ظل المطر ينهمر بخفة حتى طلوع الصباح.
رغم أن قطراته أصبحت رقيقة، إلا أنه لم يبدُ أنه سيتوقف قريباً.
كان آلفين جالساً إلى جانب السرير، يحدّق في كلوي دون انقطاع.
هي التي كانت تبكي نحيباً في حضنه الليلة الماضية، كانت الآن تغطّ في نوم هادئ، ووجهها يبدو مرتاحاً.
مرّر آلفين يده على شعرها، فعبست كلوي بأنفها قليلاً، ثم فتحت عينيها.
“هل نمتِ جيداً؟”
كان صوته في تحيته الصباحية كما هو دوماً، هادئاً.
أومأت برأسها وجلست جزئياً في السرير.
ناولها آلفين كوباً كان قد أعده منذ وقت طويل، لكن بخار الشاي المتصاعد منه أعطى انطباعاً وكأنه قد صُبّ للتو.
“اشربي.”
من أين حصل على شيء ثمين كهذا في الصباح الباكر؟
رشفَت كلوي رشفة صغيرة ثم سألت مترددة:
“…هل استخدمت سلاح الوسامة مثلاً؟”
كانت تسأل بصدق، لكنه بدا وكأنه أخذ السؤال كمزحة، فاكتفى بالضحك بخفة.
هل يُعقل أنه من النوع الذي لا يدرك أنه وسيم؟ أو ربما سمع ذلك كثيراً حتى لم يعد يثير اهتمامه؟
سواء كان مدركاً لتساؤلها أم لا، أومأ برأسه مشجعاً إياها على الشرب حتى النهاية، مبتسماً بلطف لا متناهٍ.
“كيف حالك؟ لا يبدو أن وجهك شاحب.”
“أنا بخير.”
وكانت صادقة.
رغم أنها كانت تشعر قبل أيام فقط وكأن جسدها يغوص في الأرض،
ورغم أنها لم تكن في حال جيد البارحة، إلا أنها كانت اليوم نشيطة بشكل غريب، كأن كل ما شعرت به كان مجرد وهم مرضي.
ثم بدأت كلوي تشعر بشيء من الإحراج في هذا الصباح.
فحين استعادت وعيها، بدأت تدرك أنها كانت تتدلل عليه بلا خجل طوال ثلاثة أيام، متذرعةً بضعف جسدها ونفسها.
لماذا لا تستطيع إلا أن تظهر هذا الجانب أمامه؟
أخذت تدفئ أطراف أصابعها بكوب الشاي وسألت:
“ألم تفقد مشاعرك تجاهي بعد؟”
“لماذا أفقدها؟”
“البقاء بجانب شخص مريض… في الحقيقة، أمر مرهق.”
البقاء بجانب من يعاني جسدياً ليس أسهل من مراعاة من يعاني نفسياً.
بل إن الشخص المنهار نفسياً قد يُنهك جسده، والمريض جسدياً قد تبدأ نفسيته بالتدهور.
هي مسألة أشبه بسؤال: “من جاء أولاً، الدجاجة أم البيضة؟”
كلوي، التي لم تكن واثقة من حالتها الجسدية أو النفسية، نظرت إليه وقالت:
“لو أردت، يمكنني أن أمنحك الآن فرصة للانسحاب أنا قادرة على أن أتركك ترحل.”
حينها رفع آلفين أحد جانبي شفتيه وقال:
“جميلٌ ما أسمعه بعدما قدّمت الشاي وخدمتك من الصباح.
كل مرة تتحدثين بهذه الطريقة، سأقاطعك لثلاثة أيام وأضربك ضربة على الجبهة.”
وضغط بأظفر إصبعه الأوسط على إبهامه مهدداً، لكن كلوي هزّت رأسها وهي تضحك بمرح:
“آلفين، في إديلين لدينا نظام العقوبات المشددة.”
كان ذلك قانوناً رائعاً أُقرّ في النظام القضائي بإيدلين للحدّ من معدلات التكرار في الجرائم.
وأضافت شارحة له:
“يعني أن أول مرة ستكون ثلاثة أيام، لكن المرة الثانية ستصبح أربعة، وقد تصل إلى أسبوع.”
“يا للرعب.”
قالها آلفين بنبرة ساخرة، لا يظهر عليه الخوف إطلاقاً، ثم أخذ الكوب من يدها ووضعه على المكتب.
تقدّم إلى داخل السرير أكثر، ثم أمالها لتستلقي.
أخذ ينظر إليها بتمعّن وهو يفكر في نفسه:
يا أيتها الكاتبة العظيمة… لا يجب أن يتلف عقلك الثمين.
وإلا، فلن تتمكني من إلهام أطفال قارتنا بالأحلام والأمل.
ومن أجل المصلحة العامة، قرر آلفين ألا يكتفي بضربة على الجبهة.
حين فتحت كلوي فمها لتسأله عمّا يفعله، كانت عينا آلفين الزرقاوان تضحكان بخفة.
ثم انحنى فجأة وأدخل لسانه بين شفتيها.
تلوّت بجسدها تحت ثقله الذي أحاطها، لكنه ظل يبتسم، غير مبالٍ، بل وسألها وكأنه لا يفهم:
“ما الأمر؟ ألم تقولي إنك بخير؟”
“اضربني على الجبهة بدلًا من هذا.”
“لا أريد.”
ثم استأنف تقبيلها بشغف، وقال بعدها:
“ذلك النظام… نظام العقوبات المشددة، هل ينطبق عليكِ أيضاً؟
يعني، قبلة واحدة تصير ثلاث، ثم تصبح سبع لاحقاً؟”
“ماذا تقول الآن… ثم أنت، من فيتسمارك…”
“الجميل يجب أن نتشاركه.”
“أنت مجنون، حقاً.”
لم يُبدِ آلفين أي نية للإنكار، بل تابع التقبيل وهو يبتسم، فكانت كلوي، التي كانت تطرق على ظهره الصلب بخفة كي لا تؤذيه، قد علّقت ذراعيها حول عنقه فجأة، متشبثة به.
لم ينزل الاثنان إلى الطابق السفلي إلا قرب وقت الغداء، بعدما بقيا يتقلبان في السرير من دون إفطار.
وكان إعداد الطعام جارياً على قدم وساق من جهة.
ولما رأى أهل القاعدة كلوي، سارعوا إلى سؤالها عن حالها من هنا وهناك.
أومأت برأسها مطمئنة إياهم، لكن لم يمضِ وقت حتى بدأ جنود فيتسمارك يقتربون منها أيضاً.
ولم تهدأ تلك المبالغة في القلق إلا حين عبست كلوي قائلة:
“هل مات أحد؟ ألا يكفيكم؟”
لكن الحقيقة أن من بدا وكأنه يحتضر لم يكن كلوي، بل شخصٌ آخر.
رمقت كلوي ماثيو بنظرة جانبية، وكان ذلك الشاب الذي طالما بدا وكأنه آلة عضلات لا تعرف المرض، يبدو الآن محطماً.
“ما بك؟”
هز ماثيو رأسه كأن الأمر لا يستحق الذكر، رغم وجهه الشاحب.
لكن حين جلست بجانبه متربعة، تمتم كأنه يحدث نفسه:
“كان حلم البارحة سيئاً…”
“حقاً؟”
“أجل… كنت أمشي في طريق خالٍ تماماً، وفجأة… بدأت سوناتا الجحيم تعزف.”
“…….”
ارتجفت كلوي ونظرت إلى آلفين تسأله بعينيها بصمت: هل يمكن أنه سمع؟
لكن الجميع بدوا كمن نام نوماً عميقاً.
حتى آلفين، رغم أنه كان يهز رأسه نافياً، لم يستطع إخفاء الابتسامة التي ترتسم على شفتيه وهو يلامسهما بخفة.
“شعرت كأنني في تابوت أستمع إلى مرثيتي…
آه، كلوي، أعتقد أن عليك الرحيل بسرعة هذا الإحساس… سيء جداً…”
واصل ماثيو تمتماته وكأنه خرج من عقله، فيما انسحبت كلوي بهدوء، تشعر بالذنب لأنها عزفت على البيانو حتى استنزفت روحها في الليلة الماضية.
لكن، وعلى عكس ما تمنى ماثيو، قرر أفراد القاعدة البقاء قليلاً في هذا المبنى المهجور.
ورغم أن ماثيو كان أشبه بالمسؤول الأعلى هنا، إلا أنه لم يستطع تجاهل رغبة الآخرين بالتحرك بعد انقشاع الطقس.
وبعد انتهاء وجبة الغداء، انشغل الجميع بأعمالهم.
الأطباء بقيادة آنا تفقدوا حالة المرضى،
وفريق الطهي اجتمعوا يفكرون في كيفية تدبير الطعام القليل،
وفريق الاستطلاع انتهز خفة المطر وخرج لاسترجاع الخيام من خارج المعبد.
كلوي لم تُكلّف بأي من هذه المهام.
ورغم أنها قالت إنها بخير، بدا للجميع أنها ما زالت مريضة.
فلمّا لم يكن لها عمل، بدأت تتجول في المعبد برفقة آلفين.
“تُرى إلى متى كان هذا المعبد مأهولاً؟”
“من يدري. لكن من المؤكد أنه مبنى قديم جداً.”
لم يبدُ عليه اهتمام كبير، والحقيقة أن كلوي لم تكن مختلفة.
رغم وجود غرف صغيرة مخفية كأنها صناديق أسرار، لم يكن فيها شيء ذو قيمة عند فتحها.
وكانت الغرفة التي قضيا فيها الليلة الماضية هي الأغنى بين جميع الغرف.
لكن عندما انتهيا من استكشاف كامل المبنى، ونزلا حتى الطابق السفلي الثالث، اتسعت عينا كلوي بدهشة.
فقد كان هناك عدد هائل من الكتب.
بمستوى مكتبة… لا، بل هي مكتبة فعلاً.
“لكن، لماذا يخزنون الكتب في مكان رطب كهذا؟”
تألّمت كلوي في نفسها لهذا الإهمال، كيف يُخزن هذا الكنز من الكتب في مكان معرض للعفن؟
رغم أنها نفسها اعتادت الأكل والنوم في طابق شبه سفلي.
اقتربت من الرفوف تتفحص عناوين الكتب عن كثب.
ربما من خلال تواريخ النشر أو المواضيع، يمكنها أن تعرف متى توقف الناس عن ارتياد هذا المكان.
رغم أن نظرة واحدة كانت كافية لتأكيد أن كل شيء قديم.
اقترب آلفين منها وسحب كتاباً من الرف بلا مبالاة.
كان واضحاً أن حبه للكتب لا يضاهي حبه لحبيبته.
فأسرعت كلوي بالإمساك بذراعه لتوقيفه.
“لا تلمسه هكذا بلا حذر حالة الحفظ سيئة جداً.”
نظرت إلى آلفين، العدو الثالث في صفوف العدو، وكادت تشتمه بنظراتها لأنه كاد يدمّر إرثاً ثقافياً ثميناً.
لكنها كانت في الحقيقة ترغب هي أيضاً بتقليب الصفحات.
هزّ آلفين كتفيه وكأنه لا بأس بذلك.
كان يظن فقط أنها لا تستطيع الوصول إلى الكتاب بسبب قصر ذراعيها.
ظل الاثنان يتجولان داخل المكتبة الرطبة والموحشة لبعض الوقت.
رغم أن الجو داخلها كان أكثر كآبة وظلمة من أي جزء في المعبد،
كانت خطوات كلوي خفيفة.
فوجود آلفين بقربها كان كافياً ليزيل عنها أي خوف.
وكان آلفين يجد متعة خفية في رؤية عيني كلوي تلمعان وهي تبحر بين الكتب، على خلاف عادتها.
وما إن وصلا إلى ركن بعيد بين رفوف الكتب، حتى اكتشفا باباً حديدياً صغيراً.
رغم أنه كان ينبئ بالخطر، قالت كلوي: “هل نفتح؟”
فأومأ آلفين برأسه أن افعلي ما تشائين.
لكن الباب لم يُفتح بسهولة، سواء بسبب الصدأ أو لأنه كان مغلقاً من الداخل.
صدر عنه صوت مزعج لكنه لم يتحرك.
“كلوي، دعي الأمر وتعالي.”
“هم؟”
أشار آلفين بذقنه أن تتحرك جانباً.
وما إن ابتعدت خطوة، حتى ركل الباب بقوة من دون رحمة.
فانكمشت كلوي متفاجئة، ثم عبست.
لماذا يُصر على تحطيم تراث الآخرين هكذا؟
لكن الباب انفتح أخيراً بصرير حاد،
وحين أضاء آلفين المصباح بداخله، جمد كلاهما في مكانه.
على الجدران، كانت هناك جُمل لا حصر لها مكتوبة بكثافة.
كأن حشرات زحفت على الجدران وخلفت وراءها كلمات.
كانت الكتابات مليئة بالهوس، مشوشة، ومليئة بالاضطراب.
وكانت أكثرها بروزاً:
“سيكون هناك حكم إيديلينا!
لا تستخدموا تلك القوة بما يخالف مشيئة الإله!”
جملة بدت كصرخة يائسة.
راود كلوي شك مفزع أن تلك الكتابة الحمراء قد تكون بدم.
بل كانت واثقة من ذلك، لأن هناك بضع هياكل عظمية عند الزاوية، إلى جانب سلاسل حديدية.
ارتجف جسدها من تلك الرهبة، رعب لم تشعر به حتى في أرض المعركة.
فما كان من آلفين إلا أن استدار بها فوراً ليمنعها من رؤية المشهد.
دفنت وجهها في صدره، ثم رفعت عينيها إليه بحذر.
كان ينظر إلى الجدار بعينين حادتين، ثم تحركت شفتاه بصوت منخفض:
“لا تستخدموا تلك القوة بما يخالف مشيئة الإله…”
كانت هذه الجملة تجسيداً دقيقاً للشكوك التي راودت آلفين يوماً، ولا تزال ترافقه حتى الآن.
بدأت ملامحه تتغير شيئاً فشيئاً، وارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة، ممزوجة بالحيرة.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 27"