بعد تفكير طويل، رفعت شفتيها من جانب واحد وقالت:
“لدي ورشة عمل تحت الأرض تقع في مكان بعيد قليلاً عن مركز العاصمة هل تود زيارتها يوماً ما؟”
“فكرة جيدة. …لكن، لماذا تحت الأرض بالذات؟ ألم تقولي إنك ادخرتِ الكثير من المال؟”
ضحكت كلوي قائلة “فوف”، بصوت خافت.
“لأن هناك دائماً ليل أخبرتك من قبل أنني أركز أفضل في الليل لكنها ليست تحت الأرض بالكامل، بل نصفها فقط؟”
“……”
“لكن، آلفين، في الحقيقة، لا يزور ورشتي الكثير من الناس.”
لم يسبق أن قالت كلوي لأحد ألا يأتي ومع ذلك، فإن أصدقاءها الثلاثة الذين تعرفت عليهم حديثاً في العاصمة كانوا دائماً يتحاشون زيارتها ولم يكونوا الوحيدين حتى الماركيز، الذي كانت تعتبره بمثابة مُنقذ، كان إن اضطر للزيارة، يرسل خادماً لإبلاغها قبل يومين أو ثلاثة.
ولهذا لم يكن بإمكان كلوي ألا تدرك الأمر أن الناس يرونها شخصية متحفظة وصعبة المراس.
“لكن في إحدى الليالي، طرق أحدهم بابي.”
من جاء يخترق الظلام كانت صديقتها الرسامة، التي جاءت معها من الفرقة المسرحية إلى العاصمة سألتها إن كان بإمكانها قضاء ليلة واحدة لديها.
“أتدري ماذا قلت؟ قلت لها إنها يمكن أن تبقى حتى شهر إن أرادت. …لكن الحقيقة أن الأمور بدأت تسوء من هناك.”
أحد الأسباب التي جعلت زيارة ورشة كلوي نادرة هو أنها لم تكن تحب التعدي على مساحات الآخرين، وهذا بدوره يجعل الطرف الآخر يشعر، بشكل غير مباشر، بأن هناك حدوداً لا ينبغي تجاوزها.
وصديقتها القديمة كانت من نفس النوع على الأقل، لم تكن من الذين يطرقون أبواب الآخرين في منتصف الليل دون سبب ومع ذلك، كانت كلوي سعيدة جداً برؤيتها، فلم تشعر بأن في الأمر غرابة.
“في الحقيقة، كنت مستيقظة طوال ليلتين اضطررت إلى تعديل نص المسرحية التي كان من المقرر عرضها بعد عدة أيام.”
تغير موقع العرض بشكل مفاجئ، فخلال البروفات، أثار المخرج المساعد وأحد الممثلين المخضرمين مشكلة تتعلق بحركة الممثلين على المسرح.
رأت كلوي أن اعتراضهم منطقي، فاضطرت إلى حذف أحد المشاهد بالكامل لم يكن مشهداً محورياً، لكن بمجرد تعديل مشهد واحد، يصبح تعديل المشاهد التالية أمراً لا مفر منه وإن انتهى الأمر عند هذا الحد، فذلك حظ عظيم.
“كنت في وضع لا يسمح لي بإهدار حتى دقيقة واحدة، ومع ذلك كنت سعيدة لأن صديقتي جاءت لم نلتقِ منذ سنة تقريباً.”
“فهمت.”
“أتعلم، هناك علاقات، حتى وإن طال الفراق، لا تشعر معها بالغرابة عند اللقاء مجدداً هل لديك صديق كهذا؟”
فكّر آلفين بعمق، ثم ابتسم ابتسامة باهتة.
“لا أدري كنت أظن أن لدي، لكن الآن… لست متأكداً.”
رغم أن جوابه كان غامضاً، إلا أنه لم يُرِد أن يخوض في التفاصيل، أو ربما لم يشأ مقاطعة حديثها، فأومأ لها بأن تواصل.
تبادلت كلوي وصديقتها أطراف الحديث في ورشة العمل، ثم وقفتا من مكانهما صادف أن كان لديها زجاجة نبيذ أهداها لها الماركيز حملتا كأسيهما شبه الممتلئين وسارتا معاً في شوارع العاصمة الخالية فجراً قد تكونا حتى أطلقتا مزحة سخيفة من نوع: “ها نحن نصبح نساء العاصمة فعلاً.”
ثم توقفت خطاهما عند الجسر الذي يمر فوق نهر “تايلز” الذي يخترق العاصمة.
“في الحقيقة، تبادلنا أحاديث كثيرة تلك الليلة، لكن ليس هناك ما يستحق أن أرويه لك لأن صديقاتي، عندما يجتمعن، لا يتحدثن بأمور بنّاءة حديثنا يكون غالباً مجرد أفكار.”
قالت صديقتها إنها، أثناء رسمها، بدأت تسمع أصوات الناس أكثر مما يجب الجميع محق، هذا محق، وذاك محق، وآخر أيضاً فإذا كان الجميع محقاً، فلا أحد خاطئ لكنها قالت أيضاً إنه عندما آمنت بأن الجميع محق، شعرت بأنها اختفت هي نفسها.
تذكرت كلوي كيف أنها شعرت بتعاطف عميق، لكنها قالت وقتها شيئاً كهذا: “رغم ذلك، أريد أن أصدق أن الناس محقون أكثر مني.” أليس هذا ثقة وغروراً مفرطين؟
“رغم أنها كانت ليلة، كان الماء يتلألأ بجمال أتعلم، آلفين؟ عندما أرى شيئاً كهذا، أفكر ببساطة: ‘الماء يلمع، الماء يجري’، وانتهى لكن صديقتي، كونها رسامة، كانت رؤيتها مختلفة تماماً.”
“……”
“قالت إن الأمواج تبدو وكأن لها نمطاً، لكنها في الحقيقة بلا نمط لكنها إن راقبت ذلك اللا-نمط طويلاً، يصبح في حد ذاته نمطاً وإن نظرت إليه طويلاً، تشعر أن شيئاً ما غريب يحدث في داخلك.”
أومأت كلوي برأسها حينها، لكنها لم تعر الأمر أهمية كبيرة لأن صديقتها كانت تتحدث بهذه الطريقة منذ صغرها.
كانت كلوي، بصفتها كاتبة مسرحية، تتخيل مشاعر الأمهات وهن يراقبن خطوات أطفالهن الأولى أما صديقتها الرسامة، فتركز على تذبذب تلك الخطوات، على الحركات التي توشك أن تنقلب إلى سقوط كانت ترى العالم دوماً من خلال الضوء والظل، اللون والحركة وكان ذلك يتيح لكلوي أن ترى لمحة من عالم آخر من خلال عيني صديقتها.
“هل تدري كم أنا أنانية وغبية؟”
“……”
“بعدما استمعت لكلام صديقتي، فكرت في نفسي: ‘آه، لو صغت هذه الكلمات بشكل جيد وأدرجتها في النص المسرحي، ستكون مؤثرة.’”
“……”
“كل ما يتحرك يجعل الإنسان يجن.”
“……”
“كل ما استطعت التفكير فيه هو ذلك.”
بعد ذلك، لا تتذكر كلوي تفاصيل ما تبادلته من حديث مع صديقتها حملتا كؤوسهما الفارغة وعادتا إلى الورشة.
أعطت كلوي صديقتها سريرها، وعادت إلى العمل على تعديل النص رغم أنها كانت في سن القوة، إلا أن السهر لثلاث ليالٍ متواصلة كان مرهقاً سرعان ما جلست عند طرف السرير وغفت، وعندما فتحت عينيها مجدداً، كان المكان خالياً.
لم تشعر كلوي بالقلق فأعضاء الفرق المسرحية الجوالة معتادون على الرحيل أكثر من الإقامة فكرت ببساطة: “جاءت فجأة، ورحلت فجأة.” وكانت تعتقد أنها إن جاءت مرة أخرى دون إنذار، سترحب بها مجدداً.
“لكن في ذلك اليوم ظهراً، جاءتني قوات أمن العاصمة يبدو أن أحدهم رآنا معاً في الليلة السابقة.”
“……”
“قالوا إن صديقتي… ماتت.”
“……”
“في المكان نفسه الذي تحدثنا فيه ليلة البارحة.”
ابتسمت كلوي ابتسامة يائسة رغم حديثها الخافت ونظراتها الشاردة، لم تبكِ لكن آلفين كان قد تغيّر وجهه بألم زفر تنهيدة طويلة، ثم جذب كتفها إلى صدره.
“كلوي، هذا ليس خطأك.”
هزّت رأسها.
“لا يمكنني التوقف عن تذكر ما حدث تلك الليلة المشهد يعاد في رأسي مئات، آلاف المرات.”
“لا، لا تلومي نفسك ليس خطأك أبداً.”
لكنها لم تستطع أن تذهب إلى صديقتها على الفور ذلك اليوم.
فالعرض كان وشيكاً، وكان على الممثلين أن يحفظوا النص الجديد لو كان الأمر مشكلة يمكنها أن تتحملها وحدها، لربما اتخذت قراراً مختلفاً، لكن الكثيرين كانوا معتمدين على هذا العرض ولو أنها لم تُكمل ما بدأته، لكان مصير المسرحية الفشل حتى قبل أن تُعرض على الخشبة.
شدّت على أسنانها وأتمّت كتابة النص في ذلك الغرفة حتى النهاية لا تزال تتذكر وجوه حراس الأمن الذين نظروا إليها وكأنها مخيفة حين قالت، بوجه خالٍ من الانفعال إلى حدّ البرودة، إنها لن تذهب اليوم، بل غداً.
لكن، أنتم لا يمكن أن تعرفوا حقاً ما كان شعوري وقتها كنت أفكر أنني لم أعد أعرف من أجل ماذا جئت إلى هذا الحد.
ربما، لو أنني لم آتِ بأصدقائي إلى العاصمة، لكان بإمكانهم أن يتنقلوا في البلاد بحرية، ويرسموا ويغنّوا بمرح أكبر.
وعندما ذهبت إلى صديقتي متأخرة جداً، لم يكن هناك أحد قد زارها لم يكن لها أي قريب أو معرفة، وشخصها الوحيد الذي لجأت إليه قبل موتها كان “كلوي”.
“في الحقيقة، شعرت حينها، بغريزتي، أن شيئاً عظيماً قد حدث لي وكأنني توقعت أنني لن أستطيع كتابة عمل كما كنت أفعل من قبل.”
وهذا ما حدث فعلاً فكلما جلست أمام المكتب لتتخيل المسرح، كان صدرها يضيق وكأنها لا تستطيع التنفس، وجسدها كله يرتجف كما لو أنه يرتعد.
ولا تزال ترى وجه صديقتها في أحلامها حتى الآن.
لكن، ألم تكن تسير في هذا الطريق بعناد؟
حاولت كلوي، قدر ما استطاعت، ألا تترك الحبل يفلت من يدها.
فأخرجت واحدة تلو الأخرى من المسودات التي كانت قد كتبتها سابقاً لأنها كانت تدرك أنها ليست في الحالة الذهنية التي تسمح لها بإنتاج شيء جديد كلياً.
لكن العروض التي تم تقديمها بعد إجراء تعديلات سطحية على النصوص كانت كلها فاشلة.
ومع ذلك، لم تستطع أن تتخلى عن الأمر.
كانت تجلس أمام المكتب ثم تهرع إلى سطح الأرض، وتعود، وتكرر الأمر، بينما تكتب شيئاً فشيئاً نصاً جديداً.
ولكن، في النهاية، لم يُكتمل ذلك النص قط.
دفعت كلوي آلفين، الذي كان يحتضنها ويضع وجهه على كتفها.
ثم نظرت إليه مباشرة وقالت:
“في الحقيقة، سُرق النص قبل أن آتي إلى هنا.”
فتصلّب وجه آلفين، وتحول في لحظة إلى ملامح مرعبة.
“ذلك… هل تركتِ الأمر كما هو؟”
“……”
“هاه؟”
“……”
“كان يجب أن تعثري عليه بأي وسيلة! ماذا يفعل الماركيز ويلنغتون إذًا؟!”
هزّت كلوي رأسها.
وفي تلك اللحظة، انحدرت دموعها التي لم تذرفها حتى الآن على وجنتيها.
كانت تبتسم ابتسامة خافتة وهي تبكي.
“آلفين، في الحقيقة، لم أشعر أن النص يستحق الحزن عليه.”
“……”
“بل شعرت بالارتياح.”
“……”
“ولهذا السبب شعرت بخيبة أمل كبيرة من نفسي.”
ربما كنت أريد الهرب تماماً مثل تلك الفتاة الصغيرة التي قالت في قصر الماركيز إنها لم تعد تستطيع الاستمرار.
ربما كانت كلوي قد تقبّلت النهاية في ذلك الحين.
فقد فشلت في إدراك الإشارة التي أرسلتها إليها صديقتها، وهي تتوسل من أجل النجاة.
فكيف يمكنها أن تدرك قلوب الآخرين؟ هذا كان غروراً، ونقصاً في الأهلية.
لقد كتبت نصاً لا تريد استعادته.
فإن كانت لا تحب المسرحية، ولا تعتز بها، فكيف ستقنع الجمهور برؤيتها؟
لم يكن لديها الحق لفعل ذلك.
“آلفين.”
“……”
“كل ما يخرج من أطراف أصابعي هو مجرد قمامة.”
“……”
“أخاف من المسرح.”
نظرت كلوي إلى يدها، تلك التي كان آلفين يعاملها بحنان شديد، بنظرة مليئة بالحقد.
فأخذت يدها ترتعش شيئاً فشيئاً.
كانت تتمنى لو أن أحداً ما يُغلفها بحاجز شفاف بسيط.
يحميها من هذا الخوف، لكنه لا يمنعها من أن تكون صادقة أمام الناس.
لو تحقق ذلك، فحتى لو كانت خائفة ومليئة بالخزي، لما شعرت بالحاجة لتزييف ذاتها.
جذب آلفين يدها إلى يده، وأمسك بها بقوة.
لقد كان في السابق يشك بأن كلوي، التي لا علاقة لها بالحرب، قد جاءت إلى هنا لتموت.
لكنه أدرك الآن أنه كان مخطئاً تماماً.
“لقد جئتِ إلى هنا لتحيي، أليس كذلك؟”
في الحقيقة، هي لم تستطع التخلي عن الطريق بعد حتى الآن.
ولهذا، كانت بحاجة إلى شيء يجعلها تنسى.
هربت من القبو لتتحرر من الإحساس بالذنب، والضغط النفسي.
تمسكت بجسدها وروحها المنهكة، وسارت حتى وصلت إلى هذا المكان.
أدرك آلفين الآن من أين ينبع كمالها المتطرف.
نظر إلى كلوي وقال بنبرة مليئة بالإصرار:
“كلوي، ما تفعلينه ليس قمامة.”
“……”
“اسمعيني جيداً ما تصنعينه ليس قمامة أبداً.”
“……”
“لا تقولي هذا الكلام.”
لكن، حتى لو ظلت تلك الفكرة تلاحقك، حتى لو ظلت تؤذيك باستمرار،
فلتمنحيني كل ما في حياتك، كل ما يخرج من رأسك، من أطراف أصابعك.
سأُخرجها أنا إلى العالم، مهما كانت، سواء كانت “إيدلين”، أو “فيتسمارك”، أو “نانسي”.
في أي مكان تريديه، وبالطريقة التي تختارينها.
حتى لو تجاهل الجميع فكرك الصادق ومسرحك،
فأنا فقط سأظل في مقعد المشاهد حتى النهاية.
وإن كان الأمر كذلك،
فأنتِ ستكونين أول خشبة مسرح في حياتي،
وسأكون أنا آخر جمهور لك.
شدّ آلفين على يدها أكثر، وجذب جسدها النحيل إلى صدره.
كان جسدها يهتز من شدة محاولتها كتم بكائها.
لكنه احتضنها بقوة وقال لها:
“أحسنتِ أحسنتِ أنكِ خرجتِ إلى السطح.”
ولأول مرة، منذ وفاة صديقتها، استطاعت كلوي أن تبكي بصوت عالٍ من أعماق قلبها.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 26"