الغرفة التي استولى عليها آلفين لم تكن كبيرة، لكنها كانت تحوي كل ما يلزم كان هناك سرير ومكتب، وحتى بيانو موسيقية.
وضع آلفين كلوي على السرير الذي فرش عليه بطانية، ثم خرج مجددًا وعندما عاد، كان يحمل كوب ماء في يده ناولها الكوب فوضعه في يدها.
“إنه دافئ.”
“غليته.”
فقد شعر أنه يجب أن تدفئ جسدها ولو بشيء كهذا لكنها نظرت إليه بدهشة هل يمكن للنار أن تشتعل في هذا المطر الغزير؟
“من أين؟”
“…أشعل رجال القاعدة نارًا داخل المبنى.”
أومأت برأسها وارتشفت القليل من الماء الدافئ وشعرت أنه يدفئ جسدها شيئًا فشيئًا كلما مرّ عبر المريء.
وأثناء مراقبته المستمرة لتغير ملامحها، لاحظ آلفين أن هناك دفاتر مبسوطة على المكتب ربما كانت النية تجفيف الأوراق التي ابتلت بالرطوبة لكنه لاحظ أيضًا أن هناك قلمًا عالقًا عند أذنها.
كانت كلوي تمسك الكوب بكلتا يديها وتشعر بإحساس مألوف في هذا المكان كانت الغرفة تشبه تمامًا مرسمها في العاصمة إديلين وبينما كان آلفين يتساءل في نفسه، سحبت هي القلم من عند أذنها.
(يا له من أمر شديد الغرابة.)
ما الجدوى من توثيق أمور كهذه بهذه الجدية، وهي لن ترى النور يومًا خارج العالم؟ بدا أحيانًا أنها لا تود فقط القيام بهذا العمل، بل وكأنها لا تستطيع التوقف عنه ولأكون صريحًا، بدا لآلفين أن هذا نوع من الوسواس القهري.
لكن، على الأقل، ليس هذا اليوم المناسب تنهد آلفين بعمق.
“كلوي.”
“نعم؟”
“لا أريد التدخل، لكن ألا تظنين أنه من الأفضل ألا تفعلي هذا اليوم؟”
عندها فقط أدركت كلوي ما كانت على وشك فعله كان وجه آلفين يبدو غاضبًا قليلًا من شدة قلقه وكأن به نوعًا من اللوم كانت تعرف جيدًا كم تعب في الاعتناء بها والتنقل معها شعرت كلوي بالإحراج الشديد وفركت عنقها.
“آه، آسفة إنها عادة أفعل ذلك كل يوم.”
“لست بحاجة للاعتذار.”
ثم قال: “تعالي”، وقادها إلى السرير ثم احتضنها بقوة وهي ملفوفة بالبطانية.
“هل ما زلت تشعرين بالبرد؟”
“لا أشعر بالدفء.”
“نامي جيدًا أشعر أنني رجل عديم الكفاءة لأني لم أستطع تأمين مكان أفضل لك هل ذلك الطبيب كان على صواب؟”
“حقًا، ما هذا الكلام.”
ابتسمت كلوي برضا وأغمضت عينيها واستمر آلفين في مداعبة شعرها حتى نامت، متمنيًا من أعماقه أن تنال قسطًا وافيًا من الراحة.
كان آلفين يحدق من النافذة التي ينزل المطر منها برفق شعر بالارتياح قليلًا لأن كلوي غفت بسهولة أكثر من المعتاد، لكنه ما لبث أن عقد حاجبيه بقلق.
“هَه…”
مدّ يده نحو جبينها تلقائيًا عند سماعه صوت أنين، لكنه لم يتمكن من معرفة شيء أراد أن يذهب لاستدعاء آنا، فبدأ يحرّكها قليلًا لكنه توقف عندما سمع صوتًا خافتًا.
“…لا…”
“كلوي.”
“…آسفة…”
“كلوي؟”
تردد قليلًا، ثم هز كتفها بلطف لم تكن نائمة بعمق على ما يبدو، أو ربما كانت شخصًا حساسًا بطبيعته، فقد فتحت عينيها بسرعة.
تنهد آلفين مجددًا فقد كانت عيناها مبللتين بالدموع.
كان يعلم جيدًا أنه يختلف عن عامة الناس لكنه لم يتوقع أن يقابل مخلوقًا هشًا ومرتجفًا إلى هذا الحد في أرض المعركة تُراه، ما الذي يؤلمها إلى هذا الحد؟
مرّر يده في شعرها وسألها:
“ما بكِ؟ هل ما زلتِ تتألمين؟”
“…لا.”
كانت كلوي تفتح وتغلق عينيها وكأنها تحاول أن تصحو من النوم، فانسابت دمعة من زاوية عينها.
سألها مجددًا بصوت أكثر لطفًا:
“إذًا، هل كنتِ تحلمين؟”
“…نعم.”
أراد أن يسألها أكثر، لكنها اكتفت بالتحديق في السقف لبعض الوقت ثم مسحت دموعها فجأة، وسعلت قليلاً لتعدل نبرة صوتها، واتخذت هيئة توحي وكأن شيئًا لم يحدث.
لكنها جلست بعد ذلك وأخذت نفسًا عميقًا ثم أدارت رأسها نحو المكتب كانت الدفاتر لا تزال مبسوطة كما كانت قبل نومها.
لكن الجو كان رطبًا، وكان من غير المؤكد متى ستصدر تلك الأوراق صوت تقليب ناعم كما يجب ثم نهضت من السرير وجلست أمام البيانو لم يكن آلفين قد انتبه إليها، لكنها كانت مغطاة بطبقة من الغبار.
في هذا الجو الصامت، وجد آلفين صعوبة في فتح حوار، ففرك رأسه وجلس بجانبها كانت لا تزال تحدق بلوحة المفاتيح بتركيز.
(نحن في الطابق العلوي، تُرى هل سيسمع من في الأسفل؟)
وكأنه أدرك ما كانت كلوي تفكر فيه، هز آلفين رأسه وقال:
“مع هذا المطر، لا أظن أن أحدًا سيسمع.”
“حقًا؟”
ابتسم آلفين بهدوء عندما سمع صوتها الذي افتقده، ثم وضع يده على لوحة المفاتيح ليثبت لها شيئًا بنفسه كانت هي تراقبه بشفاهٍ مضمومة تنتظر، ثم أطلقت ضحكة صافية ما إن بدأ العزف.
لقد كانت أغنية اختارها خصيصًا لجمهوره فالأغنية التي كان يعزفها كانت من ألحان فيتسمارك، وهي أغنية أطفال تعرفها هذه الكاتبة المسرحية جيدًا.
لكن سرعان ما أصبحت أكثر جدية فقد بدأ عزفه بإيقاع بسيط، ثم راح يضيف إليه تناغمات وغالبًا ما تكون ألحان الأطفال قصيرة ومتكررة، لكنه بدا وكأنه لن يسمح للملل بالتسلل، إذ كان يغير ويبدّل في اللحن مرارًا حتى نهاية المقطوعة.
وعندما انتهى، نظرت إليه كلوي بعينين غريبتين وأطلقت تنهيدة إعجاب.
“أنت… لا تجيد العزف، لكنك تعزف جيدًا؟”
لم يتمالك آلفين نفسه وانفجر ضاحكًا، ثم نقر وجنتها بطرف ظفره وسألها:
“هل هذا مديح أم سخرية؟”
“مديح، أيها الأحمق.”
في الأصل، كانت كلوي تحب هذا النوع من العزف غير المتقن والمليء بالثغرات وكان هذا نوعًا من المديح يفهمه كل من يعمل في المسرحيات الموسيقية هناك أولئك الذين لا يستخدمون أي مهارة فنية، ويغنون ببساطة وصدق، ومع ذلك يتمكنون من لمس القلوب وعندها يُقال: هو لا يُحسن الغناء، لكنه يُجيده.
“آلفين، من أين تعلمت شيئًا كهذا؟”
“يبدو أنك نسيتي، أنا من العائلة المالكة هذا المستوى من التعليم كان جزءًا من دروس التهذيب في طفولتي.”
هزّت كلوي رأسها موافقة، متذكرة أنه تلقى تعليمًا خاصًا عندما كان صغيرًا يبدو أن ما يتعلمه المرء في الطفولة يدوم طويلًا.
ذهب آلفين يحدق بها الآن، بنظرة خفية مليئة بالتوقع ولما تجاهلت الأمر عمدًا، قالها صراحة:
“إعزفي أنتِ أيضًا.”
ضحكت كلوي بصمت في بعض الحالات، قد تُعتبر هذه الطلبات وقحة فعلى سبيل المثال، جوليا التي تهمس دائمًا عند الكلام لتوفير طاقتها الصوتية، كانت تصرخ بصوت مدوٍّ في وجه السكارى عندما يطلبون منها الغناء في الحانات، لدرجة أن من حولها كان ينزف من أذنيه.
لكن كلوي لم تكن مؤدية بل ملحنة، وكان من طلب ذلك هو آلفين فلم يكن هناك سبب لرفضه.
تنهدت قليلًا وهي تفكر، ثم وضعت يديها على لوحة المفاتيح وكان في عيني آلفين الزرقاوين بريق توق لا يمكن إخفاؤه نظرت إليه كلوي بابتسامة ذات مغزى، وسألته:
“هل أنت مستعد؟”
“نعم، أنا مستعد.”
فذهبت تحرك أصابعها على الفور بدأت المقطوعة بلحنٍ حزين في مقام ري الصغير.
كان آلفين يراقبها بتركيز شديد، لكن ما إن بدأت حتى صُدم ذهبت تعزف بشراسة، تكاد تضرب لوحة المفاتيح، وكأنها شخصٌ تلبّسه الجنون كان عزفها يحمل جنونًا واضحًا، فحدّق بها مذهولًا، ثم وضع يده على جبهته وهو يهمس: “يا للمصيبة.”
لقد كان الصوت عاليًا لدرجة أنه قد يخترق ضوضاء المطر ويصل إلى الطابق السفلي كان يخشى أن ينهار هذا المعبد القديم تحت وقع تلك العاصفة من العزف.
لكن عندما تجاوزت مرحلة الجنون، بدأ العزف يصير أكثر رقة كانت أصابعها تتحرك بحرية تامة، وكأنها تسبح فوق المفاتيح والآن، فقط، فهم آلفين ما كانت تعنيه كلوي سابقًا كانت تلك يدًا ثمينة بحق، لا يليق بها أن تكون هنا.
ولأول مرة في حياته، أدرك آلفين معنى أن تكون الألحان حيّة شيء ما يتحرك لو أنك مزّقت هذا الفضاء الذي يملأه الصوت بسكين، لتفجّر منه الدم.
بدأت المقطوعة بلحنٍ مفجِع، ثم صار جليلًا، ثم انتقل بتناغم عاطفي، حتى ختمته بنهاية في غاية الجمال طوال هذا الوقت، لم يستطع آلفين قول أي كلمة.
لكنه حاول مرارًا أن يعبر عن إعجابه، وفشل في كل مرة وأخيرًا، عبّر بجملته الصادقة والبسيطة:
“أنت حقًا بارعة.”
ضحكت كلوي ضحكة خافتة وقالت:
“يبدو أنك لم تزر قاعة حفلات من قبل؟”
كان كلامها في الصميم، فأغلق فمه وشعر بالحرج لكنها لم تُبدِ اهتمامًا بذلك.
“مقارنة بالمحترفين، هذا الأداء يعتبر رديئًا جدًا ولا يوجد ملحن لا يجيد العزف على بضع آلات على هذا المستوى.”
في الحقيقة، كانت تعرف شخصًا واحدًا لا ينطبق عليه هذا الكلام في صالونات الفن، كان إذا خطرت له فكرة موسيقية، يعزف على لوحة المفاتيح بارتباك وتلعثم، دون أن يشعر بأي خجل من ذلك.
بعض الناس كانوا يتهامسون عليه، لكن كلوي كانت تعتقد أنه عبقري حقيقي أن تؤلف موسيقى لا تستطيع حتى عزفها بنفسك أن تتمكن من تخيل عالمٍ لم تطأه قدماك يومًا تلك هي شرارة الموهبة الحقيقية.
كانت تبتسم بهدوء، فحاول آلفين أن يقول شيئًا لطيفًا يعزز به الجو:
“لكن، أن تكتبي وتلحني وتغني… أنت متعددة المواهب حقًا.”
لكن كلوي صدّت المديح بخفة اعتادت عليها:
“أحيانًا عبارة ‘متعددة المواهب’ تعني شيئًا آخر.”
“ماذا تعني؟”
“أنني لا أجيد شيئًا بإتقان.”
قطب آلفين جبينه، محاولًا التعبير عن إعجابه بكل ما لديها.
“لم لا تتقبلين المديح كما هو؟ هذا ليس تواضعًا، بل نظرة تشاؤمية.”
“الركون إلى الذات يمنع التطور…”
وما إن رأى آلفين ملامحها تصبح جادة أكثر، حتى عقد حاجبيه تمامًا، فاعترفت بسرعة:
“في الحقيقة، أشعر بالإحراج.”
حتى وهي تبذل أقصى جهدها، كانت دائمًا تشعر بالخجل أمام الآخرين كم يجب أن تعطي أكثر لتتجاوز نفسها؟
وهنا، تذكرت ملحنًا كان يعرف كيف يقدّم نفسه دون تردد رمقت آلفين بطرف عينها وسألته:
“آلفين، هل تعرف اسم هذه المقطوعة التي عزفتها الآن؟”
هزّ رأسه نفيًا، فأخرجت شفتيها بتعبير محبط وقالت بهدوء:
“آخر عمل موسيقي تركه لوسيان ميكيليه كارلو دي بونابرت قبل وفاته.”
“…….”
“إلا إذا كان قد صدرت أعمال جديدة أثناء وجودي على الجبهة.”
ابتسمت ابتسامة حزينة، وعندها فقط، فهم آلفين لماذا عزفت تلك المقطوعة وما الذي كانت تحاول قوله وما الذي لا تستطيع قوله.
كان ذلك الملحن الذي كان يعيش فقط من خلال موسيقاه قد أصبح شخصًا تعرفه.
لكنها الآن، لن تستطيع حتى أن تحزن عليه كما ينبغي…
لأنه رفع سلاحه في وجه أصدقائها.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 24"