مدّ آلفين يده يربّت على شعرها وهي تبتسم ابتسامة مريرة لعلّ لمسته تلك أشعرتها بالراحة، إذ أغمضت عينيها للحظة وابتسمت ابتسامة كسولة.
أسندها إليه وذهب يعبث بأصابعها بإحساس بدا مختلفًا تمامًا عن السابق فابتسمت، وكأنها قد خمّنت السبب على نحو تقريبي، وهمست:
“قلت لك إنه ليس بالأمر الجلل.”
وبسبب الارتجافة التي سبّبتها ابتسامتها، اضطرب شعرها مرة أخرى فمشّطه آلفين بلطف وأرجعه خلف أذنها وسأل بهدوء:
“كلوي، كيف بدأتِ بذلك العمل؟”
رفعت جفنَيها لتكشف عن عينيها الزرقاوين الشفافتين، فأردف آلفين سريعًا:
“أقصد… العروض.”
“آه… وما معنى كيف؟ لم أكن أعرف غير هذا منذ البداية، فكان طبيعيًّا أن أسلك هذا الطريق.”
كان الأمر لا يحتاج إلى تساؤل، تمامًا كولادة آلفين في عائلة ملكية لقد وُلدت هي أيضًا على هذا النحو.
ومع ذلك، ارتسمت على وجهها ابتسامة ذات دلالات معقّدة بينما استحضرت شيئًا من ماضيها.
نظرت كلوي إلى آلفين بطرف عينها مترددة، هل تحكي له هذه القصة؟
إن السيطرة على انتباه الجمهور من بداية العرض حتى نهايته أمر بالغ الصعوبة وكذلك الحال مع إبقاء آذان الحضور مصغية طيلة عرض موسيقي يتجاوز النصف ساعة.
ومع ذلك، فإن الأمر قد يُصبح ممكنًا أحيانًا لأن الإنسان قادر على رسم بداية ووسط ونهاية بشكل مصطنع يمكنه التحكم في مقدار المعاناة والسعادة، وتحديد توقيتها في عالمه الخاص الذي يصنعه بنفسه، يكون الجميع أحرارًا.
لكن الحديث عن حياة شخص حقيقي أمر مختلف تمامًا لا يمكن ترتيبها كما يشاء، ولا ضمان أن تنتهي بنهاية سعيدة وببساطة، فإن معظم الحيوات الواقعية مملة.
ومع ذلك، إن وجدت من يصغي حتى النهاية لحكاية حياة غيره، فذلك لأنه إما يملك صبرًا استثنائيًّا، أو لأنه يكنّ للمتحدّث مشاعر خاصة.
فكّرت كلوي في الأمر: لكن لا يمكنني أن أُزيف حياتي كما لو أنني أكتب نصًا مسرحيًّا إن فعلت ذلك أمام آلفين، فسأبدو تافهة، أليس كذلك؟
لذا قررت أن تعتمد على مشاعره وتحدّثه بصدق.
“هل أخبرتك أن أمي كانت مغنّية؟”
“أجل.”
“كانت أمي من الغجر وأنا نشأت في فرقة مسرحية متنقلة لكن… لا أعلم متى بالضبط، بدأت أشعر أنني لا أستطيع أن أعيش هكذا إلى الأبد.”
أعضاء الفرقة لم يحظوا أبدًا بتقدير حقيقي لموهبتهم كلوي كانت تحب حياة الترحال، لكنها تألمت لرؤية مواهبهم المتألقة وأغانيهم تُستهلك كوسيلة لهو للسكارى.
وكان واضحًا منذ طفولتها أن زمن الفرقة المتنقلة، رغم بساطته وجماله، بدأ بالاندثار.
“بعد وفاة والديّ، قلت لأعضاء الفرقة إن علينا التوجّه إلى العاصمة ليس من أجل الاعتراف بنا، بل لأننا إن استمررنا بهذا الشكل فسنموت جوعًا.”
بالطبع، لم يُؤخذ بكلامها لم تستطع إقناع الكبار، فذهبت إلى العاصمة برفقة بعض أقرانها فقط.
ابتسمت كلوي بمرارة وهي تكمل:
“وقتها شعرت أنّ الكبار يفتقرون إلى الشجاعة على المسرح كانوا دائمًا رائعين وشامخين، لكنهم في الواقع كانوا يتردّدون كثيرًا فقلت في نفسي: لعل الإنسان يفقد جرأته عندما يكبر.”
“……”
“لكن الآن حين أفكر في الأمر، أعتقد أنهم كانوا يقلقون علينا، على ألا نتأذى.”
كانت العاصمة صادمة وقاسية.
لغة الغجر لم تكن تتوافق مع لغة عالم الفنون الأرستقراطي في العاصمة.
كلما ذهبت بنصوصها إلى جهة ما، رُفضت وأحيانًا كانت تُنتقد على أنها فجة أو غير راقية كان هذا أهون ففي معظم الأحيان، لم يُكلّف أحد نفسه عناء قراءتها أصلًا، فقط لأن شكلها وهيئتها لم ترُق لهم.
“لكن هناك شخصًا واحدًا منحني فرصة هو ماركيز ويلنغتون.”
فجأة، ارتسمت على وجه آلفين تعابير معقدة وقطّب جبينه.
كان يعرف جيدًا أن اسم القاعدة الطبية التي هم فيها الآن هو “قاعدة ويلنغتون”.
فسألها وقد خالجه الشك:
“وهذا الشخص أرسلك إلى هذا المكان؟ هل أصابه خلل في عقله؟”
ثم غمره شكّ عميق: من يُفترض به أن يصنع العروض، يُرسل إلى هنا؟ هل يتم استغلالها؟ هل أُرسلت لتكتب عن الحرب كي تُباع كتاباتها لاحقًا؟
رأت كلوي هذا الغضب في وجهه فأشارت بيديها ضاحكة، مؤكدة له أن مجيئها إلى الجبهة كان بإصرار منها، وأن الماركيز كان يعارض بشدة، تمامًا مثل أصدقائها.
لكن كلما ضحكت كلوي، ازداد آلفين غضبًا، فسارعت لتوضيح الصورة حتى استطاعت استكمال الحديث:
“في ذلك الوقت، كان الماركيز يرعى عشرات الفنانين الشباب كان يدعو شخصيات فنية بارزة ليروا أعمال أمثالنا ويقيّموها.
لكنني، فتاة قروية مثلي، لم يكن لي أن أندمج في هذا المجتمع بسهولة.”
“……”
“فماذا تعتقد أنني فعلت؟”
“……”
“جلست أمام قصر الماركيز لأيام كلما طردني الخدم، عدت مجددًا كنت يائسة جدًا وأردت فرصة بأي ثمن.”
ضحكت كلوي مستذكرة نفسها في تلك الأيام، كم كانت متهورة وعنيدة… لكنها كانت صغيرة.
حتى الماركيز نفسه بدا مصدومًا من إصرارها، فذات يوم، لم يصعد إلى عربته، بل وقف وقرأ نصّها من أوله إلى آخره.
قال لاحقًا إنه لم يُعجبه العمل كثيرًا وبالفعل، كان نصًّا سيئًا، حتى إنها تخجل من قراءته اليوم ومع ذلك، منحها الماركيز فرصة.
“لا بد أنني بدوت كفتاة مجنونة، أليس كذلك؟”
“ربما ظن أنك صادقة ونقيّة.”
حاول آلفين، كونه حبيبها، أن يلطّف من وقع كلامها.
فتردّدت كلوي بين أن تضحك أو تبكي، وارتسمت على وجهها تعابير غريبة.
لكن حتى بعد أن صارت جزءًا من تلك المجموعة، لم تتغير الأوضاع كثيرًا.
كان هناك كثير من الفنانين الشباب تحت رعاية الماركيز ، وجميعهم يتمتعون بموهبة لامعة.
في وسطهم، لم يلتفت أحد إلى كلوي.
الضيوف الكبار الذين دعاهم الماركيز لم يهتموا بأعمالها.
وهو أمر طبيعي، فالناس لا تتركون الجواهر ليهتموا بحجر عادي.
لكن هناك حقيقة طريفة…
“لقد مرّت سبع سنوات منذ ذلك الحين، ولم يبقَ أحد منهم هناك سواي لا أعرف أين ذهبوا أو ماذا يفعلون الآن.”
كان المركيز ناجحًا في كل مشاريعه واستثماراته، إلا في استثماره بالبشر.
كلوي كانت الإنجاز الوحيد المتبقي من مشروعه لدعم الفنانين ربما لهذا السبب، كان يعاملها بتميّز خاص.
هزّ آلفين رأسه وأضفى على الموقف جمالًا بكلماته:
“أكثرهم موهبة هو من صمد.”
لكنها ردّت بمهارة:
“بل أكثرهم عنادًا، والذي لا يعرف حدوده يقولون إن الجاهل هو الأكثر شجاعة، أليس كذلك؟”
“…لو لم تكوني حبيبتي، لكنت ضربتك على رأسك الآن.”
“اضربني وسأتجاهلك لثلاثة أيام.”
“ثلاثة أيام؟ هذا مقبول طالما لن ننفصل.”
رفع آلفين يده، فتراجعت هي برأسها إلى الخلف فجأة، لكنه ضحك وأمسك شفتها السفلى برفق، ثم تركها وقال:
“هذا العقاب مدته يوم نلتقي في مثل هذا الوقت غدًا.”
دفعت كلوي صدره لكنها لم تستطع أن تفرّ منه، فضمّها إليه من جديد قائلًا: “لا، لن تذهبي.”
وبعد جهد طويل للمقاومة، استسلمت للضحك، رغم أن عينيها، المشبعتين بذكريات الماضي، لم تكن تعكسان فرحًا خالصًا.
بل كان فيهما شيء من الندم.
“لا زلت أتذكر الكثيرين منهم، لكن كان هناك فتاة… كانت تكتب النصوص بشكل مذهل، لدرجة أنني كنت أغبطها بشدّة.”
“أفضل منك؟”
“طبعًا. …لكن أتعلم، كفّ عن مدحي بهذه الطريقة إن واصلت على هذا النحو، فلن أكمل كلامي.”
قالت كلوي إنها ليست من النوع الذي يتأرجح بين الفرح والحزن بسهولة، فهزّ آلفين رأسه وكأنه استسلم.
“كانت تقاربي في السن، لكن كان لديها موهبة لا يملك أحد إنكارهاحين يكون أحدهم موهوبًا جدًّا، لا يعود الغير يشعرون بالغيرة منه أصلًا، بل بالذهول.”
نجحت تلك الفتاة في تقديم عملها المسرحي قبل الجميع، فتهافت عليها المستثمرون والممثلون بفضل رعاية الماركيز.
“لكنها عادت إلى قصر الماركيز ذات يوم، بعد أن كانت قد قاربت على إنهاء النص، وهي تبكي قالت إنها لا تستطيع الاستمرار، وإنها تتعذّب.”
حاول الماركيز إقناعها بالبقاء، لكنه في النهاية خضع لرغبتها.
الفن يبدأ كعمل عقلي وينتهي كعمل جسدي.
فور أن يلتقط الفنان شرارة الإلهام، لا بد أن يتبعه وقتٌ وجهدٌ وصبر.
لكن الأساس هو العقل.
وحين ينهار عقل الفنان، فلا جدوى من إرغامه على الإبداع.
“هل تعرف ماذا كنت أفكر حينها، آلفين؟”
هزّ رأسه نافيًا، فابتسمت ابتسامة مشوبة بالمرارة:
“ظننت أنها حمقاء.”
“……”
“غبية.”
ربما شعرت بالأسى، وربما بالغضب لأن أصدقاءها كانوا يتضوّرون جوعًا وهم يحلمون بفرصة مماثلة.
لو صبرتِ قليلًا، فستحصلين على أضواء باهرة!
ما الذي يُخيفك؟
هل ستركلين هذه الفرصة التي لا يحظى بها الجميع؟
“لكن… بمرور الوقت، بدأت أفكّر بطريقة مختلفة.”
“……”
“لم يكن من العدل أن أظن أنها لم تكن جادّة بما يكفي فقط لأنها انسحبت.”
“……”
“ربما كانت أصدق منّي في مشاعرها ولهذا السبب بالتحديد، كانت الأمور أصعب عليها.”
كان لكلوي سببٌ محدد دفعها إلى تبنّي هذا الفكر الجديد.
ولم تخبر به أحدًا من قبل.
لكنها قررت أن تبوح به لآلفين.
هل أنت مستعد لتسمع؟
لطالما كنت أكتب أعمالي مراعيةً لمشاعر الجمهور.
كنت أضع مشاعري جانبًا لأجل مشاعرهم.
لا ينبغي أن يخنقهم العرض، ولا أن يكون مؤلمًا لهم.
لكنني لا أستطيع أن أمحو أو أغيّر الماضي كما يحلو لي.
فهل يجوز لي أن أحكيه؟
امتلأت عينا كلوي بالحزن.
“إن شبَّهنا الأمر بالموسيقى، فقد كان بمثابة انتقال نغمي.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 25"