عند اقتراب المساء، شعرت كلوي بأن حالتها الجسدية ليست على ما يرام ربما كان السبب أنها ابتلت بالمطر، فقد بدأت ترتجف، وسرى البرد في أوصالها.
تحاملت كلوي على نفسها واستمرت في المشي لم تكن تريد أن تظهر عليها علامات التعب لمجرد هذا الأمر، كي لا تكون عبئاً على الآخرين لكن مع ذلك، بدأ بعض الأشخاص ينظرون إليها خلسة وكأنها خرجت للتو من قبر بدت عيناها فاقدتين للحياة.
لماذا يبدو هذا الإنسان هكذا مجدداً؟
هل ابتلت كثيراً بالمطر؟
أحد جنود فيتسمارك، واسمه ديوي، شعر بقلق خفي فبادر إلى مساعدتها وهو نفسه الذي يتولى العناية بـ “كوكو” هذه الأيام.
قال لها:
“كلوي، هل ترغبين بتناول هذا؟”
“ماذا؟”
كان يُريها بيضة وقد أصبح بشكل مفاجئ مسؤولاً عن الدجاجة كوكو، بعد قصة طويلة ومعقدة.
قبل مغادرتهم منشأة ويلنغتون الطبية، كانت كلوي تعتزم ترك الدجاجات لدى إحدى الوحدات القريبة فلم يكن أحد يعلم كم سيستغرق الوصول إلى القلعة القديمة، وكان الجميع يحاول تقليل أمتعته وحين بدأت تلاحظ نظرات الآخرين إليها، لم تعد تملك الجرأة للمطالبة بأخذ الدجاج معها.
لذا توجهت إلى القائد، الذي كانت قد أصبحت علاقتها به قوية خلال الفترة الماضية، وقالت له:
“أرجوك اعتنِ بكوكو إنها تحب الحبوب كثيراً.”
“…أوه، حسناً.”
“لا تفاجأ إن لم تأكل الحشائش، إنها فقط صعبة المراس في الطعام، لكنها تأكل بعض الأنواع.”
“……”
“ولا تنسَ أن تزودها بالبروتين بين الحين والآخر عن طريق الحشرات.”
وفي تلك اللحظة، اتخذ وجهها ملامح مأساوية، كما لو أنها تلقت للتو خبر هزيمة إديلين.
“لن أسامحكم إن أكلتموها.”
وفي لحظة، شعر الجميع وكأن لعنة قد أُلقيت عليهم لكن أحد ضباط إديلين ابتسم بفتور وقال:
“لا أظن أني أستطيع أن أعدك بذلك.”
فالحقيقة أن الإنسان، متى ما تخلى عن شيء، لم يعد له الحق في أن يُملي الشروط ومع ذلك، أخذت كلوي تفكر للحظة: كيف تُقنعهم أن كوكو دجاجة مفيدة وذات كفاءة؟
“إنها تضع ثلاث بيضات في اليوم، وأحياناً أربع إن كانت في حالة جيدة.”
بالطبع، هذا لم يحدث مطلقاً، لكن كلوي كانت تستخدم قدراتها في كتابة السيناريوهات لاختراع هذه الأرقام.
“وجودها يساعد الجنود على الاستقرار العاطفي صحيح أنها تصيح فجراً أحياناً، لكن يمكنكم اعتبار ذلك بمثابة بوق للاستيقاظ…”
الجنود المتقاعدون الواقفون بجانبها لم يستطيعوا تحمّل كذبها أمام الضابط، فقاموا بتكميم فمها.
ورغم أن القائد كان يبدو مهتماً بسماع المزيد، إلا أن من حوله أحسوا كما لو أن موسيقى من نمط جنائزي بدأت تعزف بجوار كلوي كانوا يرون أنه كان من الأفضل أن تأخذ دجاجاتها معها بدل أن تُحزنهم بهذا الشكل والحق أن من أحبوا الدجاج لم يكونوا أقل من كلوي، بل ربما أكثر وبما أنهم كانوا يتحملون مسؤولية المرضى أصلاً، فإن الاعتناء بثلاث دجاجات لم يكن ليزيد عليهم عبئاً كبيراً.
وبهذه الطريقة، انتقلت الدجاجات مع سكان القاعدة وانتهى بها المطاف في عهدة ديوي، الذي كان يجد صعوبة في أداء المهام الصعبة.
وفي صباح هذا اليوم، كسر ديوي بيضة كان قد خبّأها بعناية، ثم قدمها إلى كلوي مباشرة نحو فمها.
حاول ماثيو أن يوقفه مذعوراً:
“هي لا تتحمل طعم الزفارة، لا تستطيع أكل البيض النيء!”
لكن ما صدم ماثيو هو ما حدث بعد ذلك فقد امتصّت كلوي البيضة مباشرة دون حتى أن تنظفها هل رأيتم محتالاً كهذا من قبل؟ حين قدمتها لها أنا، كانت تنتقد كل شيء!
لكن عندما يمرض الإنسان، تصبح رغباته الشخصية أمراً ثانوياً ففي تلك اللحظات، يفكر المرء ببساطة: لا يهم، المهم أن أعيش.
كلوي كانت تأكل لتنجو، لا أكثر.
لاحظ سكان القاعدة أنها ليست بخير، فأجلسوها وأشعلوا ناراً بسرعة وألقى أحدهم عليها عدة بطانيات كان من الواضح أنها أصيبت بزكام أو حمى برد.
أما الجنود من فيتسمارك، فقد أعجبهم الأمر وبدأوا يتناوبون على إطعامها أشياء مختلفة لم تكن ملامح ألفين مريحة، لكنه لم يتدخل أدرك من ردود أفعالها أن حالتها ليست على ما يرام، فلم تكن قادرة حتى على الانكماش أو الدفاع عن نفسها مثل القنفذ.
لكن كلوي، التي كانت تتناول الطعام كفرخ صغير، شعرت بالحرج بعد فترة، فأشارت برأسها رافضة:
“كفى، اتركوها لكم أنتم.”
“لماذا؟ تناولي المزيد، تبدين ضعيفة.”
تجمع الجنود حولها رغبةً في تقديم شيء لها لم يكن أحد يطلب منها أن تعود لتكون صلبة وباردة كما كانت، لكن رؤيتها متعبة بهذا الشكل جعلت الجميع يشعر بالأسى نحوها.
أحد جنود فيتسمارك جلس بجانبها وأسند خده إلى ركبته، ثم نظر إليها مبتسماً وسألها:
“كلوي.”
“هم؟”
“أأنتِ أصغر إخوتك؟”
“لماذا؟ هل أبدو كذلك؟”
عندها، غرق الجندي الذي طرح السؤال في التفكير للحظة فقد كانوا يعلمون أن كلوي تنظر إلى الجنود الأصغر سناً بنظرة مزيج من الشفقة والحنان لا أحد يعرف كم عمرها بالضبط، لكنها كانت تتعامل معهم كما لو كانوا إخوة صغار متهورين.
ومع ذلك، فإن الجنود الذين لديهم أخوات أكبر سناً شعروا في قرارة أنفسهم أن مشاعرها لا تشبه تلك التي تحملها الأخت الكبرى عادة لأخيها الأصغر.
ولما لم يجب الجندي لفترة، رمقته كلوي بنظرة مستغربة ثم تمتمت وكأنها تجيب:
“أنا وحيدة بلا إخوة.”
“إذًا فأنتِ الصغرى.”
“أليس في ذلك أيضاً معنى أنني الكبرى؟”
“كنت أرغب في الحديث عن هذا منذ زمن… هل يعجبك الفوز بتعليقات من هذا النوع؟”
“أنا لا أفوز لأنني أرغب بذلك.”
هل هذا هو الشعور الذي ينتاب آلفين كلما خسر في لعبة حجر-ورقة-مقص ثم عاد ليكررها من جديد؟ تساءلت كلوي عمّا كان الجندي يرغب بقوله.
قال الجندي بعد لحظة:
“أنا لدي ثلاث أخوات، لكنهن لسن مثلك تماماً.”
فانتبه الجنود من فيتسماك وكذلك أولئك من إيدلين لكلامه وأرهفوا السمع فلا يوجد موضوع يثير اهتمام الجنود مثل الحديث عن الأخوان أو الأخوات الصغيرات، بشرط أن يكنّ “أخوات الآخرين”، أما أخواتهم فكانوا يعتبرونهن شياطين.
أبدت كلوي اهتماماً واضحاً وأومأت برأسها وكأنها تشجعه على المتابعة فواصل الجندي حديثه بنبرة كأنما يفضي بسرّ خطير:
“عادةً، لا تمتلك الأخوات أطرافاً.”
ضحك آلفين وكأنّه سمع كلاماً لا معنى له، لكن آخرين أبدوا تأييدهم بطريقة أو بأخرى كان الجندي يفضفض وكأن في قلبه غصة:
“مرة، صرخت أختي في منتصف الليل كما لو أنها مجنونة ولم تكن تلك المرة الأولى.”
“أمم.”
“فكرت: ‘ها هي تعود لسلوكها المعتاد، هل شربت الخمر مجددًا؟’ لكن، ماذا لو، مجرد احتمال، كان هناك لص فعلاً في المنزل؟ وإن قُتلت، فسيحزن والدانا بالتأكيد لذلك أمسكت بشيء ثقيل وركضت إلى غرفتها تعرفين ماذا قالت وهي مستلقية؟”
لم تكن الإجابة من كلوي، بل من أحد أفراد القاعدة:
“أحضر لي ماء.”
وكانت هناك مواقف مشابهة، مثل “أطفئ الشمعة وأنت خارج.” فأومأ الجندي برأسه وقد غمره التأثر بدا وكأن في إيدلين من مرّ بنفس التجربة في تلك اللحظة، نشأ تعاطف نادر عبر الحدود الوطنية فحين يوجد “عدو مشترك”، يتوحد الناس.
“على أية حال، لا تبدين كأخت كبرى بل أشبه بالصغرى وبعد سماع ما قلته، أظنك وحيدة فعلاً.”
لو كانت فعلاً تحمل عقلية الأخت الكبرى، لركلت الجنود في كل مرة يتذمرون فيها لم تكن كلوي تملك إخوة أو أخوات، لكنها استطاعت أن تفهم فحوى الكلام، فابتسمت.
وفي قرارة نفسها، شعرت ببعض الغيرة من الجندي فعلى الرغم من انتقاده لأخواته، كان في كلامه حب دفين يبدو أنه يشتاق إليهن ربما لهذا يُقال إن الإخوة والأخوات هم أفضل هدية يمكن أن يمنحها الوالدان لأطفالهما.
هل سأرى عائلتي مجددًا؟ غرق الناس في ذكرياتهم وحنينهم.
واستمروا يتحدثون بهدوء حتى وقت متأخر من الليل، وعندما بدت على وجه كلوي علامات إرهاق شديد، تولّى ماثيو ترتيب المكان للنوم.
اصطف الناس كما في الليلة السابقة، وتناوب عناصر القاعدة على الحراسة كعادتهم غير أن هذا الحديث القصير كان له أثر كبير في تهدئة التوتر بدا أن الأجواء بين الجانبين أصبحت أكثر هدوءًا من ذي قبل.
في الفجر، استيقظت آنا على صوت غير طبيعي نهضت بسرعة وأخذت تتلفت حولها لتجد المريضة بجانبها مباشرة كانت كلوي تتأوه وتتصبب عرقًا بارداً.
“يا إلهي، كلوي! ماذا يحدث هنا؟ كان عليكِ أن توقظيني! يا لكِ من فتاة… أنا الطبيبة هنا!”
لكن كلوي لم تستطع إيقاظها، لأنها كانت قد استعادت وعيها للتو بالكاد فتحت عينيها، وكانت حدقتاها الزرقاوان شاردتين وضعت آنا يدها على جبينها، ثم أسرعت نحو العربة التي تحوي الأدوية.
وبينما بدأت الضجة تعمّ المكان، تجمّع الناس حولها، يتلفتون بحيرة وهم لا يعرفون كيف يساعدون، مكتفين بانتظار آنا.
لكن الشخص الذي شقّ صفوفهم وتقدّم كان آلفين نظرت إليه كلوي بعينين طفوليتين وكأنها وجدت أخيرًا من تتكئ عليه.
“آلفين.”
“…هل تتئلمين ؟”
تجمعت الدموع في عينيها قليلاً.
“آلفين، أشعر بالبرد…”
وعندما مدت يدها نحوه، لم يتمالك نفسه من الأسى وسارع إلى احتضانها تنهد بعمق وهو يلامس جبهتها ليتحقق من حرارتها كانت تتصبب عرقاً، لكن حرارتها لم تكن مرتفعة بل كان جسدها أبرد من المعتاد.
خلال ذلك، عادت آنا وأطعمتها قطعة من الخبز بدا أن كلوي تختنق، لكنها اضطرت لابتلاع عشبة دوائية ذات طعم مرّ وما إن أنهت تناول الدواء، حتى مدّ آلفين يده إلى الخلف يبدو أن ماثيو، وقد لاحظ ما يرغب به، أسرع بإعطائه قنينة ماء.
شربت كلوي بنهم، وسال بعض الماء من جانب فمها فمسحه آلفين بيده وسأل آنا بنبرة باردة مهذبة تخفي قلقاً كبيراً:
“ما سبب حالتها هذه؟”
“إنها مجرد نزلة برد شديدة لقد مرّت بالكثير مؤخراً.”
ففي الأيام الماضية، توافد عدد كبير من المرضى على القاعدة، وعانوا نقصاً في الإمدادات ثم تعرضت القاعدة للهجوم، وفقدوا زملاءهم والآن، تحت المطر، لم يتحمل جسدها في الواقع، لم يكن من الغريب أن تمرض أو حتى تصاب بما هو أسوأ.
لكن وجه آلفين ظل متجهماً.
“هل تسبب نزلة برد كل هذا الألم؟”
نظرت آنا إلى الرجال الأقوياء المحيطين بها، ثم حدّقت في كلوي بصمت قبل أن تطلق ضحكة جافة.
رغم أن الناس كانوا يتحدثون بجدية حولها، بدت كلوي غير مدركة لما يجري تشبثت بعنق آلفين وكأن لا ملجأ لها سواه.
“آلفين.”
“نعم، كلوي، هل يؤلمك كثيرًا؟”
“…أشعر بالبرد… وبدوار.”
وضعت خدها على عنقه، فربت على ظهرها بعينين مليئتين بالأسى، ثم أبعدها قليلاً وتفقد وجهها، وأزاح شعرها بلطف.
كان الجميع يشعر بالقلق، لكن من كانوا يراقبون المشهد لم يستطيعوا إخفاء احمرار وجوههم ، لم يعتادوا رؤية كلوي بهذا الشكل، ملتصقة كطفلة وتدلل.
غير أن آلفين بدا وكأن الأمر طبيعي تمامًا على العكس، بدا كأنهما معتادان على هذا النوع من القرب الجسدي كانوا يعلمون أنهما على علاقة، لكن في تلك اللحظة، أدرك الجميع أن العلاقة بينهما كانت أعمق وأشد ارتباطًا مما كانوا يظنون.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 22"