألم أخبرك؟ إن أمسكنا بأيدينا، نكون في علاقة، وإن تبادلنا القُبل، نتزوج.”
فسألته كلوي وقد بدا عليها الذهول:
“هل أنت طفل؟”
“أجل حبيبك يبلغ من العمر سبع سنوات.”
“حقًا؟ حسنًا، الأطفال في هذه الأيام ناضجون أكثر من هذا حتى الأطفال يسخرون من مثل هذا الكلام.”
“إذًا فقد انحرفتِ تمامًا.”
أليكس شعر بالذنب لأنه تسبب بمشادة،
فنظر إليهما بقلق، ثم حمل طبقه وغادر بهدوء.
لكنه لم يشعر بأي ندم حقيقي.
فهو رأى كيف أن القائد، رغم تظاهره بالبرود،
كان يذوب حبًّا بمحبوبته.
وبعد أيام، عرفت كلوي سبب اقتحام أليكس المفاجئ لذلك الغداء
وإلقاء تلك العبارة الغريبة، فقد اختفى فجأة من القاعدة.
“أرجو أن تعتني بسموّنا دائمًا!”
لم تكن مجرد مزحة، بل كانت وداعًا حقيقيًا.
لقد كان صادقًا في قلقه على آلفين الذي سيبقى وحيدًا في القاعدة.
ولم يدرك أحد في البداية أن أليكس قد فرّ.
حتى الوقت الدقيق لخروجه لم يُعرف، فلم يُصَب أحد بأذى في هذه المرة وكانت الشهادات تشير إلى أنه غادر في الفجر، ورآه أحد جنود فيتسمارك يغادر معتقدًا أنه في نزهة أو لحاجةٍ ما.
كلوي اقترحت على ماثيو بحذر:
“أظن أنه من الأفضل تعديل وقت أو عدد دوريات الحراسة.”
كان وجه ماثيو معقدًا فهو يعترف بأن نظام الأمن لا يزال غير منظم، لكنه، وربما، شعر ببعض الطمأنينة الكاذبة، ولم يتوقع حدوث أمر كهذا بهذه السرعة.
رغم تعرضهم لإطلاق النار في الجبهة الثانية،لم يُعامل سكان القاعدة جنود فيتسمارك المتبقين بأي عدوانية، واتفقوا على صياغة تقارير لا تسيء إليهم عند رفعها إلى القيادات العليا.
دارت نقاشات حادة، لكن لا يزال بين الناس من يتحلى بالإنسانية، ويشعر بالشفقة تجاه أولئك الذين لم يعد لهم وطن في أي من البلدين وإن تصاعدت الحرب، وأُعلن أن الأسرى لم يعودوا ذوي قيمة، فسيُعدمون دون شك.
ماثيو شعر بالأسى، لكنه أيضًا شعر بخيانة مريرة.
ثم راوده شك غريب كلوي كانت الوحيدة التي تعلم أن أليكس هو مساعد آلفين، لكن بعض الناس سبق أن رأوا الرجلين معًا، حتى إن لم يكن ذلك كثيرًا.
ومنذ إنشاء قاعدة ويلينغتون الطبية، لم ينجح في الفرار إلا جنديين فقط: ديكرين وأليكس.
وإن كان بينهما رابط، فلا بد أن يكون آلفين.صحيح أن آلفين لم يكن الوحيد الذي تحدث مع ديكرين وأليكس، لكن شكوك ماثيو بدأت تتزايد.
نظر إلى كلوي بتمعّن، وكأنه يعلم ما تفكر به، لأنها، هي الأخرى، تذكرت شيئًا مشابهًا.
“أتراه قد تعرّض للتعذيب؟ يبدو كذلك، أليس كذلك؟”
“…….”
“آلفين، آسفة، لكن هل يمكنك مراقبته من وقت لآخر؟”
“ولِم أفعل؟”
“ألا يعرف جنود فيتسمارك معنى الرفقة؟”
عندها، أدركت كلوي الحقيقة. لم يكن كافيًا أن تأتي إلى القاعدة متشابكة الذراع مع زعيم العدو، بل إنها قدّمت له السمك على طبق من ذهب.
ومنذ ذلك الحين، بدأت تتكلم بكلام فارغ بدافع الغريزة، تحاول منع ماثيو من التفكير أكثر، وتحمي آلفين بأي ثمن.
“ذاك الذي يُدعى أليكس… مات قبل أيام فدفنته بنفسي.”
“…….”
“ربما أصيب بالطاعون؟ الطقس كان رطبًا مؤخرًا، أليس كذلك؟”
ماثيو كان يحمل مشاعر تفوق الزمالة تجاه كلوي، ومع ذلك، لم يستطع تقبل هذا الكلام، وحين بدت على وجهه علامات الاشمئزاز
قالت كلوي بصراحة:
“كنت أمزح بدا وجهك جديًا أكثر من اللازم.”
“…….”
“الرغبة في الفرار متى سنحت الفرصة… أليست مفهومة؟”
ماثيو همس:
“صحيح، ولكن…”
وأخذ يفكر، وهو يلمس ذقنه،ثم نطق أخيرًا باسم آلفين.
“كلوي، ذلك الرجل… آلفين… ألا يبدو مريبًا؟”
“…بمَ؟”
“لا أدري، لا يبدو كجندي عادي.”
لأول مرة، شعرت كلوي بالانقباض، فلم تستطع الدفاع عن آلفين على الفور.
(لمَ أصبح ذكيًا هكذا اليوم؟)
ظل ماثيو يهز رأسه كمن لا يستطيع طرد الشك.
“أمره مريب… لا يمكنني فهمه ولا أستطيع حتى تقدير مستواه الحقيقي.”
“…….”
“ألم تلحظي شيئًا؟ هل أنتِ بخير معه فعلًا؟”
وبعد صمت طويل، أومأت برأسها، لكن من الواضح أن تعبيرها لم يكن تعبير من هو بخير.
فهي لم تظن يومًا أن علاقتها بآلفين ستكون سهلة، لكن الواقع أصعب بكثير مما توقعت، ولا شك أن الأمور ستزداد سوءًا لاحقًا.
وما جعل الأمر أكثر تعقيدًا، هو قلبها الذي كبر كثيرًا، لدرجة أنها لم تعد قادرة على التخلي عنه، ورغبتها الغريزية في حمايته مهما كلف الأمر.
في تلك الليلة، طرق آلفين نافذة غرفة كلوي مرة أخرى.
وبينما كانت تنظر إليه بوجه متجهم، قال:
“ربما كان علي الدخول من الباب.”
“…….”
“لكن هذه الطريقة أسرع.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 29"